توفي عبد الله بن عبد المطلب والد النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن حملت زوجته آمنة بنت وهب بالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم بشهرين. وتوفيت أمه آمنة وهو ابن ست سنوات، بمنطقة الأبواء بين مكة والمدينة، وكانت قدمتْ به إلى أخواله من بني عدي بن النجار، فماتت وهي راجعة إلى مكة. وفي سن الست سنوات، كان هذا الطفل المبارك قد فَقَد والديه الاثنين.
إننا عندما نتأمل حياة الأب “عبد الله”، نستشعر أن رسالته الوحيدة في هذه الحياة كانت مجرد تسليم هذه الثمرة الطاهرة إلى يد الحياة. وبعد أن أنقذه والده عبد المطلب من الذبح بأعجوبة، مات بعد سنوات قليلة من فدائه وهو في ريعان شبابه لم يكمل العشرين عامًا. وبعد أن أعادت “حليمة السعدية” ابنه اليتيم إلى أمه آمنة، بقي معها إلى أن بلغ الست سنوات، ثم توفيتْ الأم أيضًا.
وقد قيل الكثير في فضل اليُتم النبوي؛ فضلاً عما يتعلق باعتماد النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه، لينشأ الأصلب عودًا والأقوى شكيمة، والأعظم شعورًا بالمسؤولية. فقد استفاد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من يُتمه وليس كل اليتم شر. وأثمرت مراحل اليُتم المركب، التي مرَّ بها النبي صلى الله عليه وسلم، العديد من الفرص التي خدمت الرسالة والدعوة.
اليُتم من علامات نبوته
يُتم الرسول صلى الله عليه وسلم ليس مصادفة، بل كان من علامات نبوته. فقد عرف الراهب “بحيرى” من كتب الأولين، أنه يشترط أن يكون يتيمًا. فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة سنة، خرج به أبو طالب تاجرًا إلى الشام حتى وصل إلى منطقة بُصرى، وكان في هذا البلد راهب عُرِف بـ”بحيرى”، له مع النبي صلى الله عليه وسلم موقف روته كتب السيرة والسنة النبوية، ظهر من خلاله علمه بعلامات وصفات نبيِّ آخر الزمان وهو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، التي منها أنه سيكون يتيمًا.. فلما قال له أبو طالب بأنه والده -كناية عن أنه بمقام والده- قال له الراهب إن هذا الغلام ينبغي ألا يكون له أب. وبالتالي يمكن بشيء من التأمل والتفكير، اكتشاف العديد من الحكم الربانية من حتمية اليُتم النبوي.
النشأة على القوة والتحمل منذ الصغر
كان الأصل في اليتم النبوي أن يهيأ للمهمة الكبرى؛ هي أن يكون خاتم الأنبياء والمرسلين. لا بد أن يكون لليتيم حال من تحمل المسؤولية، فقد دفع “اليتم المبكر” سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إلى الاعتماد على نفسه فنشأ صلبَ العود قوي الشكيمة، وأكثر تحملاً للمسؤولية، ليكون مؤهلاً لتحمّل مسؤولية الدعوة لجميع البشر فيما بعد. وقد عاش النبي عليه الصلاة والسلام حياة الفقر؛ ورأينا اشتغاله صلى الله عليه وسلم برعي الأغنام ثم التجارة، قال صلى الله عليه وسلم: “ما بعث الله نبيًّا إلا رعى الغنم”، فقال أصحابه رضي الله عنهم: وأنت؟ فقال: “نعم، كنت أرعاها على قراريطَ لأهل مكة” (رواه البخاري)، وذلك جعله يكتسب عدّة صفات لا يتحصّل عليها لو لم يعش يتيمًا، كسعة الصدر، واهتمامه وعنايته برعيته وحمايتهم. ومن جهة أخرى تسبب اليُتم في إبعاد النبي صلى الله عليه وسلم عن الميل إلى مجد الجاه والمال أو التأثر بهما، فيلتبس على الناس النبوة وجاه الدنيا. فقد نشأ يتيمًا وتولّاه خالقه بالعناية والرعاية وحده.
(أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى)
وهناك مفهوم آخر عميق حول إرادة الله اليتم لحبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهو أننا لن نفهم مفهوم الربوبية الحق حتى نفهم مفهوم الأبوة، كأن يقول الله سبحانه وتعالى للإنسان عندما يكبر: عندما كنتَ صغيرًا ضعيفًا عاجزًا، هيأتُ وأرسلتُ لك من رعاك وأطعمك وكساك.. وفي كتاب الله تعالى ما يثبت يُتم النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى﴾ (الضحى:6)؛ أي وجدك صغيرًا قد مات عنك أبوك، فجعل لك مأوى، حيث عطف عليك جدُّك عبد المطلب، ثم عمك أبو طالب. وعندما تكبُر هل تعتقد أني أنساك؟ هذه القيمة حساسة ومؤثرة جدًّا في علاقة الإنسان بربه. أراد الله صلى الله عليه وسلم أن يبعد وجود الأب والأم عن طفولة النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه أراد أن يرسل للنبي رسالة مفادها أن الله وحده هو سنده وداعمه فعلاً، وأنه هو الأقرب له من أي مخلوق. والله يغار على قلب عبده المؤمن أن يعظم فيه أحدًا سواه. وفي السياق ذاته، سمح اليُتم للنبي صلى الله عليه وسلم بمزيد من الخلوات ومزيد من جلسات التأمل والتفكر والنضوج الروحي، الذي هيأ سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم لإدراك كل أنوار الرعاية ومعاني الحراسة الرهيفة، التي جاءت في ثنايا اليُتم، ولم يتذوقها فقط بل عاش بها ومعها ولها. ولذلك وصل إلى مرحلة التمكين في الأرض مبكرًا، لأن مدده كان من الله سبحانه وتعالى منذ البداية.
قدوة لغيره من الأيتام
يحمل اليُتم النبوي، رسالة لكل الأيتام والمستضعفين، هي أن الله رفيق من لا أحد له، وسند من لا سند له، وصاحب من لا صاحب، له وأنس من لا أنس له.. شريطة أن يؤمن هذا اليتيم بكل ذلك حقيقة، ويمتلئ قلبه بذلك اليقين، وكلما استمسك بربه ووضع فيه أمله وثقته من دون الناس، وكلما كانت علاقته قوية بخالقه سبحانه وتعالى جاءه التوفيق والنجاح، حتى يتحير فيه أصحاب القوة والنفوذ. والتاريخ مليء بقصص بكثير من العظماء والأنبياء كانوا بلا أب والمسيح عليه السلام أكبر مثال على ذلك. وعندما يتعلم اليتيم السيرة النبوية، يشعر أن الله تعالى اختار له ما اختاره لنبيّه، مما يزيد صبره وتشبُّهه بنبيّه صلى الله عليه وسلم لقول الله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ) (الأحزاب:٢١). إن النقص يهيء المرء للكمال، وإن الضعف يهيئه للقوة، وإن وجود الظروف الصعبة والتحديات، هي في الغالب عبارة عن مصنع لإخراج الكثير من العظمة والجمال والقوة.
(وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي)
وفي حكمة الوفاة المبكرة لوالدين شابين معنىً رباني آخر، أراد الله أن يُبعد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عن التأثر بأي أفكار جاهلية، أو تنشئة على قيم وأفكار تنغرس لا إراديًّا في الطفل. فقد رعاه عمه وجده وكانا على عقيدة والديه، ولكن رعاية الجد والعم كانت رعاية “الأب المغذي” وليس رعاية “الأب المُربي”. لقد أراد الله أن يتولى تربيته كما تقدم مع موسى عليه السلام الذي تولاه ربه بالرعاية وهو الذي نشأ في قصر الفرعون، ولكن فرعون هنا كان بمثابة “الأب المُغذي” أيضًا.
يقول الشيخ محمد الصادق عرجون: “لك الله يا سيدي يا رسول الله، خرجت في رفقة أمك الحبيبة شوقًا إلى زيارة بلد ضمَّ جسد أبيك الذي لم يشهد إشراق طلعتك، ولم تشهد شخصَه في حياته، وكان قدَرُ الله تعالى الحكيم رصدًا لوالدتك في طريق عودتها بك إلى بلدك الحرام وجدّك الشيخ العظيم، فجمع لك ربك يُتم الأبوين ليستخلصك بالتربية، ويصطنعك بالتأديب، حتى تكون نشأتك ربانية وتأديبك إلهيًّا”.
نقاء مصدر التربية والتوجيه
كان من فوائد اليُتم النبوي إبعاد الشك والتُّهم في أن هذا الدين كان من توجيه وإرشاد وتربية أبيه وجدّه له؛ خاصة وأن جدّه عبد المطلب كان من كبار قريش وأسيادهم. فكان اليُتم وصناعة الله تعالى لنبيّه وتربيته له، ضمانًا لنقاء مصدر التربية والتوجيه. ومن ذلك بُعده عن عبادة الأصنام والمحرمات التي كانت تحصُل في مُجتمعه، وكان يُشتهر عنه الصفات الحميدة التي لم تكن فيمن حوله ومن تكفلوا برعايته، فقال تعالى مُتفضّلاً على نبيّه الكريم: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى) (الضحى:٦-٨).
(وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي)
كان اليُتم سببًا في تحبيب الناس إليه صلى الله عليه وسلم، فقد زرع اليُتم في نفسه قيمة المحبة لمن يراهم يحنون عليه ويكرمونه، وهو فتى يتيمًا بعيدًا عن أجواء الكراهية والحسد، ولا شك أنه في قابل أيامه أدرك عناية الله به، حيث كان يجمع له قلوب الخلق على غير مصلحة يبغونها منه.
وقد ظهرت قيمة التماسك الاجتماعي في المجتمع القبلي منذ تعرُّض النبي صلى الله عليه وسلم لليُتم، ثم تأكد ذلك بدخول النبي صلى الله عليه وسلم حالة اليُتم المركَّب، وما كان من كفالة ورعاية له في مهده وطفولته. في ترتيب شؤون رضاعة وكفالة النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاة والديه، ما يدل على وجود لمسات إدارية، تدل على أن لدى القرشيين من السياسة والحكمة وحُسن تنظيم شؤونهم الشيء الكثير. وكل هذا تأكيد لحراسة الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم منذ نعومة أظفاره.
قوة الضعف
كل الأشياء الصغيرة مُحببة حتى صغار الأسود والنمور تبدو وديعة كالقطط. وهذا من رحمة الله بالضعفاء، حيث جعل سلاح الضعيف جماله ووداعته، وهو سلاح كاف إلى حد كبير لردع قساة القلوب عن إيذائه. ولعل جمال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في طفولته، كان من أعظم أسباب حمايته؛ ليت لنا من الخيال ما يجعلنا نتصور صباحة وسماحة وجه يتيم بني هاشم، وصفاءً وعذوبةً ابتسامته. ولهذا، كان أهل الخير يتعلقون به وأهل الشر يهابونه، وقد صحبتْه تلك النعمة طوال الحياة، ونمت حتى صار تعلق الناس به جلالاً ورهبة يمازجهما التقدير والحب، فما أعذب نظراته طفلاً وأقواها رجلاً وأعمقها كهلاً.
استكمال الرحمة في قلبه الشريف
الإنسان المترف الذي يغرق في ملذات الدنيا ونعيمها، يقسو قلبه فلا يشعر بالآخرين. أما الإنسان الذي ذاق معنى اليتم في صغره وذاق كل ألوان الأسى، فهذا أدعى لأن يكون أرحم الناس بالناس وهو أعرف الناس. وما من مظهر من مظاهر الحزن إلا وذاقه صلى الله عليه وسلم من صغره إلى وفاته، فمعاني الأسى ودروس الألم جُبل عليها صلى الله عليه وسلم جبلاً.
(*) طبيبة متخصصة في علم الميكروبيولوجيا الطبية والمناعة / مصر.