آيات الآفاق والأنفس مشترك إنساني

تكمن أهمية هذا البحث التأصيلي في إبراز فوائد وثمار البحث والتفكر في آيات الآفاق والأنفس، والتي تعرف حديثًا بالإعجاز العلمي في القرآن والسنة. وهي تعتبر مشتركًا إنسانيًّا يمكن أن يكون مجالاً للحوار والتعاون بين المسلمين وغيرهم، ومن جانب آخر، منهجًا دعويًّا يستخدمه العلماء والدعاة في دعوتهم إلى الله بالحكمة والجدال بالتي هي أحسن.

إن الحقائق العلمية بصفة عامة، التي وردت أيضًا في آيات الآفاق والأنفس، تعتبر مشتــركًا إنسانيًّا من جهتين: الأولى من حيث النشأة؛ فقد تعاون العلمـاء -بتنوع أجناسهم وأديانهم وثقافاتهم- عبر مئات السنين، حتى توصلوا إلى تلك الحقائق العلمية بالتفكر والبحث والتجارب. والثانية أن مخرجات هذه الحقائق العلمية يستفيد منها الناس عبر الأزمنة بتنوع أجناسهم وأديانهم وثقافاتهم، وليست حكرًا على أحد.

ولا شك فإن القرآن العظيم والسنة النبوية الصحيحة يؤكدان على هذا الـنهج العلمي ويدعوان إليه، وبخاصة من خلال لفت الأنظار إلى أهمية التفكر في خلق الإنسان وخلق الأكوان. فقد أشار القرآن الكريم إلى “آيات الآفاق والأنفس” في قوله تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) (فصلت:53).

إن من واجب العلماء والدعاة، أن يقوموا بتوظيف آيات الآفاق والأنفس في الدعوة إلى الله، لتحقيق أهداف معينة، من أهمها:

1- ليزداد الذين آمنوا إيمانًا على إيمانهم.

2- إقامة الحجة على المخالفين، وحتى يتبين لهم أن الإسلام هو الدين الحق.

3- إظهار إمكانية الاستفادة من الإشارات العلمية التي وردت في القرآن والسنة، لتقديم العديد من الحلول لمشاكل البشرية في العصر الحديث، في مجال العلوم الكونية، وكذلك العلوم الإنسانية والاجتماعية.

مفهوم الإعجاز العلمي

أشار القرآن الكريم إلى “آيات الآفاق والأنفس” في قوله تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) (فصلت:53)، وفي العصر الحديث يتم استخدام مصطلح “الإعجاز العلمي” للتعبير عما ورد في القرآن الكريم تحت مسمى “آيات الآفاق والأنفس”.

ويمكن أن نعرف الإعجاز العلمي في القرآن والسنة أنه إنباء القرآن الكريم (أو السنة النبوية الصحيحة) بحقيقة علمية، ما كان لبشر وقت نزول القرآن (أو رواية الحديث النبوي) أن يعرف تلك الحقيقة، ثم جاء العلم الحديث ليكتشف ويظهر تلك الحقيقة العلمية، ليشهد بصدق رسالة المصطفى صلى الله عليه وسلم.

من التعريف السابق يمكن أن نخرج بثلاثة ضوابط أساسية، حتى يمكن أن نؤكد على وجود إعجاز علمي في آية قرآنية أو حديث نبوي صحيح، وهذه الضوابط هي:

1- لا بد من وجود نص معجز (أي آية قرآنية أو حديث نبوي صحيح)، فيخرج بذلك من هذا التعريف أقوال العلماء والمفسرين والفقهاء، بمعنى أن كلمة إعجاز، لا يوصف بها النص المعجز فقط، ولا يوصف بها أقوال البشر مهما بلغوا من علم.

2- لا بد من وجود حقيقة علمية ذكرت في النص المعجز، فليس كل آية قرآنية أو حديث نبوي يحتوي على إشارة علمية.

3- اكتشاف العلم الحديث لتلك الحقيقة واتفاق العلماء عليها، فيخرج بذلك من هذا التعريف النظريات والفرضيات، ففي دراسات وأبحاث الإعجاز العلمي لا نتعامل مطلقًا مع النظريات العلمية، التي يمكن أن تتغير أو تتبدل، ولكن نتعامل مع الحقائق العلمية التي أصبحت من الثوابت المؤكدة عند أهل كل علم وتخصص.

ولقد عبر القرآن الكريم عن “الحقيقة العلمية” بمصطلح “السنن” التي لا تتبدل ولا تتحول، مصداقًا لقوله تعالى: (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلاً) (فاطر:43).

فعلى سبيل المثال، فإن الحركة الدائبة للأجرام السماوية في أفلاكها، أصبحت بمثابة حقيقة علمية مشاهدة ويقينية عند علماء الكون، وهو ما سبق وأن أشار إليه القرآن الكريم في أكثر من آية كريمة، منها قوله تعالى: (لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (يس:40).

آيات الآفاق والأنفس مشترك إنساني

إن الآيات الأولى التي أنزلت على المصطفى صلى الله عليه وسلم تدعو إلى القراءة والعلم والتعلم، حيث يقول الله سبحانه وتعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (العلق:1-5). ولا شك أن قضية القراءة والتعلم تعتبر من المشتركات الإنسانية التي لا خلاف عليها بين جميع المجتمعات الإنسانية.

كما أشار القرآن الكريم إلى أهمية التفكر في خلق الكون في عدة مواضع بالقرآن الكريم، من أهمها قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَاْلأَرْضِ) (آل عمران:١٩٠-191).

إن قضية التفكر في خلق السماوات والأرض، قدمها القرآن الكريم كأحد أهم أنواع العبادة في الإسلام، ومن جانب آخر فإن هذا التفكر والتدبر، يؤدي إلى اكتشاف القوانين والسنن الكونية التي ترتقي بالحياة الإنسانية في كل زمان ومكان.

لقد استخدم القرآن الكريم في بعض الأحيان أسلوب الحوار المباشر مع المخالفين، حتى يلفت أنظارهم لبعض الحقائق العلمية والكونية، كما في قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ) (الأنبياء:30).

إن المنهج القرآني يتخذ من الحوار حول الحقائق العلمية والكونية، أسلوبًا لهداية الإنسانية لخالق هذا الكون الرحيب، وكذلك التعرف على كيفية نشأة الكون.

كما أن القرآن الكريم قد أوضح لكل البشر، المنهج والأسلوب الصحيح لفهم واكتشاف الحقائق العلمية، عن طريق التنبيه والتأكيد على التفكر في كيفية الخلق وعاقبة الأمم الغابرة، ومن نماذج ذلك:

يقول تعالى: (أَفَلاَ يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) (الغاشية:١٧-٢٠). كما يقول تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ) (الفرقان:45). ويتأكد نفس المطلب القرآني في قوله تعالى: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (العنكبوت:20).

توظيف آيات الآفاق والأنفس في الدعوة إلى الله

إذا كانت الإشارات العلمية الواردة في العديد من الآيات القرآنية وبعض الأحاديث النبوية الصحيحة مشتركًا إنسانيًّا كما أشرنا، حيث إن الحقائق العلمية لا يمكن أن يختلف عليها الناس على اختلاف معتقداتهم أو ثقافاتهم، فإنها من جانب آخر، تعتبر منهجًا دعويًّا لا بد للعلماء والدعاة من استثماره والاستفادة منه، حيث إن توظيف آيات الآفاق والأنفس في الدعوة إلى الله، يمكن أن يكون من فوائده ما يلي:

1- ليزداد الذين آمنوا إيمانًا على إيمانهم: إن تدبر العديد من الآيات القرآنية، يوضح لنا أهمية رؤية آيات الآفاق والأنفس في زيادة إيمان الذين آمنوا، وعلى رأسهم الأنبياء. فها نحن نجد أن الله يخبرنا في محكم آياته، أن الوصول لمرحلة اليقين، أي الايمان الثابت الراسخ الذي لا يتزعزع، يكون عن طريق رؤية ملكوت السماوات والأرض، كما حدث مع سيدنا إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام، حيث يقول المولى سبحانه وتعالى: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) (الأنعام:75)، وفي الآية الكريمة ربط مباشر ما بين رؤية آيات الآفاق في السموات والأرض، والوصول لمرحلة اليقين.

وفي موضع آخر، ينبهنا المولى سبحانه وتعالى إلى العلاقة المباشرة ما بين توقيره وتعظيمه، وبين التفكر في مراحل خلق الإنسان، وذلك في قوله تعالى: (مَا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا) (نوح:13-١٤).

2- حتى يتبين للمخالفين أنه الحق: وذلك مصداقًا لقوله تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) (فصلت:٥٣-54). يقول الطبري في تفسيره: “يقول تعالى في ذكره: سنري هؤلاء المكذّبين ما أنـزلنا على محمد عبدنا من الذكر، آياتنا في الآفاق”، وكل ذلك من أجل إقامة الحجة عليهم وليستبين لهم أن ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق.

وهذا يوضح أهمية توظيف الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، لدعوة المخالفين وغير المؤمنين، لإقامة حوار علمي معهم لعلهم يهتدون لطريق الحق، وإن لم يهتدوا فقد أقيمت عليهم الحجة الدامغة.

نموذج تطبيقي من السنة النبوية

أجبرت جائحة “كوفيد-19” الحكومات ومصادر الأخبار، على تقديم النصائح الأكثر دقة وإفادة لسكان العالم، حيث إن المرض منتشر عالميًّا بالفعل، ويزداد الطلب على المتخصصين في الرعاية الصحية، وكذلك العلماء الذين يدرسون انتقال وتأثير الأوبئة.

يقول خبراء، مثل عالم المناعة الدكتور الأمريكي “أنتوني فوسي”، والمراسل الطبي الدكتور “سانجاي جوبتا”، بأن النظافة الجيدة والحجر الصحي، أو ممارسة العزلة عن الآخرين على أمل منع انتشار الأمراض المعدية، هي أكثر الأدوات فعالية لاحتواء “كوفيد- 19″، ثم يتساءلون: هل تعرفون من اقترح أيضًا النظافة الجيدة والحجر الصحي أثناء الجائحة؟

يقول “كريج كونسيدن” في صحيفة “النيوزويك” الأمريكية: “محمد نبي الإسلام، منذ أكثر من 1300 عامًا، في حين أنه ليس بأي حال من الأحوال خبيرًا “تقليديًّا” في مسائل الأمراض الفتاكة، إلا أن محمدًا كان لديه نصائح جيدة لمنع ومكافحة تطور مثل “كوفيد- 19″، قال محمد: “إذا سمعت بوباء في أرض فلا تدخلها، وأما إذا انتشر الطاعون في مكان وأنت فيه فلا تخرج منه” (هذا معنى الحديث الشريف).

وقال أيضًا: “يجب إبعاد المصابين بأمراض معدية عن الأصحاء”، كما شجع محمد البشرَ بشدة، على الالتزام بالممارسات الصحية التي من شأنها أن تحمي الناس من العدوى. تأمل الأحاديث أو أقوال النبي محمد التالية: “النظافة من الإيمان” (الحديث: النظافة شطر الإيمان).

ويستكمل “كريج كونسيدن” في صحيفة “النيوزويك” الأمريكية، نصائح الرسول عليه الصلاة والسلام: “إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمِسْ يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا، فإنه لا يدري أين باتت يده” (رواه مسلم).

وماذا لو مرض شخص ما؟ ما نوع النصيحة التي سيقدمها محمد صلى الله عليه وسلم لإخوانه من البشر الذين يعانون من الألم؟ كان يشجع الناس على طلب العلاج الطبي والأدوية دائمًا: “تداوَوْا عبادَ الله، فإن الله سبحانه لم يضعْ داءً إلا وضع معه شفاءً إلا الهرَم” (رواه ابن ماجه).

إن من الأشياء الرائعة أن يتم الاستشهاد بنصائح وتوجيهات الرسول عليه الصلاة والسلام في بلاد الغرب، لأنهم وجدوا فيها ما يمكن أن يكون فيه فائدة جمة لهم. لذلك لا عجب أنه في مدينة شيكاغو بالولايات المتحدة الأمريكية، تم وضع لوحة إعلانية كبيرة الحجم أثناء جائحة كورونا، مكتوب عليها “نصائح للرسول محمد”، وهي: اغسل الأيدي باستمرار. لا تخرج من المناطق الموبوءة. لا تزر المناطق الموبوءة.

الخلاصة

إن تقديم الحقائق العلمية التي وردت في القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة إلى الغرب بأسلوب يغلب عليه التحاور والنقاش، يعتبر هو الأسلوب الأوفق والأمثل، باعتبار أن العلم وحقائقه من المشتركات الإنسانية، التي يحتاج إليها كل البشر لفهم السنن والقوانين في مجال الآفاق والأنفس، من أجل الارتقاء بالحياة الإنسانية وحمايتها.

من جانب آخر، فإن الحقائق العلمية التي وردت في القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، توضح الإعجاز والسبق في ذكرها منذ أكثر من 1400 عامًا، حيث يتم اكتشافها تباعًا في العصر الحديث وفي المستقبل أيضًا، مما يظهر عظمة وصدق الوحيين “القرآن والسنة”.

(*) أستاذ ورئيس قسم العمارة بمعهد الطيران / مصر.