غرباء عما يجري بأجسامنا

العمليات الحيوية والآليات الفسيولوجية التي تجري في أجسامنا كثيرة ومُعقدة، منها هضم الطعام؛ فهو يمر بمراحل دقيقة ومتداخلة، بينما الأعضاء، والوظائف، والمناخات، والعصارات، والهرمونات التي تُسهم في ذلك، تعلو على إرادة الإنسان علوًّا كبيرًا، ويخرج عمل وإنتاج جُلها عن سيطرته وتحكمه.

يتغذى المرء على مواد أساسية لديمومة حياته، مثل البروتينات، والكربوهيدرات، والدهون، والفيتامينات، والأملاح، والماء.. ولكن لا فائدة من هذه العناصر الغذائية دون هضم للوصول إلى مكوّناتها البسيطة، ليُمكن امتصاصها والاستفادة منها. يُسبب انخفاض مستوى السكر في الدم، أو مستوى دهون الخلايا الدهنية، صدور إشارات لمركز الشهية بالدماغ، مما يولد شعورًا بالجوع والحاجة إلى الطعام فنسعى لنأكل، إرادة -ربما- وحيدة نمارسها. وفور تناول الطعام بالفم، يتحرك الفكان وعضلاتهما -ميكانيكيًّا- لمضغه، وذلك بأسنان تقطع، وأنياب تمزق، وضروس تطحن، ولسان يُقلب ويُحرك ويُمرر.. ويكاد المضغ أن يكون عادة فطرية؛ فالطفل يمضغ وهو لا يدري لِمَ يمضغ. ويُختبر الطعام -كيفًا- ببراعم/حلمات التذوق على اللسان، فيرفض غير المستساغ.

وبمجرد تفكير الشخص في الطعام، أو رؤيته، أو شمه، أو تذوقه، يبدأ إفراز اللعاب والعصارة المعدية. وعند وضعه بالفم يستثير أعصابًا بجدران الفم واللسان، فيُفرز اللعاب (بمعدل 1,5 لتر/يوميًّا) من ثلاثة أزواج من غدد لعابية رئيسة (اثنتان تحت اللسان، ومثلهما تحت الفك الأسفل، واحدة قرب كل أذن). وهذه الأعصاب شبكة طرفية/وجزء متواضع من جهاز عصبي يعمل لا إراديًّا. ومع سبل أخرى -كالهرمونات- تنشأ وسائل هامة، ورسائل كيماوية، لنقل الأخبار الهضمية، ومجريات الأحداث الزمنية، وتتابعها حتى ونحن نيام، يـُرطب اللعاب الطعام، ويُلينه ليسهل تذوقه وبلعه.

كما يساعد على تطهير الفم والأسنان، ويحتوي على خمائر (أنزيمات) الأميليز والليبيز. أما الأول فيحول النشا إلى سكر بسيط (كالجلوكوز، والمالتوز)، وأما الثاني (الليبيز) فيكسر الدهون، وهو يُنتج أيضًا في البنكرياس ليكمل هضمها في الأمعاء الدقيقة. ووجود “الليبيز اللعابي” في الرضع هام لتأخر تكوين النوع البنكرياسي. ولهذا الأنزيم -أيضًا- دور مناعي، كما يساعد على منع التهاب الغدد اللعابية وبخاصة الغدد النكفية.

إلى المعدة

يؤمن البلعوم مرور الطعام إلى المريء الذي يعتصره بحركته الدودية لينقله إلى المعدة. ويتمدد المريء لتمر البلعة الغذائية، متكئًا على الجزء الرخو الخلفي من غضاريف القصبة الهوائية (غير مكتملة الاستدارة). والمعدة، وعاء عضلي قوي لتخزين الطعام ومزجه ميكانيكيًّا، وهضمه كيميائيًّا، بعصارتها المعدية (حامض الهيدرو كلوريك، وخميرة الببسين). ومن ثم يتم تحلل المواد البروتينية لعناصرها الأولية (الأحماض الأمينية). وباطن المعدة محمي بغشاء مخاطي قوي يقي جدارها -إلا في حالات قرحة المعدة- من هضمه بالحامض القوي. وفي المعدة يتحول الطعام إلى سائل “الكيموس”. كما تفرز الخلايا قرب “البواب” (مخرج الطعام من المعدة) هرمون “الجاسترين” الذي يزيد من إفراز عصارة المعدة.

ترابط وتتابع محكم

بعد هضم نوعي للطعام في المعدة، يغادرها للأمعاء الدقيقة بتقدير مُنظم ومتتابع؛ الكربوهيدرات، ثم البروتينات، ثم الدهون، حيث تحتاج الأولى لتفتيت إضافي بعد هضمها الجزئي في الفم والمعدة، فتغادر أولاً ليستكمل هضمها في الأمعاء. كما يتم هضم كبير وكثيف للبروتينات في المعدة؛ فترحل -بعد الكربوهيدرات- ليستكمل هضم بقاياها. ويوجد توافق مُدهش بين الأنزيمات والبروتينات؛ فثمة إنزيم للعدس، وآخر للفول، وثالث للحوم، ورابع للبن حسب الأحماض الأمينية في كل بروتين نباتي أو حيواني.

أما الدهون فيلزمها كثير من عمليات الهضم، وتستغرق وقتًا أطول، خصوصًا في الأمعاء الدقيقة، لذا يتراخى انتقالها ريثما يتم هضم أقرانها ثم يأتي دورها. وأيّ خلل في مرحلة هضمية يعرقل غيره من المراحل، فهو نظام مترابط ترابطًا وثيقًا، لذا فالأكل بين الوجبات الرئيسة يزيد المدة اللازمة لإفراغ المعدة، فيربك القولون؛ لتغيّر توقيت طرح الفضلات، مما يسبب الإمساك وغيره من المشاكل وفق الإخلال (الاختياري) الحادث.

غرباء عما يحدث بالأمعاء

ومع تقدم الهضم بالمعدة، تنفتح فتحة البواب فيها، فينتقل “الكيموس” إلى أول أجزاء الأمعاء الدقيقة وهو “الإثنا عشر” (لكون طوله نحو 12 بوصة). وعند دخوله المعي -بدهونه- يتم إفراز هرمون أنتيروجسترون فيوقف إفراز عصارتها. وتخضع المواد القادمة من المعدة لثلاث عصارات هضمية، هي العصارة البنكرياسية، والصفراء والأنزيمات المعوية. ويتم استكمال التحلل الكيميائي للبروتينات، والدهنيات، وباقي السكريات. فالبنكرياس -من ملحقات أعضاء الهضم- معمل صغير للعصارة البنكرياسية المحتوية على خميرة “التريبسين” لتكسير بروتينات الطعام. ويتم صب العصارة في الإثني عشر بناء على تنبيه خلاياه بإفرازها هرمون “السكريتين”. وتعمل العصارة البنكرياسية القلوية -بها مادة البيكربونات- على تعادل حموضة ما يخرج من المعدة، فلا يصلح الهضم في الأمعاء إلا في مناخ/وسط قلوي. كما أن البنكرياس غدة صماء باطنية الإفراز، وإفرازية معًا. ويفرز الجزء الأصم منه “الأنسولين” الذي يعمل على خفض مستوى سكر الدم المرتفع. فيقوم بنقل الجلوكوز من الدم للعضلات أو أنسجة أخرى لاستخدامه كطاقة. وعند انخفاضه يُطلق “الجلوكاجون” لإعادة توازن مستوى سكر الدم.

وتستقبل الحويصلة المرارية سائل الصفراء Bill من الكبد، وتضخه في الإثني عشر استجابة لهرمون “كولسيتوكينين”. وتعمل الصفراء بقلويتها أيضًا على معادلة الحموضة وإذابة الدهون بالأمعاء. أما الكبد فمن أهم أعضاء الجسم، ومن ملحقات الهضم ذو الدور الهام في عملية الأيض (التمثيل الغذائي). فيقوم بالتنظيم والحفاظ على مستوى الكولسترول “منخفض الكثافة وعاليها”، ونسبة الجلوكوز بالدم، وما يزيد عن الحاجة من الأخير يخزنه كنشا حيواني (Glycogen) ليحوله لسكر عند الحاجة. كما يمكنه تخزين البروتينات والدهون وتحويلها إلى سكر، وله أهميته في تخزين الفيتامينات التي تذوب في الدهون (Vitamins A, D, E, K) والفولات، وفيتامين ب 12 والأملاح المعدنية والنحاس والحديد. كما يستخلص مادة البيليروبين من الدم وتوصلها إلى الحويصلة المرارية. والكبد مصفاة هامة ومرشح قدير، للتخلص من نفايات وسموم عمليات الأيض المختلفة مثل “الأمونيا النشادر”، فيحولها لبولينا Urea ومن ثم تفرز بالكلى مع البول، وفي حالة اعتلال الكبد تتراكم الأمونيا بالدم.

ولا إراديًّا يستمر المزج والهضم، وضخ الخمائر من غدد جدار المعي الدقيقة، ثم عملية الامتصاص (الماء والأملاح والفيتامينات) عبر خمائلها Intestinal Villi، وإرسالها لمجرى الدم. وكذلك امتصاص وحدات البناء (مواد القيت)، وتكوين المعي كأنبوب عضلي طويل به ثنيات داخلية، يُسهم في زيادة سطح الامتصاص. وتصل محتويات القناة الهضمية إلى الأمعاء الغليظة بعد نحو 5-6 ساعات من مغادرتها المعدة. فتمتص الأمعاء الغليظة ما تبقى من ماء وأملاح معدنية في صورتها الأيونية، ويتم تحلل قسم من المواد الغذائية بالبكتيريا النافعة التي تستوطن هذه الأمعاء، بينما يبدأ تجميع الفضلات، وتكديسها في المستقيم، ومن ثم إخراجها -بتنبيهات عصبية- عبر فتحة الشرج.

وتعمل شبكة الأوعية الدموية الكثيفة والمنتشرة في نتوءات الأمعاء على سرعة وكفاءة نقل الغذاء إلى خلايا الجسم، بينما يتكفل الوريد البابي بنقل منتجات الهضم من المعي إلى الكبد، في حين يحمل الوريد الكبدي الدم والمواد الغذائية إلى الدورة الدموية العامة. ومن نواتج الهضم (السكريات البسيطة كالجلوكوز، والأحماض الأمينية، والدهنية والفيتامينا، والأملاح، والماء.. إلخ) تنمو العضلات والأجسام، وتنمو الخلايا وتصلح، وتدب فيها الحيوية والنشاط، وتتوافر الصحة وعافية الأبدان، وتمارس المهام، وجليل الأعمال.

خلاصة القول، إن أطعمة وأشربة، وبحوث ومختبرات، وطب وجراحات، ومعاهد ومؤسسات، وكتب ودراسات اهتمت -وما زالت- بالهضم، ووسائله، وألياته، وصحته، وعلله. ومع كل ذلك نعيش غرباء عما يجري في أجسامنا من دقة وتقدير، وحكمة وتدبير. إن عملية الهضم تجري خارج إرادتنا على غير علمنا، أو وعينا، وتستمر إلى حين نومنا وعلى خير ما يرام.

(*) كاتب وأكاديمي مصري.