قلة النوم أخطر مما نتصور

لولا تعاقب الليل والنهار لانعدمت الحياة على الأرض. وقد قال تعالى: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا، وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا) (النبأ:11)، فهذه الثنائية المتكررة دومًا، بين ليل يسكن فيه الإنسان ويخلد إلى الهدوء والراحة والنوم، ونهارٍ ينشط فيه ويزاول معاشه ويمارس مهامه.. هي فطرة قد فطر الخالق عليها الإنسان وكثيرًا من الكائنات بما فيها النباتات. وهذا ما توصل العلم بعد خمسة عشر قرنًا من الزمان، حيث اكتشف مؤخرًا خضوع الكائنات الحية بشكل فطري لدورية تعاقب الليل والنهار، يتقلب خلالها النمو والسلوك ووظائف الأعضاء والنشاط العام للكائن الحي على مدى 24 ساعة، وقد لوحظ هذا في كلٍّ من النبات والحيوان والإنسان، بل وعلى مستوى الخلايا المكونة لهذه الكائنات. فكثير من النباتات -على سبيل المثال- تُبدي نمطًا من النمو الذي يتباين من وقت لآخر على مدى اليوم (24 ساعة)، كما أن الحيوانات تُبدي نمطًا من السلوك يتأرجح بين النشاط والنوم، ويخضع لهذه الدورية اليومية، بحيث تستيقظ وتنشط في وقت معين، وتخلد إلى الراحة والنوم في وقت آخر محدد (يلاحِظُ ذلك بشكل واضح مربو الطيور المنزلية).

أما على مستوى الخلية الحية فقد تم اكتشاف مجموعة من الظواهر التي تتغير بشكل دوري طبقًا لتعاقب الليل والنهار. وتشمل هذه الظواهر النشاطَ الأنزيمي، والضغط الإسموزي، ومعدل التنفس، ومعدل النمو، والنفاذية الغشائية، والحساسية لكل من الضوء ودرجة الحرارة، والاستجابة للعقاقير الطبية، إلى غير ذلك من المؤثرات. وقد بات الأطباء -الآن- على علم بأن مقدار الجرعة المناسبة لعقار ما، قد تتغير تبعًا للتوقيت الذي يتم فيه تعاطيه من اليوم، فإن الجرعة المناسبة والمفيدة في وقت ما، قد تصبح خطيرة أو غير مؤثرة في وقت آخر من اليوم. كل ذلك أدى بالعلماء إلى الاعتقاد بوجود “ساعة حيوية” (Biological clock) في جسم الإنسان والكائنات الحية على وجه العموم، تضبط سلوكها، وتتحكم في نشاطها بشكل فطري تبعًا لما خُلقتْ عليه في بيئتها التي تعيش فيها. ويؤدي ذلك في النهاية إلى التوازن بين بنية الجسم ووظائفه والزمن، وهو بعض ما تشير إليه الآية الكريمة التي تجمع بين ظواهر كونية، وما يرتبط بها من أحوال البشر والمخلوقات.

المخ والنوم

النوم هو حالة من اللاوعي، التي يمكن إيقاظ المرء منها بالمثيرات الحسية القوية، وذلك لتميزه عن حالة من الغيبوبة المرضية (Coma)، أو حالة من الحالات الأخرى التي تنجم عن تعاطي العقاقير أو إصابات الرأس، التي لا يمكن إيقاظ المرء منها. والنوم يتميز بانخفاض النشاط الجمسانى بشكل عام، ويتميز بارتفاع عتبةِ كثير من الأفعال المنعكسة وانخفاض درجة الاستجابة لمعظم أنواع المثيرات، وبعدم إدراك الأحداث التي تمت أثناء النوم أو القدرة على تذكرها، ويتميز النوم أيضًا بميل الكائن نحو إغلاق عينيه وإغماضهما. كما يصاحب النوم عادة عبوس الوجه، الذي يمكن إحداثه أيضًا بإثارة وجه النائم إثارة ضعيفة. أما حالة الانبساط العضلي فهي سمة النائم على الرغم من أنه انبساط جزئي. فالنوم الطبيعي يتميز بقلة الحركة وليس غيابها تمامًا. وإن ما تبقى منها هو نوع نمطي لا يعتمد على النشاط الحرج لقشرة المخ.

وللمخ دور في النوم واليقظة كشأنه في مجموعة من الوظائف والأنشطة الأخرى، كالتفكير والتذكر والحكم على الأشياء، والمستويات المختلفة للمزاج مثل الابتهاج والخوف والاكتئاب إلى غير ذلك من حالات.

وتتولد هذه الحالات نتيجة لتنشيط أو تثبيط مناطق أو مراكز معينة في المخ. فكما أننا نأكل عادة في ساعات محددة لإبعاد الجوع، كذلك فإن النوم له وظيفة احترازية مماثلة. فبعض النظريات العلمية التي تعلل للنوم، تؤكد أنه ينجم عن تغيرات كيميوحيوية في الخلايا والأنسجة؛ نتيجة النشاط والحركة لفترة من الوقت، ومن ثم يتطلب الجسم بعدها الراحة التي تتم في أحسن صورها على هيئة النوم.

إلا أن دراسة النشاط الكهربي للمخ في الإنسان وحيوانات التجارب خلال النوم، قد أوضحت أن النوم حالة معقدة لا يمكن اعتبارها فترة استرخاء وفقدان تام للنشاط. وقد اتضح أيضًا أن النشاط الكهربي للمخ في أثناء نوع معين من النوم (نوم الريم) يشبه نشاطه في أثناء اليقظة.

أنواع النوم

ثمة نمطان مختلفان للنوم، أولهما يعرف بـ”نوم الموجة البطيئة”. ويتميز هذا النمط ببطء موجات مخطط الدماغ، عند تسجيلها بجهاز رسام المخ الكهربائي، ويمثل هذا النوع معظم فترات النوم في كل ليلة، وإنه يتميز بالعمق. ومن ثم هو نوم يبعث على الراحة، ويحدث عادة خلال الساعات الأولى من النوم، بعد فترة يقظة تقدر بعدة ساعات. وهنا لا بد لنا من تعليق حيث تتطابق سنة النبيصلى الله عليه وسلم مع هذه الحقيقة العلمية؛ فإن من تدبر نومهصلى الله عليه وسلم وجده أعدل نوم وأنفعه للبدن والأعضاء والقوى، فقد كان النبيصلى الله عليه وسلم ينام أول الليل حيث النوم العميق الذي يبعث على الراحة والسكينة، وكان يستيقظ أول النصف الثاني للتهجد والعبادة.

أما النمط الثاني للنوم فيعرف بـ”نوم حركة العين السريعة”. يسمى بذلك لأن العين في أثنائه تتحرك حركات سريعة على الرغم من نوم المرء، ويسمى أيضًا “نوم الريم” (REM). والعينان في حركتها السريعة هذه، كأنما ترصدان سلسلة أحداث تجري أمامهما ولا عجب في ذلك. فإن هذا النمط من النوم تتخلله الأحلام المفعمة بالحيوية، ويتم هذا النوع من النوم بشكل دوري حيث يتكرر كل 90 دقيقة تقريبًا، وتصل مدته إلى 25٪ من مجمل زمن النوم عند الشخص البالغ تقريبًا. وهو نوم مريح، ويبدو أن هذا الطور من النوم مستقل عن جهاز التنشيط الشبكي في المخ، ويتم في جميع الأفراد ما عدا أولئك الذين حرموا نعمة الإبصار لعدة سنوات.

وتعتمد طبيعة مخطط كهربية الدماغ (EEG) على درجة عمق النوم. فالنوم العميق يتميز مخطط الدماغ في أثنائه، بالموجات البطيئة؛ ولذا فقد يطلق عليه “نوم الموجه البطيئة”، أما “نوم الريم” فيتميز المخطط الكهربي للدماغ خلاله، بالموجات السريعة.

وهناك كثير من الآراء حول ما يؤدي إلى النوم العميق، يعتمد معظمها على الخيال المحض. إن نوعية النوم لا يمكن تحديدها اعتمادًا على خاصية واحدة، فهناك تنوع كبير في طول مدة النوم عند فئة عمرية ما، بل وعند نفس الشخص من وقت لآخر، ويمكن القول بأن ثمة نقصًا متدرجًا في طول فترات النوم يتم بتقدم العمر، كما أن كمية التحرك في أثناء النوم تختلف أيضًا. إن الأشخاص الطبيعيين يتقلبون غالبًا خلال النوم الليلي، وهذا النوع من الحركة يتم بمعدل أكثر خلال النصف الثاني من الليل. أما عمق النوم فيتحدد عادة بالحساسية السمعية، كما أن عمق منحنيات النوم يختلف في النصف الثاني من الليل عنه في النصف الأول. أما الأحلام فتتم في أثناء النوم الخفيف أو الجزئي (نوم الريم)، لذا يسمي أيضًا بـ”نوم الأحلام”، وربما تكون هذه الأحلام نتيجة لنشاط بعض مناطق قشرة المخ أثناء النوم.

أثر الحرمان من النوم في الإنسان

للحرمان من النوم آثار ضارة على الإنسان قد تصل إلى حد الموت. وقد كان الصينيون يعذبون بعض المجرمين بحرمانهم من النوم لمدة طويلة إلى حد الموت أرقًا. هناك تأثيرات فسيولوجية، و”نفس حركية” (Psychomotor)، وتغيرات كيميوحيوية، تَبَيَّن أنها مواكبة للحرمان التجريبي من النوم إلى 112 ساعة. هذا، فضلاً عن التأثيرات التي تظهر على النشاط الكهربي للمخ، أو على شكل اضطرابات نفسية أو سلوكية. أما التغيرات التي تتم بدرجة أقل فتبدو جلية في بعض المؤشرات الأخرى، كالمهارات الحركية، والقدرة على تحمل العمل الثقيل، كما تظهر أيضًا في اختلال مستوى كل من السكر والهيموجلوبين في الدم، وعدد كريات الدم الحمراء والبيضاء، ووزن الجسم، ومعدل التمثيل الغذائي القاعدي (Basal metabolic rate)، إضافة إلى درجة حرارة الجسم.

هذا، ويبدأ تأثر المخطط الكهربي للدماغ، فيما بين 36 إلى 50 ساعة من الحرمان من النوم، وبعد 40 ساعة من اليقظة المتواصلة، قد تظهر على بعض الأشخاص أعراض تتشابه مع تلك التي تظهر على مرضى الفصام (Schizophrenia)، أو مرضى العصاب النفسي (Psychoneurotic case)، ومرضى الهذاء (البارانويا)، وهذه الأمراض في معظم الحالات تكون خفيفة، بيد أنها قد تصل إلى درجة كبيرة في القليل منها فتتشابه مع أعراض الفصام الهذائى الحاد. ومع ذلك فإن جميع الأشخاص قد عادت حالتهم إلى طبيعتها بعد فترة نوم عميق.

ويبدو أن الأعراض الذهنية التي نجمت عن الحرمان من النوم، تتشابه في كثير من مظاهرها مع حالة النوع السام للذهان (Psychosis)، لا سيما تلك الأعراض التي تتواكب مع أمراض معينة، أو مع التجريع المفرط للعقاقير المخدرة. والأنواع الأخيرة من الأعراض الذهنية، تخف عادة عند شفاء المريض من مرضه، أو عند تخلصه من العقار. وعلى ذلك فاحتمال اقتران الاضطرابات النفسية مع الحرمان من النوم نتيجة لتغير أو نقص في بعض الوسائط الأيضية الوظيفية، احتمال قائم كنقص مادة السيروتونين مثلاً.

وخلاصة القول، إن اليقظة الطويلة تؤدي في أغلب الأحيان إلى خلل متزايد بوظائف الدماغ، بل إنها قد تؤدي أحيانًا إلى سلوكيات شاذة للجملة العصبية، حيث يزداد تبلد التفكير كلما زادت فترة عدم النوم، بل إن الشخص يمكن أن يصبح هائجًا أو حتى ذهانيًّا (Psychotic) بعد فترات طويلة من الأرق. وعلى ذلك يمكن القول إن النوم يحفظ (بطريقة غير معلومة حاليًّا) المستويات الطبيعية من النشاط والتوازن بين الأجزاء المختلفة للجهاز العصبي المركزي؛ لأن فرط استخدام بعض مناطق المخ أثناء اليقظة يمكن بسهولة أن يفقد هذه المناطق توازنها مع بقية الجملة العصبية. ولذلك يمكننا أن نفترض عند غياب أي قيمة وظيفية واضحة للنوم، أن القيمة الأساسية للنوم تتمثل في حفظ التوازن السوي بين المراكز العصبية.

التلوث البيئي يؤدي إلى الأرق

إن التلوث بالكيماويات كالعناصر الثقيلة مثل التلوث الرصاصي، يؤدي إلى اختلال طور النوم الذي يتميز بالحركة السريعة للعين، مما يسبب اضطرابًا في النوم ومن ثم الأرق.

وقد ثبت أن مادة كيميائية أخرى تسمى “باراكلوروفينايل ألانين” (PCPA) تسبب نقصًا في مادة السيروتونين، ومن ثم حدوث الأرق. وقد وجد أنه عند حقن حيوان التجارب بهذه المادة (PCPA)، فإن ذلك الحيوان لا ينام لعدة أيام، الأمر الذي أدى إلى الاعتقاد بأن للسيروتونين دورًا في عملية النوم.

وقد وجد أيضًا أن تعاطي المخدرات والمهلوسات، يؤدي إلى الأرق، وذلك عن طريق تأثيرها السلبي على الخلايا العصبية السيروتونية، وقد سبقت الإشارة إلى دور السيروتونين في عملية النوم.

في النهاية، إن نظرة الناس إلى النوم تتباين بحسب وجهات نظرهم في الحياة ومسالكهم فيها، فهناك من يعتنق وجهة نظر عمر الخيام القائل:

فما أطال النوم عمرًا ولا قصر في الأعمار طول السهر

وهناك صنف آخر ينطبق عليه وصف الخليفة الزاهد عمر بن عبد العزيز، حيث يقول:

نهارك يا مغرور سهو وغفلة وليلك نوم والردى لك لازم

وبين المسلك الأول والمسلك الثاني طيف متنوع بتنوع اتجاهات البشر ومعتقداتهم وثقافتهم. إلا أن المعيار الصحيح والتوجه السليم، هو التوسط والاعتدال، حتى يستطيع المرء أن ينهض بما كُلِّف به، ويؤدي الأمانة التي أؤتمن عليها.

(*) أستاذ علم الحيوان، جامعة المنوفية / مصر.