كان البشر قبل نحو تسعين عامًا يستمتعون بمشاهدة السماء وما فيها من نجوم، ويستدلون بها لمعرفة اتجاه حركتهم. وكانوا لقلة مصادرهم الضوئية يخلدون إلى النوم مبكرًا. فيمـــا عــاشت الكائنات الحية قبل هذه الفترة بشكل طبيعي تمارس مهامها اليومية وتصطاد فرائسها في أوقات محددة من النهار أو من الليل بحسب تكيفها، وكذلك الحال في عالم النبات.
ومنذ قام “أديسون” باختراع المصباح الكهربائي عام 1879م، تلوث الضوء وتبددت ظلمة الليل، وطالت فترة العمل وتذللت عقبات كانت تعترض سير الحياة.. فهذا الاختراع وضع اللبنة الأولى لنمو الحضارة الإنسانية، وجعل العالم يبدو أجمل وأروع، إلا أن اختراعات البشر مهما بلغت من مراتب الدقة والإتقان، لن تصل إلى حد الكمال، وتظل نواقصها كثيرة واستحقاقاتها كبيرة.
هذا الضوء الذي قهر الظلام وما يرتبط به من أخطار ومخاوف، أوجد بالمقابل مشكلات ومساوئ خطرة غير متوقعة تهدد وتلوث حياة الإنسان، وتؤذي الأنظمة البيئية لعالم النبات والكائنات الوحشية في عالم الحيوان.
من أكثر أضرار الضوء الكهربائي، تأثيره المدمر على إفراز هورمون “الميلاتونين” (Melatonin)، أو هرمون الظلام الذي يتم إفرازه ليلًا من غدة صغيرة تشبه حبة الصنوبر الصغيرة يُطلَق عليها اسم “الغدة الصنوبرية” (Pineal Gland) والموجودة في تجويف عظمي في جمجمة الإنسان أسفل الدماغ خلف الغدة النخامية، وفوق جذع الدماغ مباشرة، ويبلغ حجمها نحو 8 مليمترات ولا يزيد وزنها على 0.01 جرام. ويوجد هذا الهرمون في جميع خلايا الكائنات الحية الموجودة على سطح الأرض من نباتات وحيوانات وبشر وبكتيريا وطحالب.. ويصنع من حمض أميني يسمى “هيدروكسيل التربتوفان” (Hydroxyl Tryptophan) بوجود ومشاركة الماغنسيوم وفيتامين البرودوكسين ب6 والنياسين ب3.
ويعمل الميلاتونين على تهدئة الأعصاب وتخفيف التوتر والنرفزة وسرعة الانفعال، ويقوي الذاكرة ويزيد في القدرة على الحفظ والتركيز والإحساس بالمحيط الخارجي والتفاعل معه. ونقص الميلاتونين يعطي نتائج عكسية، وهذا ما يفسر كثرة حدوث المشاجرات، وحوادث السير، وجرائم القتل، وحالات الطلاق، خاصة إذا وصل تأثير نقص الميلاتونين إلى إضعاف القدرة الجنسية عند الرجل.
ويعتقد الباحثون أن نوبات العمل الليلية تعمل على إيذاء الجسم عن طريق توقف عمل هورمون الظلام حيث يتم إفرازه أثناء الظلام فقط، وهو الهورمون الذي يساعد على تنظيم فترات النوم والاستيقاظ عند الإنسان.
لقد أكدت أبحاث مؤتمر السرطان الكندي خطورة دوريات العمل الليلية نتيجة التلوث الضوئي الصناعي، حيث إن الرجال الذين يقضون أوقاتهم في نوبات العمل الليلية، عرضة للإصابة بأنواع من السرطان ثلاثة مرات أكثر مقارنة بمن يعملون في نوبات العمل النهارية، أما بالنسبة للنساء فـقـد تـزيـد نسبــة تعرضهـن للإصابة بسرطان الثدي، كما أنه مع النوم في الضوء الكهربائي تظهر أمراض المتلازمات.
الإضاءة الصناعية تخفي الأجرام السماوية
إن للتلوث الضوئي -أيضًا- تأثيرًا سلبيًّا على البيئة والاقتصاد، إذ عندما يعمل مصباح واحد قدرته 100 واط على الدوام، فإنه يستهلك طاقة تبعث 360 كيلوجرامًا من ثاني أكسيد الكربون في الهواء سنويًّا، وبالتالي فإن كل مصباح من هذه المصابيح، يحتاج إلى 17 شجرة لامتصاص الغازات التي تنتج عن تشغيله. فإذا كانت لدينا ملايين من هذه المصابيح، كم سيكون حجم ثاني أكسيد الكربون المنبعث، وكم سنحتاج حينئذ من أشجار خضراء لامتصاصه؟
إن التلوث الضوئي هو الضوء الشديد المتداخل الذي تنتجه الحضارة البشرية ليلاً، ويأتي هذا الضوء من مصادر اصطناعية، من كهرباء المنازل والمكاتب، ومصابيح الطرقات، ومن لوحات الإعلانات، والمصابيح الأمامية للسيارات بصورة أساسية. هنالك نوعان أساسيان من التلوث الضوئي؛ النقاط المضيئة وهو الضوء المنبعث مباشرة من مصدر ما، والوهج السماوي وهو التأثير المجمع والمتراكم من مصدر مضيء يسري عبر الغلاف الجوي، ذلك الوهج الخفيف الذي يمكننا رؤيته في الأفق إذا نظرنا إلى مدينة ما من منطقة ريفية.
إذا نظرنا إلى مقدار الطاقة التي تهدرها المصابيح الكهربائية التي يتم تركيبها بشكل خاطئ في شوارعنا، فنجد أنها تهدر 60% تقريبًا من طاقتها في السماء من دون الاستفادة منها على الأرض، والسبب في ذلك هو أن بعضًا من هذه المصابيح يوجه إلى ناحية السماء، وكثير منها يشع في كل الاتجاهات من دون أن يتم تركيزه على نقطة معينة من الشارع، لذا لو تم توفير حجم هذه الطاقة المهدرة بالمعالجة الصحيحة لهذه المصابيح، فسيقلل حجم الانبعاثات الصادرة، ويوفر احتياطًا هائلاً من الطاقة النفطية.
ومن أضرار التلوث الضوئي على السماء أيضًا، أن التاريخ لم يشهد أبدًا أن اختفت عن الرؤية أجرام سماوية من صفحة السماء، إلا أنه في وقتنا الحاضر لم نعد نشاهد -مثلاً- النجم القطبي الشمالي وقد كان دليل المسافر لمعرفة الاتجاهات. كما اختفي كثير من كويكبات المساء التي كانت تظهر على مدار فصول السنة. فقد أصبح من الصعوبة البالغة مشاهدة مجرة درب التبانة حتى من خارج المدن نتيجة لامتداد تأثيره إلى خارجها.
إستراتيجيات المكافحة
لذا واجه كثير من هواة الفلك صعوبة في رصد السماء، إلا بالابتعاد مسافة لا تقل عن 65 كيلومترًا عن المدن، مستخدمين فلاتر كثيرة عند تصوير الأجرام السماوية، بغية الحصول على منطقة خالية من التلوث الضوئي. ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد، بل لجأ عديد من علماء الفلك إلى نقل مراصدهم مرات عدة إلى أماكن أكثر ظلامًا، كما أطلقوا مراصد إلى خارج غلافنا الجوي، للتغلب على هذه المشكلة المتزايدة، ومنها “هابل”، و”جمس ويب” الذي أطلق خلال عام 2018م.
هذا وقد سلط تقرير حديث نشر في مجلة “سايسنس” الأمريكية، الضوء على خمس إستراتيجيات رئيسية لتقليل الإضاءة عالميًّا -والتي لن تقلل من فوائدها بالضرورة- وهي كما يلي:
1- تجنب إدخال الإضاءة إلى المناطق المظلمة من قبل.
2- أن تكون الإضاءة بأقل كثافة ممكنة للاستخدام.
3- استخدام الإضاءة عند الحاجة المباشرة فقط وحجبها قدر الإمكان.
4- استخدام الإضاءة عند الحاجة.
5- أن تكون الإضاءة “أكثر حرارة”، مما يعني المزيد من الأضواء البرتقالية التي ينبغي استخدامها بدلًا من الضوء الأبيض المزعج.
إذن، التلوث الضوئي هو أمر ضار ويتزايد اعتباره كمحرك للتغيير العالمي، وبينما العديد من الأفارقة يستطيعون رؤية درب التبانة، فإن شبح تمدد شبكات الإنارة يلوح في الأفق، وكما هو الحال بالنسبة للقوى المحركة للتغير العالمي، فالقارة تمر بمنعطف هام لضمان أن مسارها الاقتصادي لن يؤثر بالسلب على الصحة البشرية والبيئية، وكيف يحدث ذلك بصورة وافية، والتلوث الضوئي ما زال أمرًا لم يُتخذ قرار بشأنه بعدُ.
(*) عميدة كلية العلوم الفيزيائية بالجامعة المصرية اليابانية / مصر.
المراجع
(1) Oltmanns، T.F. and Emery, R.T. 2022, Abnormal Physiology, Pretice Hall, Upper Suddl River, New Jersy.
(2) Alloy, L, B, and Others, 2020, A,M. Abnormal Physiology c Graw, Hill, Inc, New York.
(3) Colman, J.C. 2019, Abnormal Physiology, and Modern Life, Foresman, Andcompany, Chicago.