الحِلُّ والحرام في حليب الأنعام

عُرف الحليب منذ القِدم بقيمته الغذائية العالية، فخص الله به كل مولود، فكان أول ما يتذوقه، وأول ما يجري في قناته الهضمية، وتمتصه أمعاؤه، فيُشيد به هيكله العظمي، وتُبنى به أنسجته، ويكتمل به المخ ووظائفه من تفكيرٍ وإدراك، كي يواجه الإنسان الحياه المقبلة بجسم قوي وفكر راجح، ولا تنقطع علاقة المولود بالحليب بعد الفطام، بل تستمر العلاقة به وبمُنتجاته حتى نهاية العمر. فهل كل أنواع الحليب مُتاحة بلا قيود شرعية؟ فمثلاً نال حليب الأُتْن (إناث الحمير) وأجبانها جدلاً كبيرًا، مما خَلطَ الأمر على الكثير، فخامر الشك ذهنهم وجال بخاطرهم سؤالاً لطالما حيرتهم إجابته مابين الريب واليقين، هل حليب الأُتْنُ ومنتجاته حلال أم حرام؟ ونحاول في السطور التالية أن نُميط اللثام عن مدى الشبه والاختلاف بين حليب الأُتْن وأشهر أنواع الألبان الأخرى، كما نضع أنواع الألبان في ميزان الحِلُّ والحرام، مشفوعًا بأقوال الفقهاء لنترك للقارئ العزيز الحكم في نهاية الأمر.

الحليب ومكوناته:

الحليب هو السائل الذي يتم إنتاجه من ثدي أنثى الثدييات خلال فترة ما بعد الولادة، ويحتوي على المكونات الغذائية الأساسية للمواليد الجديدة قبل أن يتمكنوا من تناول وهضم أنواع الغذاء المختلفة، كما أن الحليب هو المكون الأساس لمنتجات الألبان مثل اليوغورت، القشدة، الجبن، الزبد، اللبن المجفف والمُثَلَّجَات اللبنية وغيرها من منتجات الألبان.

إن ميكانيكية إنتاج الحليب في الغدد اللبنية ثابتة تقريبًا في جميع الثدييات، لكن يختلف تركيب الحليب باختلاف نوع الحيوان المُنتِج له وعلى حسب احتياج المولود؛ فحليب أنثى الفيل يختلف كيميائيًّا عن حليب أُنثى الأرنب عن حليب الأبقار، وهناك من أنواع الحليب الذي يمتلك ميزة نوعية مثل حليب المَعز الأسهل هضمًا والغني بالكالسيوم (الضروري لبناء العظام والأسنان وتسريع حرق الدهون وإزالتها) و فيتامين B6 وفيتامين  Aبزيادة تُقدر بـ 13% و 25% و47% على التوالي، كما ثبت فائدته لصحة القلب والشرايين فـهو يُخفض ضغط الدم لما يحويه من أحماض دهنية حيوية عالية القيمة كما أن محتواه من الكوليسترول مُنخفض بنسبةِ 30 %  مقارنة بأنواع الحليب الأخرى، كما يتميز بزيادة محتواه من النياسين وعناصر البوتاسيوم والزنك والسيلينيوم (المضاد للأكسدة والمقاوم لسرطان البروستاتا) بنسبة 300%  و 134% و 400% و 27% على التوالي. لكن ثمة أمر يمتاز به الحليب البقري ألا وهو زيادة محتواه من فيتامين   B12 وحمض الفوليك المقويان لخلايا الدم الحمراء بنسبة 500% و1000% على التوالي (1).

الجدول التالي يُوضح مدى التشابة في التكوين الإجمالي لحيلب الأُتْن ولبن الأم في مستويات اللاكتوز والبروتين والمواد الصلبة الكلية مقارنة بباقي أنواع الحليب، إلا أن مستوى الدهن أقل من حليب الأم بكثير. كما يتميز حليب الأُتْن، بثراءِه بمادتى الليزوزيم واللاكتوفيرين المضادتين للميكروبات، والأعلى قدرًا عما تحوي أنواع الحليب الأخرى، ولعل أهم فائدة لمركب اللاكتوفيرين قدرته على تَثبيط نمو ونشاط بكتيريا القولون وبعض الخمائر في الجهاز الهضمي والتي تعتمد على الحديد في نشاطها. أما الليزوزيم فتتراوح كميته بين4-1 ميللجرام / ملليلتر حليب لكن تنخفض هذه الكمية في لبن الأم لتصل إلى 0.12 ميللجرام/ ملليلتر حليب، أي أن حليب الأُتْن يحتوى على 8– 33 ضعف ما يحتويه حليب الأم من الليزوزيم الذي يتواجد في حليب الأبقار والمَعز لكن بنسبة ضئيلة جدًّا، هذا المركب ثابت حراريًّا ومقاوم للأحماض والإنزيمات المحللة للبروتين لذا قد يكون له دور هام في الاستجابة المناعية في الأمعاء. من ناحية أخرى، فإنه يحتوي على هرمون شبيه بالليبتين الموجود في حليب الأم بمستويات مشابهة (3.35 – 5.32 نانوغرام/مل حليب). كما عُثر على ببتيدات نشطة بيولوجيًّا تُشبه هرمون الإِنسولين مشابه لعامل النمو 1، تم أيضًا العثور على جزيئات “جريلين وثلاثي يودوثيرونين” في حليب الأُتْن المجمد؛ هذه الجزيئات وغيرها الكثير تتواجد في حليب الأم والتي تَلقى اهتمامًا متزايدًا من قِبل العلماء نظرًا لدورها المباشر المحتمل في تنظيم تناول الطعام، والتمثيل الغذائي، والحالة العامة لجسم الرُّضع (2,3).

وبرغم هذا التشابه الكيميائي الظاهري إلا أن لبن الأم له ميزات خاصه فنسبة البروتين فيه مثالية للرضيع حيث إنه يؤمن له احتياجاته المثالية (1.6- 1.9 جم/كجم/يوم) والمُدهش أن كل جرام بروتين يزيد عن ذلك يضيف حملاً على كُلْيتي الرضيع قدره 5.7 مللى أوزمول، كما أن هناك دلائل بحثية تشير إلى أن زيادة الأحماض الأمينية في الدم قد تؤدي إلى تلف للأعصاب خاصة في الأطفال منخفضي الوزن عند الولادة حيث لا يكتمل عمل الكُلْيتين لديهم بدرجة مماثلة عند المواليد الطبيعيين. ومن هنا نؤكد أن حليب الأم سيظل أرقى أنواع الحليب فهو صنعة الله الذي اختص به أرقى المخلوقات وهو الإنسان المُكلف بعمارة الكون، فهناك مائة مَركب تم الكشف عنها في حليب الأم وهذا لا يُمثل سوى الزَّهْدُ من مِئات المركبات التي ما زال يُنقبُ العلماء عنها.

المركبات الرئيسية الداخلة في تركيب الألبان (جم/ 100 جم) ((4 نوع الحليب
بروتين المصل النيتروجين غير البروتينى نيتروجين الكازين المواد الصلبة الكلية اللاكتوز الدهن البروتين الماء
0.68-0.83 0.26-0.32 0.32-0.42 11.7-12.9 6.3-7.0 3.5-4.0 0.9-1.7 87.1-88.3 الإنسان
0.49-0.80 0.18-0.41 0.64-1.03 8.8-11.7 5.8-7.4 0.3-1.8 1.5-1.8 88.3- 91.2 الأُتْن
0.74-0.91 0.17-0.35 0.94-1.2 9.3-11.6 5.8-7.0 0.5-2.0 1.5-2.8 88.4 -90.7 الأفرَاسٌ
0.55-0.70 0.1-0.19 2.46-2.8 12.5-13 4.4-4.9 3.5-3.9 3.1-3.8 87.0- 87.5 الأبقار

جدول يوضح التركيب الكيميائي العام لحليب الأم (الإنسان)، الأُتْن، الأفرَاسٌ والأبقار.

يقول المولى عز وجل “وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ” (النحل/5-8).  الأصل في خلق الأنعام هو المنافع لكافة البشر؛ فالدفء ــــ وهو على الأكثر المنفعة الأصيلة ـــــ مصدرهُ الطاقة الناتجة عن تناول لحوم الأنعام وحليبها أو الدفء الناتج من ارتداء جلودها أو النُسُجُ المصنوعة من أشعارها وأوبارها وأصوافها. وهناك منافع أخرى فَصَّلَها في الآيات السابقة؛ فلكم فيها أيها الناس جمال حين تخرجونها بالغداة إلى المرعى وحين تردّونها بالعشيّ إلى المُراح، كما أن الله سخرها – رحمةً ورأفة وشفقةً بكم – لنقل أثقالكم وأمتعتكم، ثم يذكُر المولى عز وجل هذه الأنعام المُسخرة لحمل الأثقال فيحددها بوضوح وهي الخيل والبغال والحمير فهي خُلقت لنقل الأثقال وزينةً حال ركوبها للمتعة، هذه هي الأنعام التي ترونها بأعينكم وتعلموها حق العلم، لكن يخلق الله ما لم يصل إليه علمكم ولا يجول بخاطركم. وهناك ملحوظة جديرة بالاهتمام وهي غياب الإِبِل عن الذكر صراحة –رغم أن لفظ الأنعام تشملها- في الآيات السابقة، لعل ذلك لخصوصية هذا الحيوان وما يحمل من إعجاز فريد.

كما تَقَدَّم فمن أهم المنافع التي تجلبها الأنعام أن جعل الله للناس فيها طُعْمَة “لحمًا ولبنًا”، ولكن ليست كل لحومها ولا ألبانها مباحة فألبان الأنعام إمّا أن تكون من حيوانٍ ثديي حيٍّ مأكول اللّحم كالبقر والغنم والمعز والنوق فهو طاهر بلا خلافٍ، لقوله تعالى “وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ” (النحل/66)، إلا أنّ الفقهاء اختلفوا في طهارة لبن بعض الحيوانات, تبعًا لاختلافهم في حلّ أكلها, فما حَلَّ أكله كان لبنه طاهرًا، مثل لبن الفُرس الذي هو طاهر حلال عند الشّافعيّة والحنابلة وأبي يوسف ومحمّدٍ بن الحنفيّة، واختلف النّقل عن أبي حنيفة فروى الحسن عنه الكراهة في سؤره كما في لبنه، وقيل “لا بأس بلبنه , لأنّه ليس في شربه تقليل آلة الجهاد”.

بناءً على تبعيّة اللّبن للّحم فلبن الفرس نجس عند المالكيّة، فقولهم “لبن غير الآدميّ تابع لِلَحمه في الطّهارة بعد التّذكية، فإن كان لحمه طاهرًا بعد التّذكية وهو المباح والمكروه الأكل فلبنه طاهر وإن كان نجسًا بعد التّذكية وهو محرّم الأكل فلبنه نجس، والفرس من الحيوانات المحرّمة عندهم. إلا أن جمهور العلماء أقروا بطهارة لبن الفرس لما ورد في الصحيحين وغيرهما من حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، «أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ نَهَى يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، وَأَذِنَ فِي لُحُومِ الْخَيْلِ». (البخاري/5520) وكذلك لما رواه البخاري من حديث أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ «قَالَتْ: نَحَرْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَرَسًا فَأَكَلْنَاهُ» تَابَعَهُ وَكِيعٌ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ هِشَامٍ: فِي النَّحْر. (5)

حليب الأُتْن:

أول الأمر كانت لحوم الحُمر الأهلية مباحة، ثم حرمها النبي ﷺ يوم خيبر، فعن أبي ثَعْلَبَةَ، قَالَ: «حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لُحُومَ الحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ» (البخاري/5527 ومسلم/1936) قال ابن عبد البر” لا خلاف بين علماء المسلمين اليوم في تحريمها” (المغنى 9/324)، وأكد أحمد أن خمسة عشر من أصحاب النبي ﷺ كرهوها، أما قول بن قدامة “إن أكثر أهل العلم يرون تحريم الحمر الأهلية” والقاعدة ما حُرم لحمه فلبنه حرام. فهي نجسة محرّمة عند الشّافعيّة والمالكيّة والحنابلة لكنها مكروهة عند الحنفيّة وقال ابن قدامة وألبان الحمر محرمة، في قول أكثرهم ولا يجوز التداوي بمحرم، ولا بشيء فيه محرم، مثل ألبان الأتن (المغني،9/325 و9/338)، لكن رخّص فيها عطاء وطاووس والزهري، ويتفق في الإباحة الشعراوي حيث يرى أن الخيل والبغال والحمير كانت تَفنى فحرمها رسول الله ﷺ لأنها أدوات قتال وأدوات حمل فإن زال هذا السبب فلا ضرر منها وبالتالي فقد تكون ألبانها مقبولة وليست محرمة.

لبن الجلالة:

قال ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺعَنْ أَكْلِ الْجَلَّالَةِ وَأَلْبَانِهَا» (أخرجه الترمذي 1824 ( 4 / 270)، لبن الجلالة – الّتي يكون أغلب أكلها النّجاسة – ممّا يؤكل لحمه كالإبل أو البقر أو الغنم أو المعز مكروه شرب لبنها عند الحنفيّة والحنابلة (حتى تُعلَف أربعين ليلة) وهو الأصح عند الشّافعيّة، ومقابل الأصحّ عند الشّافعيّة أنّ شرب لبنها حرام، غير أن لبن الجلالة  طاهرعند المالكيّة, ولا يُكره شربه , كما رخّص الحسن في لحومها وألبانها، لأنّ الحيوانات لا تنجس بأكل النّجاسات بدليل أنّ شارب الخمر لا يحكم بتنجيس أعضائه. (بدائع الصنائع 5 / 40، وحاشية ابن عابدين 5 / 216)

حليب ميتة الحيوان مأكُول اللّحم:

لبن ميتة الحيوان مأكول اللّحم  عند المالكيّة والشّافعيّة نجس، وهو طاهر المذهب عند الحنابلة، وهو قول أبي يوسف وبن الحنفيّة، وعلتهم أنّ اللّبن مائع في أناءٍ نجسٍ فأصبح نجس أو شابَتْه النجاسة، كما لو حلب في أناءٍ نجسٍ .وعند أبي حنيفة وهي رواية عند الحنابلة لبن ميتة مأكول اللّحم طاهر لما ورد من قول اللّه تعالى في سورة النحل/66 (سبق ذكرها) حيث وصف الله تعالى اللّبن مطلقًا بالخلوص والسيوغ رغم انطلاقه ما بين الفرثٍ والدمٍ، والمنّة في موضع النّعمة تدل على الطّهارة، والصّحابة رضي الله تعالى عنهم أكلوا الجبن لمّا دخلوا المدائن، وهو يعمل بالإنفحة، وهي تؤخذ من صغار المعز فهو بمنزلة اللّبن، وذبائحهم ميتة.

أخيرًا يظل تناولنا للأغذية والأشربة خاضعًا لميزان شريعتنا الإسلامية خارج عن نطاق الأهواء والرغبات والإغراءات، فما أقر الشرع بحِلته فهو مُباح وتناولك له موقوف على قبولك الشخصي فإن قبلته فهنيئًا لك، وإن عَافَته نفسك فلا حرج أن تتجنبه.

 

المراجع

1- Giappesoni, G et al., (2004)”Factors affecting goat milk yield and its composition”. Czech J. Anim. Sci., 49, (11): 465–473

2- Salimei E and Fantuz F (2012) Equid milk for human consumption. International Dairy Journal 24:130-142.

3- Tidona, F., Sekse, C., Crescione, A., Jacobsen, M., Bordonarom, S., Marletta, D., et al. (2011). Antimicrobial effect of donkeys’ milk digested in vitro with human gastrointestinal enzymes. International Dairy J, 21, 158 – 165.

4-Guo, H.Y.; et al. (April 2007). “Composition, physiochemical properties, nitrogen fraction distribution, and amino acid profile of donkey milk.”. Journal of Dairy Science 90 (4): 1635–43.

 (5) حاشية ابن عابدين 5/216، وتكملة فتح القدير 8 /421، دار إحياء التراث العربي.