حوسبة اللغة العربية في القرن الحادي والعشرين

تعد العربية من أقدم اللغات السامية، وأكثر لغات المجموعة السامية متحدثينَ، وإحدى أكثر اللغات انتشارًا في العالم، يتحدثها أكثر من 422 مليون نسمة ويتوزع متحدثوها في المنطقة المعروفة باسم الوطن العربي، بالإضافة إلى العديد من المناطق الأخرى المجاورة، وهي من بين اللغات الأربع الأكثر استخدامًا في الإنترنت، وكذلك الأكثر انتشارًا ونموًّا.

وأوضح تقرير المعرفة العربى (2014) أن زيادة عدد مستخدمى اللغة العربية بنسبة تعد الأعلى بين مجموع العشر الأولى على الشبكة العنكبوتية، فقد بلغت معدلات النمو في استخدام اللغة العربية خلال الفترة من 2000 إلى عام 2013 نسبة 5296%.

وفي الوقت نفسه توضح التقارير والدراسات العالمية ضعف وتدني استخدام اللغة العربية على شبكة الإنترنت قياسًا إلى باقي اللغات، فوفقًا لتقرير الإحصائيات العالمية للإنترنت Internet World Stats  لعام (2017) فقد بلغت نسبة مستخدمي العربية حوالي 4.7% من المجموع العالمي لمستخدمي الإنترنت في العالم، وكشفت دراسة لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا “الإسكوا” (2012) بعنوان “صناعة المحتوى الرقمي العربي على الإنترنت” أن المحتوى العربي على الشبكة لا يتعدى نسبة الثلاثة بالمائة من إجمالي المحتوى العالمي؛ وهذه النسبة الضعيفة تمثل تناقضًا صارخًا مع إسهامات وإنجازات الحضارة العربية عبر التاريخ؛ وذلك دعا الأمم المتحدة لإطلاق دعوة بضرورة أخذ مبادرة إنشاء بوابة المحتوى العربي الرقمي؛ لتعزيز استخدام التكنولوجيا الرقمية في مجالات الثقافة والأدب والتاريخ والاجتماع. وهذا ما أكدته موسوعة موضوع العربية الإلكترونية (2014) عن تدهور حال المحتوى العربي على الإنترنت وأن عدد صفحات المحتوى العربي على الإنترنت ما يقارب 660 مليون صفحة فقط منذ إنشاء شبكة الإنترنت أي ما يعادل نسبة 0.89% من شبكة الإنترنت والتي يبلغ متوسط مجموعها ما يقارب 74.5 مليار صفحة. ولا يزال استخدام هذه اللغة ووجودها في العالم الافتراضي ضعيفًا وضئيلاً بالمقارنة بالوزن الذي تستحقه من حيث وزنها السكاني وقدراتها التواصلية وقيمتها الثقافية والجمالية.

وتقوم منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) بالاحتفال خلال السنوات الأخيرة باليوم الدولي للغة الأم، اليوم العالمي للغة العربية يُحتفل فيه باللغة العربية في 18 كانون الأول / ديسمبر من كل سنة، وتقرر الاحتفال باللغة العربية في هذا التاريخ لكونه اليوم الذي أصدرت فيه الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها رقم 3190 في ديسمبر عام 1973، والذي تقرر بموجبه إدخال اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية ولغات العمل في الأمم المتحدة. وفي السياق نفسه جعلت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم الأول من مارس كل عام للاحتفال باللغة العربية. وفي ذلك إشارة إلى أهمية الخصوصية اللغوية للأمم وتقديرًا لقيمة التنوع اللغوي على مستوى العالم، ففي عالم معولم دقت فيه المسافة بين الجماعات البشرية وتعددت فيه وسائل التبادل الثقافي وأشكاله، أصبح من المهم تفعيل دور اللغة في أي مجتمع لتسهم في التعبير عن مشاغل الناس، وفي تقديم منتجاتهم وإبداعاتهم للآخر، فاللغة باعتبارها نظامًا لسانيًّا يتكون من مجموعة من الوحدات اللغوية الدالة التي تؤمن التواصل بين جمهور المتكلمين هي أداة ضرورية في مجال التواصل الثقافي كما أن اللغة هي تعبير عن كيان الأمم الثقافي ومنجزاتها الحضارية.

ويلاحظ تزايد الاهتمام باللغة العربية في العشرية الأخيرة، فبعد أحداث 11 سبتمبر الدامية تزايدت الرغبة في مساءلة العقل العربي، وفي فهم الخلفية الثقافة للعرب، وفي هذا الإطار زادت مراكز الاستشراق والدراسات، وعقدت العديد من الاتفاقيات بين العرب والغرب للتعاون في المجالين الثقافي واللغوي، ولا تكاد تخلو أي جامعة أمريكية اليوم من قسم لتعليم اللغة العربية، وكذلك الأمر نفسه في الجامعات الأوروبية مما يشير إلى تزايد الاهتمام باللغة العربية في عصرنا الراهن.

وتعد حوسبة اللغة العربية التحدي الأبرز في عالم يتميز بوفرة المعلومات وسيولتها وسهولة تداولها، والاعتماد على التقنيات الرقمية، فالباحث عبر الشبكة العنكبوتية يلاحظ ضحالة المحتوى المعرفي العربي المعروض على شبكة الإنترنت، فحجم المحتوى العربي الرقمي على الإنترنت لا يتعدى نسبة 3% على أفضل الأحوال من المحتوى المعرفي العالمي، وهو ما يزيد الحاجة إلى الخروج باللغة العربية من صفحات الكتب والمجلدات إلى صفحات الويب والتواصل الاجتماعي الرقمي، فحوسبة اللغة العربية مطلب ملح يمكن ترسيخه بتكوين فرق بحث من أهل التخصص من لغويين وإعلاميين ومترجمين يسهرون على نقل المعرفة وتوليد المصطلحات الجديدة، وحوسبة المحتوى المعرفي باللغة العربية. وعلى رغم ظهور بعض البرامج الحاسوبية لتعليم العربية في السنوات الماضية، فإنها لم تصمد طويلاً، بل سُحبت من التداول التربوي، بمعنى أنها لم تقدم الحلول المنشودة. وإذ تعجز المؤسسات العربية عن توفير موارد لغوية رقمية تحوز من الكفاءة ما يكفي لإدراجها في مناهجها التعليمية للعربية، تظهر صورة معاكسة في كثير من اللغات الأخرى التي أدى تفاعلها مع التقنية المعلوماتية إلى وفرة في مواردها التعليمية.

وقد صار علم حوسبة اللغة أصبح أحد مقاييس التقدم والرقي العلمي للدول. كذلك أصبح أحد أسلحة الحروب حيث إن بداياته مرتبطة بأغراض التجسس. وهو أهم طرق التواصل مع الآخرين. فالدول المتقدمة تدعم هذه النوعية من الأبحاث بالمال والجهد ووآليات العلم حكومات وقطاع خاص. فاللغة أساس التواصل الزماني والمكاني. والتواصل أساس العلاقات بين الكائنات جميعها.

وهناك تعاريف كثيرة لحوسبة اللغة تختلف باختلاف المرجعيات، لكنها تتفق جميعًا في كون هذه الحوسبة تعني تلك الدراسة الدقيقة لمشكلات التوليد والفهم الآلي للغات الإنسانية الطبيعية، أي تحويل عينات ونماذج اللغات الإنسانية إلى تمثيل شكلي صوري يسهّل على برامج الحاسب الآلي تطويعه والتعامل معه. ويرتكز هذا المجال البحثي الدقيق على نظريات الذكاء الاصطناعي وعلم اللغة الحاسوبي وعلم اللغة العام والإعلاميات والرياضيات والمنطق والعلوم المعرفية.

ومن المهم في السياق نفسه إصدار وسائط رقمية متعددة لتعلم اللغة العربية وتعليمها في إطار صناعة البرمجيات التفاعلية والمعاجم الإلكترونية، وبنوك المصطلحات، وإنشاء المكتبات الرقمية وقواعد البيانات والفهارس الإلكترونية على نحو يسهم في تيسير وصول المستخدم العربي عمومًا، والمواطن الرقمي عمومًا للمعلومات، ويمكنه من متابعة وفهم اللغة العربية والإحاطة بمضامينها الثقافية، وذلك صار أمرًا ضروريًّا اليوم لتكون اللغة العربية جزءًا من حياة الناس اليومية. وقد لجأت مراكز بحثية وجامعية عربية، من بينها «الجامعة العربية» ومنظمة الألسكو «المنظمة العربية للتربية والثقافة والفنون» إلى دعم إنتاج موارد لغوية رقمية بهدف تحسين جودة التعليم عبر استخدام التقنية. وتقاطع ذلك مع تراجع مستوى تعليم اللغة العربية في بلدان كثيرة كان بعضها يبحث أيضًا عن حوافز لتعزيز الموارد اللغوية الرقمية. وعلى رغم النوايا الطيبة، لم تتوصل تلك المراكز البحثية حتى الآن، إلى إصدار مورد معجمي وتصريفي يمكن الوثوق به في إنتاج برامج رقمية تعليمية للغة العربية.

كما يجب تشجيع خريجى الجامعات على الاشتغال بالتعليم الرقمي للغة العربية، فلا بد من إنشاء جيل من الشباب الأكفاء القادرين على عصرنة اللغة، وتطويعها للصناعات الحاسوبية، وصياغة برمجيات إلكترونية لتعليم اللغة العربية للأطفال والأجانب والمبتدئين، وإنشاء معاجمة إلكترونية ثنائية اللغة، ومواقع إلكترونية تفاعلية لتعليم اللغة العربية. ولا بد كذلك من تنشيط حركة ترجمة وتعريب محركات بحث عربية ومواقع الإنترنت للترجمة الآلية من العربية وإليها، وإنشاء قنوات عربية رقمية وتلفزيونية حتى تصل اللغة العربية إلى المكانة التي تستحقها.

وهذا التحدي القائم ليس مهمة الأفراد أو الحكومات فقط، بل هو مشروع لا بد أن يشارك فيه مجامع اللغة العربية ومجالسها والجمعيات الثقافية وكل الغيورين على اللغة العربية، لأن حياة اللغة أهم من حياة أهلها.