ظاهرة الابتزاز الإلكتروني

(مخاطر استعمال تكنولوجيا الاتصال)

من مشكلات الثورة الصناعية الرابعة، وتطور وسائط الاتصال الحديثةـ تلك المشكلات المرتبطة بتحول القيم وتدهور أخلاقيات الاتصال الذي صار متاحًا للجميع، بشكل منقطع النظير، ولعل من أهمها ظاهرة الابتزاز الرقمي الذي يكاد يكون من أبرز مخاطر التواصل الرقمي، والذي، على الرغم من أشكال المقاومة التي تبذلها الحكومات في سبيل القضاء عليه، إلا أننا في واقع الحال نجد أن هذا الابتزاز الرقمي يبقى متفاقمًا، بل إنه يتطور بشكل دائم، مع تطور تكنولوجيا الاتصال، بشكل عام.

تلتقي ظاهرة الابتزاز الرقمي مع تحول السلوك البشري في العصر الرقمي، بحيث أدت إلى عديد المعضلات الاجتماعية والنفسية والأخلاقية والقيمية، وعلى الرغم من أن ظاهرة الابتزاز ليست جديدة ولم تنتج عن الرقمية فقط، إلا أن الابتزاز الرقمي يعتبر الأخطر لتميزه بطابع السرية، ولأن هؤلاء الذين يتعرضون للابتزاز لا يستطيعون أن يفصحوا عما يقع خوفًا من الفضيحة أو العار، ما يجعله متفاقمًا.

مفهوم الابتزاز الرقمي

الحق أن الابتزاز بكل أشكاله يصب في معنى واحد، كيفما كان الشكل أو الأداة التي يتم بها رقمية كانت أم غير رقمية، بحيث يعني “الحصول على المال أو المنافع من شخص تحت التَّهديد بفضح بعض أسراره أو غير ذلك”، كما يأتي بمعنى النصب (بالفرنسية: escroquerie) على الأشخاص وأخْذ إما ماله أو الحصول على مصلحة من المصالح، بدون إرادة الضحية، بطبيعة الحال.

كما أن الابتزاز يدخل فيما يسمى بالتلاعب النفسي (بالإنجليزية: Psychologica manipulation) لأن الشخص الذي يقوم بفعل الابتزاز يقوم بذلك تحت نوع من السيطرة على النفس من خلال العمل على تطويع الشخص وهي من الأمور التي تبدو في حد ذاتها قاسية أي أن الإنسان حين يسرق منه المال عبر الابتزاز إنما يكون المشكل لديه في نهاية المطاف ليس سرقة المال، فقط، وإنما يعاني بسبب السيطرة عليه نفسيًّا، والتلاعب به سيكولوجيًّا عبر التخويف والترهيب.

والابتزاز الرقمي يعني طبعًا الابتزاز الذي يتم من خلال وسائط الاتصال الرقمية أو الإلكترونية التي تجعل الإنسان يقع ضحية الإشكالات التي يمكن القضاء عليها رقميًّا فقط ولا يمكننا العمل على تزييفها أو العمل على التصدي لها من غير القانون أو من غير الأمور الرسمية التي تجعل الإنسان في نهاية الأمر يقف عند حده.

من أشكال الابتزاز الرقمي

الابتزاز المالي

يعتبر الابتزاز المالي من أهم أشكال الابتزاز الرقمي، من خلال العمل على التقرب إلى الشخص عبر إرسال أرقام كاذبة أو البحث عن شراكات عمل، أو شراكات مالية، أو ما شابه؛ حيث تتهاطل عيلنا بشكل دائم عبر البوابات الإلكترونية، وعبر البريد الإلكتروني الرسائل النصية من طرف أشخاص مجهولين يوهموننا بربح أموال طائلة، واعتمادًا على وثائق وسندات مزيفة، من أجل العمل على تطويع الشخص ليظن أن الأمر حقيقيًّا فيرسل معلوماته البنكية ليتم السطو عليها، أو يرسل المال إلى المعني بالأمر، وهي من الأمور التي تجعل الشخص الذي لا يفهم قانون اللعبة، في الغالب يقع ضحية الابتزاز الرقمي، في غياب رقابة على مواقع البوابات الإلكترونية وعلى خدمات البريد الإلكتروني.

الابتزاز الجنسي

من بين مظاهر الابتزاز الرقمي التي تتعرض لها النساء بشكل خاص ما يرتبط بالابتزاز الجنسي والذي قد يكون هدفه الأساس، في الأغلب الأعم ماليًّا، وقد يكون أيضًا لهدف جنسي محض، من خلال اللجوء إلى عمليات التخويف والترهيب عبر استعمال الجنس، بشكل تدريجي، عبر التقاط الصور المخلة بالحياء للضحية، والتي تكون إما في غفلة منها، أو عبر جرها بشكل تدريجي إلى أن تقدم صورًا وفيديوهات خادشة للحياء، وذلك ما يجعلها في النهاية تصل إلى مرحلة من المراحل التي تجعل المبتز يقوم بإجبار الضحية على أن ترسل المال، أو يقودها إلى الاستجابة لنزواته، وهي من الأمور التي تتعرض في الغالب للنساء المحافظات، وبشكل أخص الموظفات منهن، واللواتي يخشين من الفضيحة مما يجعلهن في نهاية المطاف ترسلن المال وتستجيب لرغبات المبتز الذي يسخر جميع قدراته ومهاراته الابتزازية في هذا الشأن حيث تصير الضحية طوع أمره في نهاية الأمر.

وفي هذا الصدد يعمل المبتز على تخويف الضحية بنشر صورها أو إرسالها لعائلتها، فتصير طوع أمره خوفًا من الفضيحة، وعلى كل حال لا تتوقف نزوات المبتز ولا تنتهي حين يسيطر على الضحية بشكل كامل ويعرف نقطة ضعفها التي تتمثل في الخوف من الفضيحة والعار، خاصة في المجتمعات المحافظة.

الابتزاز السياسي والثقافي

من مظاهر الابتزاز الرقمي أنه قد يتعرض بعض السياسيين إلى الابتزاز والذي يحصل في غالب الأحيان مع اقتراب فترة الانتخابات حيث يتم التواصل رقميًّا مع الضحية وتهديده عبر الرسائل النصية، أو عبر تسجيلات لكي يتراجع عن الترشح أو لكي يتراجع عن دعم مرشح سياسي أو ما شابه.

كما يتعرض لهذا الابتزاز أيضًا كثير من المثقفين أو الصحفيين أو الذين يمتلكون إيديولوجيا معينة او ينتمون إلى أحزاب سياسية معينة، من هؤلاء المعروفين في المجتمع أو في السياسة حتى يسكتوا عن قول الحق أو يعدلوا عن الكتابة أو ما شابه لا سيما في المجتمعات التي تغيب فيها الديمقراطية.

الابتزاز الديني

يتم ذلك عندما يتعرض بعض الدعاة الدينيين أو المهتمين بالشأن الديني خاصة في المجتمعات الإسلامية من الابتزاز الرقمي، من طرف الآخرين خاصة من المخالفين لهم ومن الملحدين أيضًا ومن دعاة التنوير والعلمانية، وهي من الأمور التي نشاهدها أحيانًا علنًا عبر مواقع التواصل الاجتماعي من خلال النقاشات التي تقوم على العنف كما هو الحال للتعليق على فيديوهات دعوية أو ما شابه. وغالبًا ما يتحول التهديد إلى ابتزاز من خلال تتبع هفواتهم وتقصي عيوبهم، بما في ذلك تصويرهم في حالات معينة وتهديدهم بالفضح إذا لم يلتزموا الصمت أو يستجيبوا لطلبات المبتز.

آثار الابتزاز الرقمي

الآثار المادية

يتعرض جل المستهدفين بالابتزاز الرقمي إلى الابتزاز المالي، فحتى الابتزاز الجنسي يكون هدفه في النهاية التحصُّل على المبالغ المالية، فوفق تقارير رسمية في المغرب، مثلاً، كشفت المديرية العامة للأمن الوطني في حصيلتها السنوية لـ 2021، أنّ مصالحها رصدت 3 آلاف و533 محتوى للابتزاز الرقمي. وبخلاف سنة 2021، أبرزت المديرية في تقريرها لسنة 2020، أن 300 شخصًا أحيلوا على النيابة العامة بشأن حالات الابتزاز الجنسي على شبكة الإنترنت، استهدفوا 458 ضحية، من بينهم 107 من الأجانب.

المشاكل النفسية

لعل من أبرز المشاكل التي تنجم عن الابتزاز الرقمي هي تلك المشاكل النفسية التي يعانيها الشخص الذي وقع ضحية الابتزاز، خاصة أن الأمر يبقى في غالب الأحيان سرًّا لا يبوح به لغيره خشية العار، حيث إن ذلك الصمت وعدم إيصال صوته، بل عدم إنصافه يؤدي به إلى الانهيار النفسي، وأحيانًا إلى الانتحار، ففي المغرب، وبعد استجواب بعض اللواتي تعرضن للابتزاز من طرف إحدى المواقع الإخبارية الإلكترونية، فإن العشرات من ضحايا الابتزاز الرقمي، فكر معظمهن في الانتحار بسبب الضغوط النفسية الحادة التي عانين منها جراء الابتزاز الرقمي.

المشاكل الأخلاقية والقيمية

لعل أبرز ما خلفته السلوكيات الرقمية المنحرفة التي أدت إلى تغيير جذري في منظومة القيم، ومنها الابتزاز الذي يعتبر من السلوكيات المنحرفة في المجتمع المعاصر، هي تلك المشكلات الأخلاقية التي جعلت الناس نفقد الثقة في الآخرين، وجعلت الإنسان حتى في المجتمعات المحافظة يتخلى عن القيم العليا وعن روح الجماعة والتعاطف مع الآخرين إلى نوع من الفردانية والذاتية، فضلاً عن فقدان الثقة في التعامل الرقمي.

كما أن التطبيع مع اشكال الابتزاز ومع السلوكيات المشينة أجدى إلى تدهور على مستوى منظومة القيم بحيث تفاقمت الأخلاقيات السلبية من قبيل الكذب والافتراء ومظاهر الفساد بمختلف أشكاله.

كيف نواجه الابتزاز الرقمي؟

المواجهة القانونية

يؤدي الابتزاز إلى فقدان الثقة في المؤسسات، فهو يؤدي إلى مشاكل متعددة مالية ونفسية وأخلاقية واجتماعية، كما أن خطورته وآثاره تتجاوز الأفراد إلى المجتمع والوطن والمجتمع الدولي أيضًا، إذ إن الذين يتعرضون للابتزاز في الغالب هم من المستثمرين والفاعلين الاقتصاديين والأثرياء الذين يسهمون في التنمية، وهو ما يدعو إلى المتابعة القضائية للجناة عبر تفعيل المحاكم الإلكترونية وتسريع الأحكام القضائية في هذا الشأن فضلاً عن التعاون الدولي، وتعاون الشركات الرقمية التي عليها أن تقدم المساعدة المعلوماتية للحكومات من أجل التعجيل بالأحكام القضائية في ملفات الابتزاز الرقمي.

الحكومة الرقمية

لا بد للشركات الإلكترونية والقائمين على مواقع التواصل الرقمي من تحصين التعامل الرقمي، من خلال تأمين المعلومات التي من شأنها أن تعرض الناس إلى الابتزاز، كما لا بد من التعاون دوليا مع الحكومات من أجل التصدي لظاهرة الابتزاز الرقمي والجرائم الإلكترونية بشكل عام.

كما لا بد أيضًا لمستعملي الإنترنت والمواقع الإلكترونية وخدمات البريد الإلكتروني من تحصين تعاملاتهم الرقمية خاصة على مستوى المعلومات ذات الطبيعة المالية، فضلاً عن عدم نشر الصور التي قد تكون مخلة بالحياء، كما ينبغي عدم التواصل مع المجهولين، أو ترويج المعلومات الشخصية، أو الصور، أو نشر أرقام الهاتف، أو البريد الإلكتروني بدون هدف.

التربية الرقمية

لا بد للحيلولة دون الوقوع ضحية مخاطر الرقمية والتكنولوجيات الحديثة من التوعية بالثقافة الرقمية، ومن التربية الرقمية التي على المدرسة أن تسهر عليها لتكوين جيل رقمي قادر على الانصهار في العصر الرقمي، وقادر على الاندماج في المجتمع الرقمي العالمي، و تخريج جيل مثقف رقميًّا، وهنا يأتي دور تدريس الإعلاميات في المدرسة التي لا تزال مادة ثانوية في جل المدارس العربية، ويأتي دور تدريس الإنترنت أيضًا، والحق أن الثقافة الرقمية وحدها قادرة على أن تجعل الإنسان محصنًا ضد أي ابتزاز رقمي وضد الجريمة الإلكترونية بشكل عام.

التريبة الأخلاقية

لا بد أيضًا من تربية الإنسان أخلاقيًّا وقيميًّا، وهنا يأتي دور الأسرة لأننا صرنا نرى أن الآباء اليوم لا يدركون أهمية التربية الاخلاقية في تحصين الأجيال الصاعدة من مختلف الآفات والظواهر الاجتماعية التي نتجت عن تحولات منظومة القيم، كما يمكن الحديث في هذا الصدد عن تربية أخلاقية رقمية، أو تخليق التعامل الرقمي، وذلك بمراقبة استعمال الأطفال للميديا وللوسائط الرقمية، وتوجيه هذا الاستعمال وعقلنته، فضلاً عن تعريفهم بمخاطر الرقمية ومخاطر التكنولوجيات الحديثة المادية منها والمعنوية.