المسلم القرآني وجود مؤبد وعطاء يتجدد

يشاء الخالق سبحانه وتعالى أن يكون المسلم بين الكاف والنون وسط جموع الكائنات، ويشاء عز وجل أن يهديه ويرقيه ويلزمه الرشد في الحياة بوحيه المنزل، إذا اعتصم به سلك مسلك النجاة، وإن أعرض عنه خاب وخسر ولم يظفر بشيء؛ به يحيى ويتجذر له الوجود في دنيا الناس، فلا تقوى أي قوة في الكون أن تستأصله مادام يتنفس بذاك الرحيق، و لا يفتر له العطاء في كل الميادين؛ فيجود فكرًا، وعلمًا، وأدبًا… لا تحاصره الحدود، أو يخنقه ضيق المسافات، فهو فوق كل الهامات يشع نورًا ويتلألأ وميضًا، ما دام يصدع بالحق الذي ما تفتأ تشرئب نحوه أفئدة الخلائق، وإن تعامت عليه بعض الفترات.

المسلم؛ قرآني رسالي، عقلاني روحاني، رباني، شمولي، بالقرآن يغدو متوازن التصور، عالمي التفكير، عنوان للسلام، مُصَدِّر للقيم، تاج للأنام. وكذلك هو باق آباد الزمان وآفاق الأمم، كيفما سارت به سفينة الحياة، وماجت به الرياح العاصفات، وضاقت به الأرض أو رحبت، وكيفما كان للآدميين في الدين مشارب، وفي الفكر مذاهب، وفي الفن لوعات ومواجد، يبقى المسلم وسما جامعا لكل الأطياف، وفكرا مسددا يتطلع دوما لاستبصار الملكوت، وأجمل حلم حين تخسف الأفكار، ويضرب منافذها الإعصار، ويخيم على مدارسها الدمار، ونجما صاعد حين تحلك السماء، وبدرا زاهيا حين تعكر الأجواء.

هكذا أنت يا مسلم كائن؛ هما كينونتان:

الأولى: حين سيدك مولاك الجليل أمام الخلائق بأن (خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ) (الانفطار 7 ــ 8)، واعترض إبليس اللعين أن يسجد لك، لا لشيء إلا لأنك مخلوق طيني.

والآخرة: حين انتشلتك رسالة القرآن من تحت أنقاض الوثنية الضاربة بقاع الأرض، فتصعدت به إلى العلى تنسج الفكر بعدما طاشت العقول، وتشيد الصروح كلما هوت الأسقف، واعترضك إبليس كرة أخرى مدججا بمشارب الفكر مذ ذاك مجيشا جنوده يبتغي اجتثاثك، لا لشيء إلا لأنك توحد مولاك، وتأبى إلا أن تستمر بالعطاء تأبى الإبادة والفناء.

زين المولى شرائع السماء لك بشريعة أحمد التي منها وإليها وسمت مسلما، لتكون بعدها يا مسلم مشعلا للسلام، وعلى محياك البهي أنوار الوحي تختزل بها جمال الأكوان، وقد عقلت كل الأسماء والأعلام، ووعيت كل المقاصد والأفهام، وأشربت الإيمان لا كما أشرب الضالون الكفر والعصيان، وفهمت كل معاني الأدواء والأسقام، ودامت لك المسرات حين تُبَخّر كل ما تراه الآن بما لا تراه وإليه أنت قاصد متفان.

افخر أيها المسلم يا فيض نور إلهي ملأ الأرجاء وأنار صفحة الزمان، وأزال الغبش والظلام، أنت كوكب منير أشرق في صفحة السماء ونافح ضياء النجوم الغراء، مولدك نور أضاء القصور، وأنت البدر الذي حين طلع من ثنيات الوداع رقصت لطلعته الأقمار، وحين آوى واستقر سكنت الديار، أنت روح فوارة غضة طرية، سقاؤها الوحي ومنهجها الهدي، فيهما الغداء والشفاء، لتنبض بعدها بالحياة وتتفجر بالعطاء، وتغدو طاقة فريدة، وجوهرة نفيسة حين تزهر وتومض يخسف وميض اللآلئ والدرر.

يا مسلم، يا روحا سكنت الوجود وأوتدت فيه الجذور، وبذرت فيه البذور، فأبى التاريخ حين تجرعك أن يلفظك، وأزهرت البقاع بالفتوح بعد أن أقمت فيها العدل، وبكت عليك المآثر بعد العزل، وكل يوم والأرض ثكلى وتنوح، تترقب طلعة البطل.

أنت التراث المتأصل والإبداع المتجدد، أنت الفكر الرشيد والمنطق السديد والأدب الحميد، أنت النموذج البديل للإعمار والتشييد، لأنك صنيعة الرب المجيد لا نظير لك في عالم الكائنات، ولا ند لك من الأحبار والقساوسة يضاهيك في القربات لرب الأرض والسماوات، لأنك على النهج الأحمدي والحق الأبدي.

أيها المسلم خلقت لتعبد، في محاريب الصلاة تتودد، وتجأر لمولاك العظيم كالغصن الفتي الطري تخشع وتتمدد، وفي دنياك تقنع وتزهد، وفي ساح الوغى ترغي وتعربد، بأناتك تباغت جيش الأعداء، ووثبتك تنال هدفك وتسدد، وفي معترك الحضارة تصنع الأمجاد وتجدد؛ بإيمانك، وعلمك، ورجاحة عقلك، ودماثة خلقك، ووضوح مقصده وبغيتك…، بما جبلت عليه من المحبة والسماحة والسلام…، وبما كلفت به من التكاليف والأحكام، امتطيت بساطا وغدوت كالطير مرفرفا فوق هامات الأقطار، بجهادك فتحت الأمصار وأنرت الديار.

أنت أمل اليوم بعد أمواج اليأس المتلاطم، أنت الإشراق بعد ليل كئيب حالك، أنت الحلم الذي طال غيابه على مرقد الأجفان تبيد الكوابيس والأسقام.

كنت أنت الذي أفزعت بصمودك وبرباطة جأشك هدوء عروش الأكابر، بجلدك في نصر الحق، ولما رئي فيك من عزة وشموخ، أبكيت مقلة النجاشي ومن حوله من القساوسة لما أعلنت له تضجرك من جور الجاهلية العمياء، وكشفت له أصالة الأخلاق التي تحملها، وشمول العقيدة التي دنت لها، وكمال التشريع الذي تعبدت به ربك الواحد الأحد الفرد الصمد إله عيسى ومحمد، صلوات ربي عليهم جميعا ما أبقى الزمان وخلد، وأرعبت رستم يوم القادسية وهو قائد جيش الفرس حينها لما أزحت له اللثام عن أصالة معتقدك السليم وفكرك القويم الذي بهما تبتغ : إخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة “

أنت الصديق الصنديد حين أدب المرتد، و عمر المغوار حين أقام العدل، و عثمان الحيي لما أشاع المجد، وجمع بجمع القرآن أمة أحمد، و علي القوي حين كسر شوكة المارقين وأقام الحد، أنت سيف الله المسلول خالد بن الوليد الذي ملأ التاريخ بطولات فأبى وهو يغرغر أن يموت كالبعير ممددا، واخلص الروح إلى باريها مدويا : ” إذا مت فلا نامت أعين الجبناء “، أنت صلاح الدين الأيوبي حين يمرغ أنف رتشارد قلب الأسد في التراب، أنت قطز محرر المقدس وقاهر التاتار، أنت أسد الصحراء شيخ الشهداء المختار الذي اختار أن يموت شنقا على أن يحيى ذليلا، ولم يثنيه حبل المشنقة أن يعلنها مدويا بكل عزة وشموخ: إن عمري سيكون أطول من عمر شانقي” فتأمل كيف يتحسس وجدان المسلم الخلود حين يصل خط الزمان.

أنت بطل الأبطال في زمن الأندال، وصهيل الخيول في ركب البغال، أنت طوفان يجتث المظالم، وبركان يقذف المعادن، وإصباح يحمل النسائم، أنت مغير الغربان وباعث الحمام.

كيف لا تقوى الآن وأنت كل ذاك يا مسلم أن تعيد الموازين المختلة، وتبني الفضائل المعتدلة، وتزيح الظلام المخيم بنسائم الإصباح في كل البلاد العامرة، وترتب الأوراق المبعثرة !؟، كيف لا وقد نهلت الوحي حتى ارتويت فصرت رواء، وحين تلقيت آي القرآن صرت في الخطابة خطيبا وفي الأدب أديبا!؟، بل أنت أستاذ العلوم، مبدع النظم، وفيلسوف الزمان وفقيه الأنام، ومحتكم الخصمين، وقاضي المدعيين.

أنت صفوة الأجناس ململم الأعراف، مهذب المشاعر، رقيق الخواطر، قوي البنيان نقي الجنان، صفي النهى عذب اللسان، أبيض الكفين، مرفوع الهامة دوما، أنانتك أناة هر ووثبتك وثبة ضرغام، لا تخضع أو تلين إلا لمولاك العظيم.

يا مسلم القرآن، يا بدر الزمان، لك من الأوصاف ما يعجز اللسان أن ينوح، حين تخالط هدي السماء، وما دمت تغرف الفكر والفهم والرشد من الروح؛ فالوحي روح تتلقاه الروح، وكيف لمن لا روح له أن يتلقى روح القرآن؟، وكيف لمن تشرب تلك الروح أن يبقى مكتوف الجنان؟ يا مسلم؛ أنت نهاية الحلم الذي حتما سيغدو واقعا كما كان.

ولا يضرنك بعدها يا مسلم يا سفير السلام أن صرت بما تحمله من إشراق ومكارم نكرة في عالم يسوده البلهاء ويسوسه الجبناء، وزمان جائر غير منصف تغدو البطولات فيه منسيات ويصفق فيه للسخافة ويحتفل فيه للهراء، زمان يعلي كل خسيس، ويزري كل نفيس.

لا يخزيك أبدا أن عتم عليك بكل وسائل التعتيم وأنت صاحب الأنوار، أو همشت عن ميادين الفكر والحياة وأنت سيد القرار، ولا تحزنن على غدر الغادرين بك فطالما غدر بالأبطال، والغدر شيمة الجبناء الذي يتوجسون خيفة أن يقابلوا القوة بالقوة، والوثب بالوثب، والفكر بالفكر.

لا يحبطنك يا مسلم أن تعيش في زمان ليس فيه من إنجازاتك إلا صرخات محتشمة ـــ على قوة نفوذها وجذوة مقصدها ــ ما تلبث تنكسر أصداؤها أمام صخب الكلمات المتنطعة ودعر المظاهر المتنكرة، وليس فيه من الأمجاد التليدة إلا رفع السيوف في المحافل طربا، ونفث البارود في الصرب تباهيا واحتفالا…

لا يضرنك أن تعيش غريبا وسط الجموع وتتنفس الصعداء في جو مختلط النسائم، وفي واقع منفصم يمسي فيه الحليم حيرانا والصاحي سكرانا، ويرى فيه ذو اللب الفطن البعرة فيحسبها جوهرة.

حسبك يا مسلم يا مشعل الأمم ويا منافح القمم رغم الحال المأزوم والوضع المعطوب أنك علم شهم سوف يضل مرفرفا آباد الزمان.

وثق في عزائمك عساك تجثو حين تخبو كل المهارج، ويخرس كل هارج، ويستيقظ فيك الحلم الذي أرق مضجعك، ويشتعل فيك فتيل القرآن من جديد لتنفجر بالعطاء. إن زمن الهزل قصير، فترقب ساعة النفير، حين يستغيث بك المستغيثون الذين أبرحتم أمواج الفكر ضربا، واجتثتهم من كل أصيل، وجرفت كل أحلامهم، إلا حلمك يا مسلم القرآن، لأنك آفاقي رسالي.

يكفـــيك يا مسلم مهما تجرعت مـــن هزائم، أن لك ربًّا حليمًا كريمًا جبارًا منتقمًا لك وليًّا وناصرًا …

افخر أنك مسلم لك تاريخ مخلد، ومجد مؤبد، وأمل لا يباد، ووجود متجدر متأصل في كل البلاد رغم حسد الحساد وسهام الأحقاد.