يسجل الطب الحديث نجاحات باهرة في كافة مجالاته العلاجية، والجراحية، والوقائية. لكن بين حين وآخر تطالعنا تقارير صحفية، وبرامج تلفازية، ودعاوي قضائية ضد “مضاعفات جسيمة ـ كوفاة أو عاهات مستديمة أو أضرار بليغة ـ نتجت عن أخطاء طبية”. فما هي خلفيات تلكم “الذنوب الطبية” التي تشمل ـ وفق منظمة الصحة العالميةـ نحو عـُشر (واحد من كل عشرة) مرضى العالم. ورغم أن المعدل الدقيق لهذه ” الذنوب” غير معروف، بسبب القصور في الإبلاغ عن بعضها، إلا أنها تبقي “مشكلة عالمية” حتى في الدول ذات الأنظمة الصحية الجيدة والمتطورة.
في تاريخ ممارسة مهنة الطب والجراحة، وتجسيدًا لأخلاقيات الطبيب، ومهاراته، والتزامه بميثاق الشرف المهني، يُذكر قًسم “أبو قراط” (450 ـ 377 قبل الميلاد):”… أقسم أن أفي، قدر جهدي وطاقتي، بالقسم والتعهد التاليين: أن أضع معلمي في الطب في منزلة والدي، وأشاركه علمي، وإذا اقتضي الأمر أن ألبي احتياجاته متخذًا من أبنائه إخوة لي، وإذا رغبوا في تعلم الطب، أن أعلمه لهم دون مقابل أو رهن، وأن أشارك في التعليم وفي الدروس الأخلاقية، وأن أفيض بعلمي على أبنائي، وأبناء معلمي، وعلى التلاميذ الذين أتعهدهم، قسم يتبع قانون الطب وليس أي شيء آخر، وأن أوجه العلاج لمصلحة المرضى، قدر طاقتي وتقديري، وأن أمتنع عن كل شر وعن كل ظلم، وألا أضع السم لأحد إذا طلب مني ذلك، أو أقترح شيئًا مماثلاً، وبالمثل لن أساعد أي امرأة على الإجهاض، وأن أقضي حياتي ممارسًا لمهنتي بكل نقاء وطهارة، وألا أمارس العمليات الجراحية تاركًا إياها للمختصين بها. وإذا دخلت بيتًا أدخله من أجل نفع المريض، ممتنعًا عن كل شر مُفسد، خاصة غواية النساء والأطفال، أحرارًا كانوا أم عبيدًا. ومهما رأيت أو سمعت في المجتمع خلال ممارستي أو حتى خارج أوقات ممارسي مهنتي أن أخفي ما ليس لإفشائه حاجة، حافظًا للأسرار كالتزام في مثل هذه الحالات. فإذا وفيت بهذا القسم دون نكث، أكون قد حظيت بنعمة التمتع بالحياة وبمهنتي مكرمًا إلى أقصى حد بين الناس، وأما إذا نقضت عهدي ونكثت بيميني فإنني أجازى بالعكس”.
ومن المعلوم أن العمل الطبي “نشاط مهني له أخلاقياته، وقواعده، وأصوله الراسخة والمتراكمة عبر السنين، ويلتزم بها الطبيب والجراح المؤهل، والمُرخص له بمزاولة المهنة”. وعليه بذل أقصى جهده لتشخيص أسباب المرض، وتوفير العناية المطلوبة لتحقيق غرض التطبيب، والعلاج. وتخليص المرضى “بموافقتهم الصريحة أو الضمنية” من العلل التي ألمَّت بهم، أو تخفيف حدة آلامها، أو الوقاية منها. وذلك دون تكاسل، أو تقصير، أو إهمال. لكن خلال عقد واحد.. توفي نحو خمسة ملايين شخص بسبب “ذنوب / أخطاء طبية” في الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد الأوربي، وأستراليا، وكندا، ونيوزلندا. وقدرت قيمة الخسارة الناتجة عن تلك الخطايا بنحو واحد تريليون دولار. وتشكل نسبة الأخطاء الطبية حوالي 7,5% في أمريكا وكندا، وحوالي 11% في الدول الأوروبية.
وتعد الولايات المتحدة أكثر دول العالم إنفاقًا على الرعاية الصحية بواقع 1,5 تريليون دولار سنويًّا. وفيها نشرت إحصائية (عام 2000) للمنظمة الطبية تشير لارتفاع عدد الوفيات السنوية التي اقترفتها الأخطاء الطبية إلى 98,000 وفاة. وكان مجمل التكلفة السنوية لهذه الأخطاء بالمستشفيات ما بين 17 – 29 بليون دولار. وفي بريطانيا، يبلغ عدد الوفيات بسبب الأخطاء الطبية 40,000 شخص، بارتفاع نسبته 500% خلال السنوات العشر الأخيرة. وهذه الأخطاء مسؤولة عن 19% من إجمالي الوفيات في أستراليا. وتصل نسبة الأخطاء الطبية التي تحدث أثناء عمليات الولادة 27%، وأثناء العمليات الجراحية 17%، وفي الحالات الباطنية 13%، وفي طب الأطفال 10%. ولا توجد إحصائيات دقيقة وكافية لمعدلات الذنوب الطبية ونسبة الضرر الحاصل من جرائها في كثير من بلدان الشرق الأوسط.
تعريفها، وأسبابها
الذنب/ الخطأ الطبي Medical error: (خطأ فاحش لا تقره أصول الطبابة ولا يقره أهل العلم والصنعة من ذوي الاختصاص. وهذا الذنب الطبي ناجم إما عن تقصير، أو إهمال أو جهل أو عدم بذل العناية اللازمة من قبل الطبيب أو الفريق الطبي المعالج، ونجم عنه ضرر أو وفاة، وهو كل نشاط سواء بالفعل أو الترك لا يتفق مع القواعد الطبية وينتج عنه ضرر). ويعرف أيضًا بأنه: “كل مخالفة، بسيطة أو معقدة، أو خروج عن القواعد والأصول، وإخلال الطبيب بواجبات المهنة من الحيطة والحذر واليقظة، مما يؤدي لفشل التشخيص الدقيق، وعدم استكمال الخطة العلاجية”. وهو الذنب الذي يرتكب “نتيجة انعدام الخبرة أو الكفاءة أو المتابعة من قبل الطبيب الممارس أو الفئات المساعدة أو نتيجة لطبيعة علاج معقد، مما يؤدي للوفاة، أو لإطالة التنويم بالمستشفى، أو لإعاقة دائمة عند الخروج منها”. وقد يكون نتيجة “ممارسة عملية ودوائية وجراحية وتجريبية وتجميلية غير سليمة وغير دقيقة، بالمخالفة للقواعد المنظمة لذلك”. كذلك نتيجة “سلبيات في عمليات التخدير، وإيقاف الأنفة، وتلويث الجروح، ونسيان أدوات جراحية داخل جسم المريض”.
ولعل هذه الأخطاء الطبية ناجمة عن مداومة الأطباء والجراحين ساعات عمل طويلة فيها من الإرهاق والتعب ما فيها. مع عدم استشارة من تستدعي حالة المريض الحرجة استشارته. وهناك خطايا عدم التواصل ونقل المعلومات الطبية بين الفريق الصحي الواحد أو بين الأقسام المختلفة. كذلك عدم توافر/ تأخر وصول نتائج التحاليل في وقتها المناسب للحالات الحرجة أو فقدان المعلومات الطبية عن المريض عند نقله من قسم طبي إلى قسم آخر.
المسائلة الطبية، و”التوبة“
إذا ما أذنب أو أهمل أو أخطأ الطبيب فإنه يُسال ـ جنائيًّاـ عن نتائج عمله بوصفها “جرائم غير عمدية، وأخطاء فنية ومهنية”. بمعنى أن الطبيب غير مسؤول عن نتيجة العلاج إذا قام بأداء واجبه كاملاً حسب الأصول الطبية. فعند أخذ موافقة المريض على العلاج أو عند طلب الطبيب للمعالجة فإن ذلك يعد واجبًا على الطبيب، والواجب لا يتقيد بشرط السلامة. حيث إن الطبيب يقصد مصلحة المريض ولا يقصد الإضرار به”. ومن وجهة نظر أخرى فإن “الخطأ الطبي مسئولية مشتركة بين كل أفراد المنظومة الطبية والجراحية”. ومن الملاحظ أن الأطباء في العالم الغربي مؤمنون ضد الأخطاء الطبية، وترتفع بَوصلات التأمين على ذوي الأخطاء المتكررة. وقد يصلون أحيانًا إلى عدم حصولهم على التأمين بسبب ضعفهم الوظيفي وذنوبهم المتكررة والباهظة. وقد لا تتحمل المؤسسة الصحية التعويضات بشكل فردي. ولذلك تحافظ المؤسسة الصحية على كفاءة الاختيار ومستواه العلمي. بالإضافة إلى دور نقابات الأطباء في رفع المستوى العلمي لمنتسبيها. وتتم مراجعة الشهادات ومستوى الأطباء بشكل مستمر. فتقليل الأخطاء الطبية يتطلب مراجعة شاملة للمؤسسات الصحية من قبل لجان ذات خبرة وكفاءة عالية وتعطي صلاحيات قانونية. وتنظم الدول لائحة قانونية في هذا الشأن، وهناك لجان تحقيق وآداب للمهنة. فتفرض بحق الطبيب المخالف عقوبات مسلكية مثل: التنبيه مع أو بدون التسجيل، التأنيب، الغرامة المالية، المنع من مزاولة المهنة لمدة لا تزيد عن سنة أو المنع النهائي (الشطب) ويتم بإصدار مرسوم عادي واقتراح وزاري. ويبقي أن يتوب “توبة نصوحًا” عما اقترفت يداه وما جنته خطاياه.
إجراءات وقائية من الذنوب الطبية
حددت منظمة الصحة العالمي ة (WHO) (2)، عدة شروط جاءت بمنزلة حلول للوقاية من الاخطاء الطبية وهي: عدم الخلط بين الادوية المتشابهة، من حيث الشكل واللفظ، وتحديد هوية المرضى، وتوفير جميع المعلومات الخاصة بالمريض عند احالته، واداء الاجراء الجراحي الصحيح في الموضع الجسمي الصحيح، ومراقبة تركيز المحاليل، وضمان ملاءمة الادوية المقدمة في جميع مراحل الرعاية الصحية، وتلافي الخلط بين الاسلاك الدقيقة “الأساطير” والأنابيب، واستعمال أدوات الحقن مرة واحدة فقط، وتحسين نظافة اليدين للوقاية من أنواع العدوى المرتبطة بالرعاية الصحية. مع إنشاء برامج ودورات متعددة للتعليم الطبي المستمر لتقليص الأخطاء الطبية والتوعية بهذا النطاق. وتشجيع العاملين والمراجعين بالقطاع الصحي للإبلاغ عن الأخطاء الطبية. وذلك بوضع طريقة (مثل الإنترنت، والهاتف المخصص للبلاغات، والاستمارات الورقية) تساعد على سرعة الإبلاغ عن مثل هذه الحوادث. والنظر إليها بالدراسة والتحليل لمعرفة سببها، وسبل حلها وعدم التعامل معها بطريقة البحث عن المجرم وعقابه. وإنشاء نظام لعدم تكرار هذا الخطأ، مع تبني معيار صارم لمعدل الأخطاء الطبية والسعي الدائم للوصول له.
كما ينبغي إخضاع المؤسسة والفرق الطبية، والأجهزة العلاجية إلى معايير جودة ثابتة ووضع إجراءات وقائية لتفادي الأخطاء البشرية، واستخدام تقنيات حديثة تساعد على إعطاء الجرعات الدوائية الصحيحة للمرضى والتنبيه عند اختلافها أو تغييرها. مع تهيئة مناخ العمل للعاملين بالقطاعات الصحية من تقليل ساعات العمل وإعادة النظر في نظام المناوبات، ومراعاة عدد المرضى للطبيب الواحد بحيث يعطى المريض حقه من قبل الطبيب، وزيادة الوعي عند المرضى والمراجعين وتثقيفهم صحيًّا، وتشجيعهم على الدراية والفهم والتفاعل الإيجابي بخصوص الرعاية الصحية المقدمة لهم. وعلى جميع المؤسسات المعنية القيام بزيارات ميدانية مفاجئة للمستشفيات ومراجعة التشريعات ومستوى الجودة والعمل ومراجعة ملفات المرضى والاستماع لشكاوى المرضى، وتملك تلك المؤسسات صلاحيات لوقف عمل المستشفيات المخالفة، أو أي من الكوادر الصحية العاملة في حالة وجود أي تجاوز وذنب وظيفي أو مهني.