بعد انتهائي من أداء صلاة فجر يومي الثاني من أيام رحلتي النيلية من القاهرة إلى المنيا، صعدت إلى سطح الباخرة، وكنت قد عزمتُ على التقاط مشهد الشروق في أفق النيل. سحبت أحد كراسي الخيزران الموزعة حول حمام السباحة، تموضعت قرب الدرابزين المطلي باللون الأبيض الفسفوري، في مقدمة الباخرة.
بدأ تسلل خيوط الفجر الأولى تباعًا، الكاميرا في يدي، محجر عيني اليمنى ملتصق ب منظار الكاميرا لأحدد المنظر، أصبعي على زر التقاط الصور، كأصبع جندي على زناد بندقية.. في لحظة اكتمال بزوغ قرص الشمس فوق قمم الأشجار والنخيل التي تغطي الأفق، كان قارب صيد صغير يحمل صيادًا ومساعده قد خرج من جوف ظلام الأمس وتوجه باتجاه الشمس.
انتظرت حتى يجدف الصياد ومساعده إلى النقطة التي يتقاطع عندها زورقهم الصغير مع خط انعكاس ضوء الشمس على سفح النيل.. حانت اللحظة.. ضغطت على زر التصوير، كليك، ها قد اقتنصت الصورة التي انتظرتها وباتت محفوظة في كارت الذاكرة داخل الكاميرا.
خلال الخمس وأربعين ثانية التي احتاجها الصياد ليتمركز بقاربه تحت قرص الشمس الوليد مباشرة، ومن خلال منظار عدستي المتحفزة، وغالق العدسة (الشتر Shutter) المتأهب للانغلاق، بدت طارة العدسة الدائرية أشبه بساعة كبيرة معلقة على جدار الزمن، انبثق صوت دقاتها الأزلي متناغمًا مع العد التنازلي لمؤقت اللقطة داخل عدسة الكاميرا،
خلال فترة السكون الذي غلفت تلك الثواني الخمس وأربعين، وفيما كانت عيني تتمتع بهذا الجمال الخلاب، ذهب عقلي هو الآخر في نزهة من نوع مختلف، التنزه في الأفكار عبادة تأملية موازية لعبادة التأمل بالنظر في ملكوت الله (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا) (العنكبوت: 20)، حيث يستكمل العقل بالتفكير عمل العبادة بالعين؛ قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [آل عمران: 190-191].
أخذ عقلي يتساءل: تُرى كم فجرًا مثل هذا بزغ على هذا النهر العجوز، كم فجرًا استقبله النهر الذي يمثل فجر الإنسانية ذاته، وكم صيادًا شق عبابه في مثل هذا التوقيت طلبًا للرزق منذ الفجر الأول للكون؟!
عبر سنوات عمره الطويل، كم سمكة منحها النيل للصيادين؟ كم حقلاً ارتوى من ماء النهر العجوز؟! كم طيرًا سقى خلال مشوار تفجره عند بحيرة فيكتوريا في أعماق القارة الأفريقية إلى مصبه في البحر الأبيض المتوسط؟!
سواء استيقظ هذا الصياد باكرًا مثلي، أو استكمل نومه. سواء خرج لصيد السمك، وخرجت أنا لصيد الصور، أو لم نخرج، فإن نهر النيل مستمر في التدفق. يمكن للصياد أن يحصل على سمكة شهية، أو أن يفوتها، كما يمكنني أن أحصل على صورة رائعة أو أفوتها، مثل باقي أفراد الرحلة الذين يغطون في نوم عميق الآن. بقدر ما تكون مهتمًّا، سيعطيك النيل من كنوزه ويمنحك من أسراره. ولكن النيل لا يتدفق من أجلك، إنه يتدفق سواء كنت موجودًا أم لا. إنه مثل كل الأنهار لا يجري من أجل الصيادين، ولا لأجل الحقول العطشى، ولا يجري من أجل عدستي العطشى للجمال حيث كان. إنه ببساطة يجري هنا منذ آلاف السنين. يمكنك أن تروي عطشك، يمكنك أن تنبهر بجماله أو تتجاهله، هذا شيء يعود إليك، فالنهر حقيقة لم يكن يتدفق من أجلك، بل إن النهر يجري وحسب. إنه شيء عرضي أنك تستطيع أن تحصل على الماء من أجل حقلك. إنه شيء عرضي أن الصياد يمكن أن يسترزق من بيع السمك الذي يصطاده، شيء عرض أن التقط الصور من أجل إشباع احتياجي للجماليات.
بالنسبة للنهر، إنه شيء عرضي كون الإنسان يستطيع الانتفاع منه لقضاء احتياجاتك، سواء المادية أو المعنوية. سواء شكره الصياد على منحه السمك وشعر بالامتنان تجاهه، أم لم يفعل. سواء امتدحت أنا جماله أو لم أفعل سيظل النيل جميلاً وكريمًا بالقدر نفسه، كما كان منذ فجر البشرية الأول ولم يزل!
تركت الكاميرا تتدلى على صدري، فتحت ذراعي بموازاة حواف الدرابزين الزاوية في مقدمة الباخرة، وفي مشهد تيتانيكي بامتياز، سمحت لكل الهواء باجتياح رئتي وغمر كل شُعبي الهوائية بنسائم الفجر النيلية الطازجة.
ذكرتني مفارقة العرفان والجحود، بالسؤال الذي وجهته إليَّ صديقتي ذات الميول الصوفية، عندما شكوت لها جحود الأحبة ونكرانهم للجميل، عندما استوقفتني فجأة وسألتني: أيهما تختاري؟ أن تكوني محبوبة أم مُحبة؟ أي الخيارين تفضلين؟!
حينها، أربكني السؤال. لكني عرفت إجابته الآن من خلال هذا السؤال الذي انبثق في ذهني من ثنايا الصمت والنيل والتأمل:
ماذا سيحدث إذا اختفى كل الصيادين، وكل المصورين، وبقي النيل هنا وحده؟! هل سيكون هناك أي تغيير؟! ماذا سيحدث إذا استمر في التدفق هكذا وحده أزمانًا وأحقابًا، دون أن تدرك كرمه وجماله أي عين؟! لا عين صياد ولا عين مصور؟!
ماذا سيحدث إن لم توجد كل قصائد الشِّعر العربي في مدح النيل؟!
لو لم يُطلق على حافظ إبراهيم “شاعر النيل”؟! لو لم يكتب أحمد شوقي:
النيلُ العَذبُ هُوَ الكَوثَر | وَالجَنَّةُ شاطِئُهُ الأَخضَر |
رَيّانُ الصَفحَةِ وَالمَنظَر | ما أَبهى الخُلدَ وَما أَنضَر |
لو لم يكتب الشاعر السوداني إدريس جماع في قصيدته “رحلة النيل” التي كانت موضع افتخاري الطفولي بين زميلاتي في المدرسة لوجود اسمي بها:
النيل من نشوة الصهباء سلسله | وساكنو النيل سمار وندمان |
ماذا سيحدث للنيل لو لم يكتب الشيخ صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي:
لِمَ لا أهيم بمصر | وأرتضيها وأعشق |
وما ترى العين أحلى | من نيلها إن تدفق |
ماذا سيحدث لو لم تتغن بجمال النيل جميع المطربات المصريات تقريبًا، بدءًا من أم كلثوم، مرورًا ب شادية وعفاف راضي وانتهاءً ب شيرين عبد الوهاب؟! ماذا لو لم تقدم كوكب الشرق اثنين من أجمل أغانيها عن النيل، الأولى باسم “النيل”، وهي من كلمات أمير الشعراء أحمد شوقي، وألحان رياض السنباطي، والثانية باسم “سلامًا شباب النيل”، وهي من كلمات الشاعر إبراهيم ناجي وألحان رياض السنباطي.
ما الذي سيحدث لو لم يقدم موسيقار الأجيال أغنية بعنوان “النيل نجاشي”، وهي من ألحانه ومن كلمات أمير الشعراء أحمد شوقي، وأذيعت في فيلم الوردة البيضاء. لو لم يغنِّ له محمد قنديل وعبد الحليم والأصوات النوبية البديعة: أحمد منيب ومحمد منير؟
ماذا سيحدث إذا اختفى من التاريخ كل محبي النيل؟ ماذا سيحدث لو تنكر الجميع للنيل وتركوه وحيدًا؟ هل تعتقد أنه سيكون ثمة اختلاف؟! هل سيعاني النيل؟ هل سيموت؟! هل سيصاب بالهلع؟ هل سينتحر؟! ماذا لو لم يشكره أحده على هباته التي مهدت لإقامة أقدم حضارات العالم؟! هل سيصاب بالخذلان وتدركه عقدة الحرمان أو جرح التخلي؟!
لن يحدث للنيل أي تغيير إن لم يحبه أحد، لن يحدث أي تغيير لو لم يقدره أو يوجه إليه الشكر والثناء أحد، لو لم يسترع جماله انتباه أي أحد. لن يحدث أي فارق سواء مر به أحد أصلاً أم لا، إنه أمر غير ذي بال بالنسبة للنيل. سيظل جميلاً ولو لم يتغنَّ بذلك أحد، سيظل كريمًا مانحًا للحضارات والهبات ولو لم يشكره أحد. إنه مستمر في تقديم جماله وبهجته وفرحه وتسبيحه إلى الإله، مستمر في عزف سيمفونية التسبيح الكونية الخالدة.. إنها طريقته في العبادة، أن يجري من منبعه إلى مصبه ويمنح عطاءه فحسب!
إن المُحب نهر، بينما المحبوب شيء عرضي. المُحب يتدفق، ويمكنك أن تقاسمه، يمكنك أن تنعم به، يمكنك أن تتشارك وجوده، يمكنك أن تغرق فيه، ولكنه ليس من أجلك أنت. إنه لا يتدفق من أجلك أنت بالذات، إنه ببساطة يتدفق. ببساطة يُحب، سواء كنت أهلاً لهذا الحب أم لا، سواء شكرت هذا الحب أم جحدته، استمر النيل في منح هداياه الأبدية رغم تعاقب دول الاستعمار والتملك، بقي النيل متساميًا على كل قوة، يمنح البلاد من الرخاء والسعادة ما يشجعها على معاصرة الجبابرة، ومكافحة طوارئ الدهور. الشخص المحب يستمر في منح هداياه الأبدية دون أن ينتظر من أحد شيء. يحب لأنه لا يسعه إلا أن يكون محبًّا. يمنح محبته حتى لعجاف القلوب.. أولئك الذين لا يُصلح الحب فساد قلوبهم، حتى لو قدمت لهم -مثل النيل- على مدى سبع آلاف سنة من السنين العجاف، سنابل الحُب!!
الإنسان الناضج فقط هو الذي يستطيع أن يمنح ويعطي، بل إنه الشخص الوحيد الذي يستطيع أن يعطي، لأن لديه ما يعطيه. عندما تكون ممتلئًا بالحب فإنك ببساطة تمنحه، عندها تكون محبًّا سواء كان الآخر كذلك أم لم يكن. عندها لا يكون الحب علاقة، بل يكون حالة.
يولد الطفل معتمدًا على أمه، فيكون حبه تجاه الأم هو (حب نقص) لأنه يحتاج الأم. ولن يستطيع البقاء على قيد الحياة دونها. إنه يحب الأم، لأنها حياته. ويبقى الملايين من البشر طفوليين طوال حياتهم لا ينضجون أبدًا. إنهم يكبرون في العمر، ولكنهم لا يكبرون في التفكير، تبقى نفسياتهم صبيانية غير ناضجة. إنه دائمًا في حاجة إلى الحب. إنهم يتوقون إليه مثل الطعام.
في الحقيقة، هذا ليس حب، فالطفل سيحب أي امرأة تلبي احتياجاته، فالأم بالنسبة إليه نوع غذاء يتناوله. إنه ليس فقط الحليب الذي يحصل عليه من الأم، إنه الحب أيضًا، وهذا أيضًا ليس حب إنه احتياج. هو (حب مبني على الاحتياج).
لذا، لا يصح أن نخلط بين الحب و “الحاجة للحب”. كيف يمكن أن يكون الاحتياج حبًّا؟! إن الحب رفاهية وسخاء. إنه الوفرة، إنه امتلاك الكثير من الحياة إلى درجة أنك لا تعرف ماذا تفعل بها، فتبدأ في مشاركتها. تفيض بحيث تشرع تلقائيًّا لمنحها وسكبها في قلوب الآخرين. إنه وجود الكثير من الأغاني في قلبك يجب أن تغنيها، يجب عليك أن تؤدي رقصتك المولوية الخاصة. هناك الكثير من القصائد يجب أن تنشدها، والكثير من التسابيح والأوراد التي يجب أن تتمها سواء كان هناك من يستمع أم لا، ليس الأمر مهمًّا. إذا لم يكن هناك من يستمع، عندها أيضًا يجب أن تغني وترقص مع الكون، يجب عليك أن تؤدي صلواتك.
ينضج الإنسان فقط في اللحظة التي يبدأ فيها بالحب بدلاً من الاحتياج. عندما يبدأ بالفيضان مثل النهر عندما يستطيع أن يمنح، ويبدأ في العطاء. إن الشعور هنا مختلف تمامًا. في حالة الحب الطفل: يتم التركيز على كيف تأخذ أكثر، في حالة الحب الناضج، يتم التركيز على كيف تعطي بلا حدود، كيف تمنح أكثر بلا شروط. الحب غير المشروط، الحب الذي لا ينتظر شيئًا من أحد، هذا هو النمو والنضوج. تلك هي المحبة التي هي أكبر من الحب. يمكن للآخر أن يحصل عليها، ويمكن أن يفوته، وبقدر ما تكون مهتمًّا، ستتدفق المحبة وتفيض. ولكن الأنهار لا تتدفق من أجلك؛ إنها تتدفق سواء كنت موجودًا أم لا. تذكر ذلك. هذا ما أدعوه الحب الناضج، الحب الفعلي، الحب الأصيل، الحب الحقيقي، وهذا هو درس النيل العظيم نهر العطاء الخالد. وأحد أنهار الجنة، ففي إسرائه صلوات الله وسلامه عليه: «رأى أربعة أنهار يخرج من أصلها نهران ظاهران ونهران باطنان، فقلت: يا جبريل، ما هذه الأنهار؟ قال: أما النهران الباطنان: فنهران في الجنة وأما الظاهران: فالنيل والفرات».
هذا هو العطاء الخالد لنهر النيل العظيم، وتلك هي الإجابة على سؤال صديقتي ذات الميول المتصوفة، التي كان حضورها هي الأخرى عرضيًّا في حياتي، وكأنها صوت عابر جاء من غامض علم الله، فقط ليلقي على وعيي السؤال غير العابر: أيهما تُفضل: أن تكون المحبوب أم المُحب؟!