المعرفة على قدر التجلي، فمن زادت معرفته قل اعتراضه والسكر دومًا على قدر همة الساقي..
لقب مولانا عمر ابن الفارض رضي الله تعالى عنه بسلطان العاشقين، لأنَّه كتب جُلَّ قصائده في العشق والمحبة والتيه والهيام والغرام، وخصوصًا تلك التي كتبها أثناء عزلته في مكة المكرمة. خلوة امتدت خمسة عشر عامًا، قرَّر فيها أن يعتزل الناس بعد أن أدَّى فريضة الحج.
بدأ رحلة التفكَّر والتدبَّر، رحلة جولان الروح والقلب في ملكوت الله رب العالمين..
ولأشعاره ومواجيده قصص مع قلوب أهل الله والصالحين والأولياء وتلاميذهم، حدث هذا زمن إمام الأذواق سيدي الشيخ محمد الحراق رضي الله عنه. فقد كان في وقته إمام الجمعة في الجامع الكبير في مدينة تطوان من حواضر المغرب الأقصى.
ومما ذكره صاحب عمدة الراوين في تاريخ تطاوين، أبو العباس أحمد الرهوني عن الشيخ الحراق: (كان فقيهًا مدرسًا له معرفة بالفقه وأحكامه، والحديث والسير والأصول، تصدر لنشر العلوم بمدينة تطوان مدة طويلة، وانتفع بعلومه خلق كبير وله نظام في الحقيقة، ومذكرات بالطريقة، شهيرة شهرة شمس الظهيرة. وكانت همته رضي الله عنه في جميع الأمور عالية، كان متواضعًا في لباسه.. ويأكل ما تيسر من الطعام، مع ما كان عليه من الكرم والمواساة)…
تولَّى إمامة المسجد الأعظم في تطوان والذي بناه السلطان مولاي سليمان له. وفي السنين الأخيرة سار الجامع الكبير معهدا للتعليم الديني الإسلامي وكان طلابه يعَدون أحيانًا بالمئات..
كان الفقراء والذاكرون يصلون مع الشيخ وبعد ذلك يقصدون بيته الذي هو زاويته، فيذكرون الله تعالى ويتغنون بأنواع السماع وأشعار المواجيد..
فكان أن حضروا ليلة إحدى الجُمع عرسًا فقيرًا من الذاكرين ولعله من آل بيت سكيرج، وهم أسرة معروفة في المدينة. وهذه القصة أوردها مولاي التهامي الوزاني في سيرته الذاتية: الزاوية..
فلما زف الفقراء والذاكرون أخاهم إلى بيته، قصدوا المسجد لصلاة الجمعة مع الشيخ وبعدها قصدوا الزاوية من أجل الذكر والسماع، فقامت حضرة فاضت فيها أحوال عظيمة، وكان من عادة القوم أنهم إذا تواجدوا واستغرقوا في سكرهم أغلقوا الباب عليهم وليس دونهم غريب..
فسمعوا طارق يطرق بقوة أبواب الزاوية، فلم يأبهوا له، فكرر طرق الباب بقوة فقام إليه أحد كبار الفقراء زمن الشيخ وقال له: اصبر، فرد عليه الرجل: افتح فلا صبر لي بعد على الصبر..
فلما فتحوا الباب فإذا هو العريس سكيرج، يجر ثوب زفافه متواجدًا، فدخل حلقة الذكر والقوال ينشد:
عذّب بما شئتَ غيرَ البُعدِ عنكَ
تجدْ أوفى محِبّ بما يُرضيكَ مُبْتَهجِ
وخُذْ بقيّةَ ما أبقَيتَ من رمَقٍ
لا خيرَ في الحبّ إن أبقى على المُهجِ
فلا زال العريس يطلب من المنشد أن يكرر البيت الأخير المرة تلو المرة حتى سقط مغشيًّا عليه،
فظن الفقراء أنه حال وجد عال وسيسري عنه، فاستمروا في الحضرة..
إلى أن أطل عليهم الشيخ سيدي محمد الحراق من شرفة وصاح فيهم: محمد رسول الله
فسكن القوم، فقال: غسلوا صاحبكم وصلوا عليه واحملوه إلى قبره، وردد بيتا لمولانا بن الفارض:
فـإن شـئتَ أن تحيا سعيداً فمُتْ بِهِ شـهـيدًا
وإلاّ فـالغرامُ لـهُ أهْـل
فحركوا صاحبهم فإذا به قد فارق الحياة!!
مضى شهيدًا سعيدًا، شهيد المحبة،
شهيد الحضرة، شهيد الوجد والحال..
ثم ارتجل الشيخ قائلاً:
اللي ذاق شراب ربي ** كيف تبرد لوعتو
واللي مات على ربي ** هذاك حلت موتتو
وعهد المحبين لا ينقضي.