إن الجامع بين النظريات المتعددة المفسرة لنشأة النزعة الدينية عند الإنسان تقر بأنه لا مفر من اتخاذ الدين وسيلة للخلاص، إما على المستوى الفردي وإما على المستوى الجماعي، وبذلك نجدها تتفق على فكرة واحدة، وهي حاجة الإنسان إلى التدين، سواء في العشائر البدائية، أو في المجتمعات المتحضرة، وبذلك يظهر أن الإنسان في حاجة إلى الدين، وقد تبرز هذه الحاجة بسبب عوامل نفسية أو بسبب عوامل اجتماعية، أو بتفاعل ما هو نفسي بما هو اجتماعي، وتختلف درجة التأثير بعامل من هذه العوامل من فرد إلى آخر، كما تكون بفعل مصدر رباني.
لكن يبقى السؤال المطروح: كيف يمكن للدوافع النفسية والاجتماعية أن تكون سببًا في تكوين النزعة الدينية عند الإنسان؟ فعند النظر في هذه العوامل نجدها دوافع ثانوية، يلزم منها أن يكون الإنسان مسبقًا لديه القابلية للتدين؛ مما يجعل التفكير في الدافع الأصلي الذي أيقظ الفكرة الدينية عند الإنسان مسألة يستلزمها المنطق والعقل، كما يلزم معرفة مصدر فكرة الكائن المتعالي الذي يمد للإنسان يد العون ويجنبه الكوارث، لأن العوامل النفسية والاجتماعية لا يمكنها الاتفاق على نفس الفكرة على الرغم مما يوجد بينهما من تباعد وتنافر وتباين في التأسيس والمنطلقات، وهو الأمر الذي يلزم منه أن يكون مصدر هذه الفكرة خارجًا عن هذه العوامل الثانوية.
ومن ثم فالتفاعل مع عالم الأرواح، أو التأمل في مشاهد الطبيعة، أو النظر في الحياة الاجتماعية، فكلها لا تعتبر سببًا في تكوين النزعة الدينية عند الإنسان، بل قد تكون باعثًا على الإيمان وتحريك مشاعر الإنسان على المستوى العقائدي، ومن هنا يتبين خلط النظريات السابقة بين أمرين:
1- نشأة النزعة الدينية عند الإنسان: أي الظهور الأول للدين، والمظهر الأول للتدين الذي عرفته البشرية، وهو ما لم يتم الحديث عنه في هذه النظريات على الرغم من زعمها البحث فيه.
2-إيقاظ الجانب الإيماني: أي العوامل المحركة للإيمان في نفس الإنسان، والتي قد تعود لأسباب فردية وجدانية، أو أسباب اجتماعية، أو غير ذلك، وهي لا تعتبر سببًا في نشأة النزعة الدينية، بل تحرك مشاعر الإيمان.
وهنا يتضح أن جل النظريات السابقة إذا تم تدقيق النظر فيها، نجد أنها تبحث في الأسباب المؤدية إلى تحريك مشاعر الإيمان سواء عند الفرد أو الجماعة، وهنا يظهر خلط أصحابها بين الأمرين، وإن افترضنا جدلاً أن ما قررته هو عوامل لظهور النزعة الدينية عند الإنسان، فالأجدر أن بها أن تكون عاملاً ثانويًّا، لأنها لا تبين مصدر الفكرة الدينية التي انبثقت من جوانية الإنسان، فإن افترضنا أن الفكرة الدينية غائبة عن الإنسان، فكيف يمكن له أن يعرف الدين؟
كما أن ما هو مقرر في النظريات التطورية في شقه الإيجابي، نجد عدة جوانب منه مبثوثة في ثنايا الخطاب القرآني، فقد بين القرآن الكريم أن النظر في النفس والآفاق من أسباب تحقق الإيمان في كثير من الآيات منها: (إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ) (الجاثية:3)، (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) (فصلت:53)، وغيرها كثير. كما أن النزعات التي قالوا بأنها مصدر نشأة الدين قد أشار إليها القرآن الكريم وزاد عليها عناصر جديدة، ومن الآيات التي تدل على المنهج الروحي التي تقر بانفصال الجسم عن الروح، قوله سبحانه: (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (الأنعام:60)، كما تقر آيات أخرى على بقاء الروح عند الموت في حالة برزخية، وتعلقها بأحوال أصحابها في الدنيا، كما في قوله تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (آل عمران:170). كما أكدت آيات القرآن المجيد على وجود أرواح أخرى ترتبط بالوجود الإنساني وتؤثر فيه بأمر من ربها.
ومما يدل على المنهج الطبيعي قوله تعالى: (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (ق:6-7). وقوله سبحانه: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) (القصص:71-72)، وكل هذه الآيات تبهر العقول وتدهش الألباب، ومن الآيات التي تدل على الحوادث المروعة، قوله جل شأنه: (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ) (الرعد:12-13). كما دلت الآيات القرآنية أيضًا على المذهب الاجتماعي، وبينت تأثير البيئة المجتمعية على أفكار الأفراد وعقائدهم، خصوصًا في مسائل تحريف العقيدة، من ذلك قوله تعالى: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ) (الزخرف: 23) وقوله سبحانه: (قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا) (البقرة:170).
يفيد هذا المبدأ أن أصل الدين يرجع إلى معين واحد، ومختَلف الأديان إنما هي تعبير عن فكرة دينية واحدة، لكن بفعل المؤثرات التاريخية وما يعرفه الإنسان من احتكاك بشبيهه الإنسان قد يولد بدعًا دينية أخرى، قد ترجع لأسباب سيكولوجية؛ كأن يريد تحقيق رغبات شخصية، أو لأسباب سوسيولوجية كتقديس الجماعة وعدم العدول عن معتقداتها، وهذه السيرورة بفعل الزمكان وانتقالها من جيل إلى جيل قد يطرأ عليها تحويلات وتغييرات أخرى، إما بسبب أطماع ذاتية أو لتحقيق السلطة أو المال أو الجاه، وعلى هذه الصورة ينبثق دين آخر مشوه ومحرف عن الدين الأصل، لهذا نرى جوهر بعض الطقوس الدينية في الأديان التوحيدية موجود في أديان أخرى، وهو ما يعبر عن هذه الحقيقة، وهذا ما نلمس مثلاً في تقديم القرابين لكائن أسمى مقدس، فهذا المظهر الديني نجده مشتركًا في العديد من الأديان، ولا يمكن إلا أن يعبر عن هذه الحقيقة الأصل، لكن نجد هذا القربان يختلف من ديانة إلى أخرى، وقد تظهر بجانبه طقوس أخرى مُولَدة، لكن يبقى جوهر الفكرة هو نفسه. وقس على ذلك فكرة الكائن الأسمى المقدس الذي ينبغي الخضوع والانقياد له، فهي أيضًا فكرة مشتركة بين جل الأديان، ولها أنماط مختلفة في التطبيق حسب المعتقد الديني، وهذا ما يدفع إلى التساؤل عن منبع هذه الأفكار الدينية؛ فإذا كانت المذاهب التطورية تقر بأن الإنسان الأول كان يتميز بعقلية ساذجة شبيهة بعقلية الطفل، فمن أين توصل بهذه الأفكار النيرة، وما هو الباعث على تدينه أصلاً؟ لأن البُنى السيكولوجية التي تعبر عن حالته لا يمكن اعتبارها أفكارًا دينية، أو بالأحرى يمكنه الانتقال من إحساس روحي إلى بزوغ دين له طقوسه وقواعده.
يبقى إذن هذا الإشكال مطروحًا، ولا يمكن أن نجد له جوابًا إلا إذا اعتبرنا أن الدين متجدر في نفسية الإنسان.
تعتبر الفطرة السليمة باعثًا أسمى على بزوغ الفكرة الدينية الخالصة عند الإنسان في مختلف العصور، فالخوف والدهشة والإعجاب قد تحرك بواعث التدين، لكنها لا تقود حتمًا إلى معرفة الدين، وبالتالي فما قررته النظريات السابقة من كون الإنسان عبد الأرواح عن طريق فكرة الحلم (سواء المؤقت أو الأبدي) تقديسًا للنفس المتسامية، أو عبد مظاهر الطبيعة بسبب الدهشة والتعظيم أو الخوف، فكل هذه الدوافع لا يمكنها أن تنقل نفسية الإنسان إلى معرفة العقيدة الدينية، إلا إذا كان فطرته نقية، وإن صح أن الإنسان عبد هذه الأشياء فإن ذلك كان نتيجة فطرة مشوهة أو محرفة بسبب بِدْعِيَّة أفكاره، أي أن الفطرة؛ وهي الأساس المهيج لبوادر التدين موجودة عنده، لكن بسبب المتغيرات التي حرفت الدين الأصل، واختلاط الألفاظ والمسميات كما يشهد بذلك المنهج الفسيولوجي، أدى ذلك لأن يصير مغبونًا دينيًّا.
كما أن السؤال الآخر الذي ينبغي الإجابة عليه لتثمين هذا الطرح، هو: لماذا يجب على الإنسان أن يعبد شيئًا؟ ولا يمكن أيضًا تقديم إجابة شافية ووافية إلا من خلال مبدأ الفطرة، الذي يحرك في الإنسان بواعث التدين، ولو اعتبرنا غياب هذا المبدأ عن كينونة الإنسان، لما بعثته لا الدهشة ولا الخوف ولا غيرها إلى التفكير في العبادة.
وعليه، يمكن التوصل إلى النتيجة الآتية:
مبدأ الفطرة هو الأساس الباعث على التدين عند الإنسان في مختلف العصور، وعند مختلف الأمم.
وهذه النتيجة تدفع بدورها لطرح سؤال آخر تستدعيه الضرورة المنطقية، وهو من غرس الفطرة في ذاتية الإنسان؟
لا شك أن من غرس الفطرة في الإنسان هو المتعالي عن حدود الزمان والمكان الذي يجب تقديسه وعبادته، وبما أنه هو مودع الفطرة في الإنسان فهو أيضًا خالقه، فلو افترضنا خلاف ذلك، أي أن مودع الفطرة والخالق هو ذاتان متباينتان لدفع ذلك إلى التجاذب والتناقض ولابتغى منه الأول خلاف ما يبتغيه الآخر، والعكس.
وتأسيسًا على ما سبق فإنه يمكن القول إن الخالق الأعظم ومودع الفطرة في كينونة مخلوقاته، هو ذات علية متسامية، أي الله جل شأنه.
لكن بفعل التشويه والتبديل الذي طرأ للعقيدة الصافية بفعل مؤثرات متعددة كما يقر بذلك أصحاب المذاهب التطورية؛ كتأثير اللغة على الأسماء والمسميات، وتأثير البيئة الاجتماعية والثقافية.. وغيرها من المؤثرات، كل ذلك أدى إلى صرف العبادة إلى كائنات وأشياء أخرى، مع إعطائها طابع القدسية، وهو ما جعل الإنسان يفقد بوصلة الدين الأصل، التي ترشده إلى التوحيد الخالص.