كشف العلماء عن تتابعات المركبات في جينوم واحد لعدد من الكائنات الأخرى، الأمر الذي طرح معه السؤال التالي: أي التتابعات في الجينوم البشري هي التي جعلت الإنسان إنسانًا؟ واستتبع هذا التساؤل إعلان البعض عن مخاوفه من تأصيل بيولوجي للعنصريـة، على أساس الكشف عن اختلاف في طبيـعـة الجينوم لــدى السلالات المختلفة من البشر.

كسرت الهندسة البيولوجية الحواجز بين الكائنات الحية، واستتبع ذلك طرح عدة أسئلة مثل: ماذا لو نقلنا جينات بشرية معينة إلى القردة؟ هل يمكن إكساب هذه القردة بعض صفات البشر؟

إذا انتقلنا إلى الاستنساخ، فمن المعروف أنه يعتمد على نقل نواة خلية جسمية من الكائن المطلوب استنساخه إلى بويضة أنثى بعد نزع مادتها الوراثية منها. وفي مجلة Nature Medicine نشر مقال كتبه “ري لانز” و”سبيلي وست”، أعلنا فيه أنهما تمكنا من نقل أنوية خلايا جسمية بشرية إلى بويضات منزوعة الأنوية مأخوذة من الأبقار، وأن الخلايا الناتجة تفلجت، ثم توقف تفلجها في مراحل مختلفة، وقد وصل عدد الخلايا الناتجة في الجنين الواحد إلى 400 خلية كحد أقصى، وتم تنمية خلايا الجنين في أطباق زجاجية، ثم نتج عن ذلك خلايا تشبه خلايا الأساس.

المثير هنا، أن خلايا الأساس الناتجة، تحمل ميتوكوندريا أبقار أتت إليها من سيتوبلازم البويضة. وبالطبع فإن هذه الميتوكوندريا تحمل مادة وراثية DNA، وإذا ما استخدمت خلايا الأساس هذه لتكوين أنسجة بهدف نقلها إلى الإنسان بعد ذلك، فإن هذا يعني نقل صفات -وإن كانت ضئيلة جدًّا- من البقرة إلى الإنسان.

الإنسال معمر ولا يموت

إذا كان الانزعاج تم بالفعل حول هذا الخلط بين كائنات حية بعضها ببعض عن طريق خلايا الأساس، فإن هناك خلطًا من نوع آخر سيتم بين الآلة الصماء والأحاسيس البشرية، لكن يبدو أن هذا الخلط سيكون أكثر حظًّا من الخلط السابق، ومقبولاً إلى حد كبير. وإذا تم هذا الخلط بالفعل من خلال تقديم إنسال (روبوت متطور) آدمي معجزة، قادر على التفكير، ممتلك للوعي والذكاء، وأيضًا المهارات الشبيهة بالمهارات البشرية.. فماذا تحديدًا سيكون دورنا نحن البشر على كوكب الأرض الذي تصارعنا  لنهيمن على زمام أموره منذ أن وُضعنا عليه؟

إن مثل هذه التساؤلات الملحة وغيرها الكثير من التحليلات والأحاديث الذاتية، ستظل تلح عليك، إذا فكرت أن تشاهد فيلم روبن ويليامز مرة أخرى، ولكنك غالبًا -ولكي تحسم الأمر في النهاية- ستقول إن الفيلم لم يعد سوى إغراق في الخيال العلمي، وأحد الشطحات الهوليودية المثيرة، التي لا قصد من ورائها سوى تحقيق الاستمتاع للمشاهد، بالتقنية العالية والمؤثرات الصوتية والحبكة الدرامية الخيالية.

ولا ننسى أيضًا أداء بطل الفيلم الرائع والقادر على تحريك جميع عضلاته -بما فيها عضلات وجهه- بمهارة عالية، مما يدفعك في النهاية للتعاطف الإنساني الكامل مع هذا الإنسال المعمر، الذي يتوفى مالكوه البشر العاديون ليحيا هو أكثر من مائتي عام وحيدًا على كوكب البشر -سابقًا- وباحثًا عن حبه الأول للآدمية بنت البشر الصغيرة التي امتلكته يومًا ما. لكنه في النهاية يتزوج من حفيدتها محققًا ذلك التزاوج الخيالي بين الإنسان والآلة، أو بالمعنى الآخر “الخلط بين الإنسان والإنسال”.

يبدو أن هذه الرؤية الخيالية المستقبلية لم تكن مجرد تساؤلات أو استمتاع بالزوايا الفنية لإحدى روايات الخيال العلمي لدى العلماء والباحثين، الذين جاهدوا -وما زالوا حتى الآن- لتقديم ذلك الإنسال ذي المشاعر الإنسانية الذي سيزاحم الإنسان في المستقبل القريب.

ومنذ سنوات والأبحاث تجرى على قدم وساق في الولايات المتحدة واليابان وغيرها، للوصول إلى هذا الإنسال الذي تشير أهم وأكثر الدراسات جدية في مجال علوم المستقبل، إلى أنه سوف يكون هو المسؤول عن القيام بالمهارات الذهنية المعقدة في كبرى المؤسسات والشركات.

مظاهر أكثر دفئًا

أحدث المحاولات العلمية لتصنيع هذا الإنسال الحساس، قام بها علماء مركز أبحاث “فاندرملت” بجامعة ناشفيل الأمريكية في ولاية تينسي. هؤلاء العلماء الذين عملوا لعدة سنوات على مشروع تطوير الإنسان الآلي الحالي، ليصبح إنسالاً يستجيب ويتفاعل مع المشاعر الإنسانية.

ويؤكد مدير المشروع “نيلجان ساركر” أستاذ الهندسة الحسية، أن الدافع الأساسي وراء المشروع هو تطوير إمكانيات الإنسان الآلي الحالي، ليمكنه أن يتفاعل مع البشر، وأن يقرأ مشاعرهم الخفية وبالتالي يستطيع أن يحقق المطلوب تمامًا دون جهد إضافي يبذله الإنسان في شرح مشاعره، ولكي يتمكن أيضًا من إجراء حالة من التواصل الذهني دون حاجة إلى استخدام “ريموت كنترول”، أو أي وسيلة تحكم من الإنسان.

ولتحقيق ذلك، فإن فريق المشروع  يدرس بدقة جميع تعبيرات الوجوه البشرية المختلفة ولغة الجسد لمعرفة دلالاتها، ومن ثم تغذية الإنسال بها ليتفاعل معها قبل أن يطرح بدفء تلك الأسئلة الإنسانية، مثل: “هل تشعر بالملل الآن؟ ماذا يمكنني أن أفعل لأرفه عنك؟ هل أنت مرهق؟ ما رأيك في قليل من المساج؟ نعم أعرف أن هذه اللوحة لا تعجبك؟ هل تود أن ننتقل إلى لوحة أخرى؟

يضيف “ساركر” أن فريق العلماء اجتهد لمنح هذا الإنسال مظاهر أكثر دفئًا، وملامح أشبه بالإنسانية لكسر ذلك الحاجز النفسي بين الإنسان والإنسال بسبب هيئته المعدنية الباردة التي ميزته دومًا، بحيث يصبح بإمكانه أن يعطي تعبيرات تدل على الأسى والتعاطف، إذا ما لمسه إنسان متوتر أو قلق، وذلك من خلال قياس نسبة تعرق راحتي يد الإنسان أو ارتعاشها، أو معرفة معدل دقات قلبه.. ولهذا فإنه لم يكن غريبًا أن يستعين فريق المشروع بعالم في علم النفس هو “كريج سميث”، الذي حاول بصحبة “ساركر” أن يفك طلاسم التغيرات الفسيولوجية التي تطرأ على الإنسان وترتبط بحالته النفسية والمزاجية.

إنسال مدرك لوجود الإنسان

في سبيل هذا، كان لا بد من استخدام متطوعين من البشر تم توصيلهم بمجسات تقيس علامات التغيرات الفسيولوجية، ومنها ضربات القلب وحركات عضلة الوجه وعرق اليدين، ثم  قاما بعد ذلك بتحليل بيانات هذه التغيرات وترجمتها إلى بيانات رقمية يمكن أن تستخدم من قبل الكمبيوتر.

كما تم تزويدها أيضًا من خلال روابط لاسلكية  لإنسال صغير “أليف” كان يتجول بين المتطوعين، وكان هذا الإنسال المستقل بذاته، يقف أمام متطوع ما، ملقيًا عليه سؤالاً في غاية التهذيب وبأرق صوت يمكن أن يحمله إنسان آلي قائلاً: لماذا تشعر بالتوتر، هل يمكنني أن أساعدك؟ ما رأيك بلعب الشطرنج أو سماع أغنية هادئة؟

لقد أكد فريق المشروع أن النتائج كانت مذهلة، وأن المتطوعين بعد فترة شعروا بألفة مع هذا الإنسال الحساس والمهذب، وحاولوا أن يتجاهلوا كونه إنسانًا آليًّا، بل إن بعضهم قد تعامل معه كصديق، وروى له تفاصيل حياته المعقدة.

وتؤكد “سيثا بريزيل” -أستاذة فنون الاتصال- أن علماء الإنسالات يدركون تمامًا كم تبدو سخيفة وقاسية تلك التعبيرات الباردة التي يحملها الإنسال التقليدي، ولهذا فقد عملت مع فريقها على منح الإنسال الخاص بهم المسمى “أنيمون” بشرة شبيهة ببشرة الإنسان، مع عضلات معدنية لينة تحتها تُحرك تعبيرات وجهه بصورة أقرب إلى الصورة البشرية، ومنحه أيضًا صوتًا طبيعيًّا يمكن من خلاله أن يعبر عن مدى قدرته على إدراك الوجود الإنساني من حوله.

إنه بالتأكيد إنسال مختلف قادر على أن يأسرك ويخدعك بعد بضع دقائق من تعاملك معه. كما تؤكد “سينثا” التي تعمل حاليًّا على إيجاد وسيلة ما لإخفاء مجساته البارزة التي يتحرك من خلالها ويتعرف على حدود المكان وشكل صاحبه. وإن  كانت “سينثا” تستخدم هذه المجسات حاليًّا في إصدار أصوات موسيقية مرحة فور أن تلمسها يد الإنسان، ولكنها تؤكد أنها في خلال شهور قادمة فقط، ستستطيع أن تجعل من إنسالها “أنيمون” منافسًا عنيدًا لممثلي مسرح بردواي، بتعبيرات وجهه الذكية والبارعة في الأداء، في حين أن الإنسال التقليدي سوف يكون موضعه المنتظر، العرض في متاحف التاريخ الطبيعي.

أيضًا صممت عالمة الإنسالات “تيري” إنسالاً يستطيع من خلال ملامحه وتعبيراته اللطيفة، أن يكسب مودة الإنسان وثقته، على الرغم من إدراكه التام أنه ليس سوى إنسال متعاون يحب أن يغسل الأطباق ويروي الزهور، ويدير الموسيقى لإضفاء البهجة على القلوب الحزينة إذا ما لاحظت كاميراته الناشطة في مراقبة الإنسان أن وجهه يكتسي بعلامات الأسى أو التوتر.

إنسال “تيري” مجهز بتسع مجسات تتحرك باستمرار وتعوضه عن فقدان حاستي اللمس والبصر وغيرهما، لذا ليس من المحتمل أن يصطدم بالحائط أو بصاحبه، حيث ستتنبه مجساته على الفور، غير أن “تيري” وغيرها من علماء الإنسالات، يتشككون في موعد وصول مثل هذه الأنواع من الإنسالات إلى أرض الواقع، أو إلى التداول الواسع، حيث يرون أن الأمر قد يستغرق من 10 إلى 40 عامًا.

المراجع

(1) Nature Medicine  magazine – 9/ 2020.

(2) James Gleick, 2020 , Chaos , Making a New science , Penguin Books , New York.

(3) Keith L.moor , 2020 , Human development , pp 38,67.