أدب الأوبئة عبر الأزمنة

تعددت حكايات وروايات الأدباء حول الفيروسات والأوبئة المستعصية التي أبادت أعدادًا هائلة من بني البشر لعقود طويلة، ومن أشهر تلك الأمراض الطاعون والكوليرا والإنفلونزا الأسبانية، ومؤخرًا فيروس كورونا الساحق للأرواح بلا هوادة.. وإذ نعتبر أن مؤلفات رُواد الأدب الفيروسي بمثابة أرشيف نفيس وسِجل حافل بالمعلومات، وخير شاهد على أزمان وأحوال ومعاناة مَنْ شهدوا الوباء والبلاء والشقاء.

ولعل أبرز الذين اهتموا بأدب الأوبئة هو المؤرخ المصري “زين العابدين بن إلياس”، صاحب مؤلف “بدائع الزهور في وقائع الدهور”، والذي حكى في كتابه عما ألحقه وباء الطاعون بالدولة المملوكية التي عايشها وشهد انهيارها. ومن ضمن ما ذكره ابن إلياس تلك الشهادة التاريخية عن الطاعون: “واشتد أمر الفناء والغلاء بالديار المصرية وعمَّ سائر ضواحيها، ومات من أهل القاهرة والفلاحين نحو النصف.. فلما اشتد أمر الغلاء وكثر الطعن، نادى السلطان في الناس أن يصوموا ثلاثة أيام متوالية وأن يخرجوا إلى الجوامع”.

ويتحدث ابن إلياس في كتابه عن جرائم الطاعون الفتاك قائلاً: “إذا دخل الدار يُفنيها حتى يُعلّقوا مفاتيح الدار في رجِل النعش”. وقد اتفق معه “شيلدون واتس” في “أن القاهرة التي كان تصنيفها كأكبر أو ثاني أكبر مدينة في العالم بتعداد سكاني يبلغ نصف مليون نسمة، قد فقدت مئتي ألف من سكانها في الفترة من 1347م وحتى 1349م”، حيث لقوا حتفهم متأثرين بوباء الطاعون.

كما كتب الفقيه والأديب السوري “ابن الوردي” رسالة تنتمي لأدب المقاومة عنوانها “رسالة النبا عن الوبا”، صوَّر فيها مآسي وباء الطاعون. وقد وصف ابن الوردي سلوكيات الناس في مدينة حلب أثناء فترة تفشّي الطاعون، وشعورهم باقتراب الموت منهم، حتى أنهم بادروا بالتوبة والاستغفار.

وقد أقرَّ ابن الوردي أن توبة الخلائق كانت من النتائج الإيجابية للطاعون المنتشر كما يبدو في شرحه: “ومن فوائده تقصيرُ الآمال، وتحسين الأعمال، واليقظة من الغفلة، والتزوُّد للرحلة”، كما عبَّر ابن الوردي عن “هذا حال أهل حلب” المُتغير للحُسنى من خلال أبيات شعرية تحمل كثيرًا من التدبر والاتعاظ من الموت، قائلاً:

فهذا يُوصي بأولادهِ   وهذا يُودِّع جيرانهُ

وهـذا يُهِّيـئ أشــغالهُ وهذا يُجهِّز أكفانهُ

وهذا يُصالح أعداءهُ   وهذا يُلاطف إخوانهُ

وهذا يُـوسِّــع إنــفاقهُ وهذا يُخالِلُ مَن خانهُ

وهــذا يُحــبِّس أموالهُ وهــذا يُــحرِّر غِلــمانهُ

وهــذا  يُغيّــر أخــلاقهُ              وهـــذا يُـعيِّــر ميـــزانـــهُ

وعندما تكاسل المُكلفَون بدفن الموتى عن أداء واجبهم، حتى تكاثرت جُثث موتى الطاعون بمدينة الشهباء، وصف ابن الوردي ذلك المشهد المأساوي قائلاً:

اسودت الشهباء في عيني من رِمم وغش

                        كاد بنو نعش بها أن يلحقوا ببنات نعش

برع ابن الوردي في استخدام المُحسِّنات البديعية، والعبارات الشعرية الجميلة، مثل تلك التي صوَّر فيها طوفان وباء الطاعون، سائلاً الله أن يرحم عباده، قائلاً:

ألا إن هــذا الـوبـا قـد سـبا             وقـد كـان يُـرسل طوفانه

فلا عاصم اليوم من أمره               سوى رحمة الله سبحانه

أراد ابن الوردي أن يختتم المقامة الأدبية التي كتبها عن الطاعون بالدعاء والابتهال إلى الله تعالى، قائلاً: “اللهم إنا ندعوك بأفضل مما دعاك به الداعون، أن ترفع عنا الوباء والطاعون”.

وقد ذكر ابن الوردي أنه عندما ضرب الطاعون بلاد الشام وحلب، ومعرَّة النعمان حيث مسقط رأسه، كتب بيتين من الشعر متحديًا الطاعون، قائلاً:

ولســـت أخــاف طاعـونًا كغيري

                                      فما هو غير إحــدى الحُـســنـيـين

فإن مِتُ استرحت من الأعادي

                                      وإن عشت اشتفت أُذني وعيني

لتتجلى عجائب القدر أن يموت ابن الوردي بعد يومين من كتابة قصيدته بداء الطاعون، لذا قيل إنه قام برثاء نفسه قبل الوقت، أو أنه استحس قُرب أجله فترك مَرثيته. كما يُذكر أن “ابن حجر العسقلاني” مؤلف كتاب “بذل الماعون في فضل الطاعون”، قد فُجِعَ بفقدان بناته الثلاث “عالية وفاطمة وزين خاتون” بسبب الطاعون.

ومع نهايات القرن التاسع عشر، انتشر في بلاد الشام وباء الهواء الأصفر أو ما يُسمي بالكوليرا، فكتب الشاعر السوري “لويس صابونجي” قصيدته، جاء في مطلعها:

خُلقت بأرضٍ قد تَجَلَّت ببهجة

                                       سـقاهــا إلهــي من فرات ودجلة

بـــلاد ثَــــواهـــا “أدم” بــعـــد جــنــة

                                        إليها انتمى الأبطال في كل حقبة

ولدت بها فورًا على غير موعد

                                      غـــــداةَ أتـــــاهــــا والــــدي لنــــزهـة

بشــهـــر فــشا فيــها الــوبـاء مـؤلفًا

                                      وشــاع انـتـشارًا في بلاد الجـزيرة

وكذلك حكى عميد الأدب العربي “طه حسين” في روايته “الأيام”، عن انتشار مرض الكوليرا في مسقط رأسه مطلع القرن العشرين، حيث وصف أحزان أهل بيته برحيل أخيه الطالب بكلية الطب، متأثرًا بوباء الكوليرا. وقد ذكر الدكتور طه حسين في روايته، كيفية أن الكوليرا أبادت أُسرًا كاملة، وأتت على مدن وقرى فدمرتهم تدميرًا.

وفي عام 1939م صدرت رواية “حصان شاحب” للكاتبة الأمريكية “كاثرين آن بورتو”، تحدثت فيها عن وباء الإنفلونزا الأسبانية التي أصابت البشرية عام 1918م، وتسببت في هلاك قرابة خمسين مليون شخص، وخلفت وراءها خرابًا جسيمًا.. ومن ضمن أحداث الرواية، تكتشف البطلة إصابتها بالحُمى والإنفلونزا القاتلة، حيث يتحدث إليها صديقها بنبرة حزينة قائلاً: “الأمور على أسوأ ما يكون، كل المسارح وتقريبًا جميع المحال والمطاعم مغلقة، أما الشوارع فتغُص بالجنازات طيلة ساعات النهار، وتكتظ بسيارات الإسعاف طوال الليل”.

كما استحضر لنا الروائي اللبناني “ربيع جابر” في روايته “أميركا” صورًا قاسية لوباء الإنفلونزا الأسبانية، الذي عايشه العرب المهاجرون إلى أمريكا، حيث تمرّ يوميًّا سيارات تُنادي على الناس لإلقاء جثث موتاهم من الشبابيك بعد تفشي الموت بالأنفلونزا، إلى درجة يصعب معها دفن كل ميت في قبر خاص.

وتعتبر قصيدة “الكوليرا” من أروع قصائد الشاعرة العراقية “نازك الملائكة”، التي كتبتها عام 1947م، لتُصور فيها مشاعرها نحو أهل مصر الذين أصابهم الكوليرا.. وفي قصيدتها نجحت “نازك” في التعبير عن وقع أرجل الخيول التي تجر العربات الحاملة لجثث الموتي الذين قتلتهم الكوليرا، قائلة:

صَرخَاتٌ تعلو، تضطربُ

حزنٌ يتدفقُ، يلتهبُ

يتعثَّر فيه صَدى الآهاتْ

يا حُزْنَ النيلِ الصارخِ مما فعلَ الموتْ

عشرةُ أمواتٍ، عشرونا

لا تُحْصِ أصِخْ للباكينا

اسمعْ صوتَ الطِّفْل المسكين

مَوْتَى، مَوْتَى، ضاعَ العددُ

مَوْتَى، موتَى، لم يَبْقَ غَدُ

في كلِّ مكانٍ جَسَدٌ يندُبُه محزونْ

في شخص الكوليرا القاسي ينتقمُ الموتْ

الصمتُ مريرْ

لا شيءَ سوى رجْعِ التكبيرْ

حتّى حَفّارُ القبر ثَوَى لم يبقَ نَصِيرْ

الجامعُ ماتَ مؤذّنُهُ

الميّتُ من سيؤبّنُهُ

لم يبقَ سوى نوْحٍ وزفيرْ

الطفلُ بلا أمٍّ وأبِ

يبكي من قلبٍ ملتهِبِ

وغدًا لا شكَّ سيلقفُهُ الداءُ الشرّيرْ

يا شبَحَ الهيْضة ما أبقيتْ

لا شيءَ سوى أحزانِ الموتْ

يا مصرُ شعوري مزَّقَهُ ما فعلَ الموتْ

ومن أجمل الروايات التي وثّقت الطاعون رواية “دفتر أحوال عام الطاعون”، التي ألفها الكاتب الإنجليزي “دانيال ديفو” عام 1772م، بعدما هاجم الطاعون لندن عام 1665م. وقد ذكر المؤلف أن السلطات المحلية بمدينة لندن، طبقت وقتها تعليمات مُشابهة لتلك التي نعاملنا بها مع وباء كورونا، وذلك بمنعْ إقامة “كل الولائم العامة، ووقف تقديم وجبات العشاء في الحانات، وغير ذلك من الأماكن التي تشهد أنشطة ترفيهية يشارك فيها العامة، لحين تطبيق نظام مختلف يُجيزها من جديد”.

وفي عام 1974م صدرت رواية “الطاعون” للكاتب “ألبير كامو” التي تحكي قصة طاعون يكتسح مدينة وهران الجزائرية، حيث استنكر المؤلف خطورة مشهد جثث الفئران النافقة والمتناثرة في الشوارع على السكان.. كما تُصور الرواية حال المدينة التي تم إغلاقها بشكل كامل لعِدة أشهر، تزامنًا مع جبروت الطاعون المُسبب لهلاك الجانب الأعظم من سكانها، ويزخر العمل بالكثير من أوجه التشابه مع أزمة كورونا التي تمر بنا. ويُعتقد أن الرواية مبنية على جائحة الكوليرا التي قتلت عددًا ضخمًا من سكان وهران في عام 1849م عقب الاستعمار الفرنسي.

وهكذا كانت ولا تزال الرواية والقصة والشعر والمقامة الأدبية خير مُدونات لأوبئة الزمان، حيث أخبرنا أدب الوباء عن كيفية تطبيق أهل الماضي التليد للإجراءات الوقائية، لأجل الحد من بطش الأمراض التي جلبت الخراب الدامي لشتى بقاع الدنيا.