إن محبة الإنسان وتوقيره لأنه “إنسان”، تعبير عن احترام الإنسان للخالق العظيم ، وإلا فحَصْر الشخص محبته وتوقيره في مَن يوافقونه في الأفكار، لن يكون محبة وتوقيرًا إنسانيًّا، بل هو تصرف أناني وتأليه الإنسان لنفسه. وبالأخص إذا كنا نستهين ونستحقر من يوافقوننا في الأفكار والتصورات الأساسية ولا يوافقوننا في جميع الجزئيات، فإننا سنكون عديمي المروءة ومستأثرين لأنفسنا.
إننا نعتقد أن مهندسي ومؤسِّسي المستقبل، هم أصحاب الهمم العالية من الكوادر الذين لا ينظرون إلى الأمور من خلال نقاط الانطلاق والأسباب، بل يقيِّمونها من منظور الغايات والمقاصد. فإذا كنا -نحن جميع أفراد الأمة- نحاول جاهدين بكل ما أوتينا من قوة، ونستنفد كل طاقاتنا للوصول إلى نفس النقاط، فلماذا نجرِّح الآخرين من الذين شدوا الرحال للوصول إلى هذا الهدف المقدس، حتى وإن كانو يسيرون على طرق أخرى ويتخذون إستراتيجيات مختلفة.
إن الوضع القسري الذي ستؤول إليه الإنسانية في المستقبل، وخصوصًا باعتبار العالم الذي نعيش فيه الآن، يُجبرنا على أخذ الحيطة والحذر واليقظة الفائقة، إلى مدى أن أيَّ قرار متعجِّل نتخذه الآن، قد يؤدي بنا في قابل أمرنا إلى أخطاء فادحة لا يمكن تفاديها. ومن ثم فمن اللازم على مهندسي المستقبل، أن يؤسسوا العالم الذي يخططون لإنشائه، على مَعنًى ومظهر تعتمد قواعده على محبة الإنسان واحترامه.
إن العالَم المعاصر بما جلبه من أدوات، قد أدى بنا إلى طرق مظلمة، مما جعلنا الآن نجابه عديدًا من قضايا لا نعلم كنهها. إن هذه القضايا التي نحاول حلَّها تبدو معقدة، كما أن عواقبها كذلك مليئة بالتناقضات.. أجل، إن هناك آلافًا من رجال الخضر أزمعوا السفر إلى ما وراء جبل قاف ليجلبوا ماء الحياة من هنالك، ولكن لا يبدو على واحد منهم أمارات امتلاكه إكسير الخلود. وعلى الرغم من كل الجهود التي يبذلها هؤلاء المرشحون لأن يصبحوا حواريين، يبدو أن احترام الروح الإنساني يواجه أخطارًا مهمة للغاية.
وعلى الرغم من أننا لا نزال نكِدّ ونكدح على مدى أعوام طوال على هذه الشاكلة، فإننا لم نتمكن من الوصول إلى معادلات تحقق لنا قواعد المستقبل. وكيف يتحقق لنا ذلك وقد باتت مشاعرنا وأفكارنا متخالفة وواعدة بأمور مختلفة؟ لقد جعلنا ذلك أشبه بالموسيقيين المتجولين في الطرقات وبحوزتهم أسطوانة مشروخة يعزفون عليها لحنًا ناقصًا. فإذا كان كل واحد منا يأخذ بيده جانبًا من “الحق”، ويُجبر الآخرين على اتباع ما لديه، منكِرًا ما بأيديهم من جوانب الحق الأخرى، فهل من الممكن التوصل إلى تلاقح الأفكار وتراكيب جديدة ووصفات منقذة؟! وبالأخص إذا استخدم سلاح التكفير والتجريم، بل والهجوم الفعلي ضد أولئك الذين لم يمكن إقناعهم.
إن محبة الإنسان وتوقيره لأنه “إنسان”، تعبير عن احترام الإنسان للخالق العظيم ، وإلا فحَصْر الشخص محبته وتوقيره في مَن يوافقونه في الأفكار، لن يكون محبة وتوقيرًا إنسانيًّا، بل هو تصرف أناني وتأليه الإنسان لنفسه.
إن النقطة التي آل إليها الوضع من الخطأ في الأسلوب لَمُحزنة للغاية ومثيرة للتفكير. فالذين كانوا يسيرون في الطريق نفسه جنبًا إلى جنب، قد أصبحوا اليوم لا يعرف بعضهم بعضًا. فقد حُوِّل الصواب والخطأ من قواعدهما الأصلية ووُضعا على سكك زلقة تنزلج على حسب أهواء الجماعات. فليس من الممكن في مثل هذا الضجيج التعرفُ على مدى سمو الهدف ولا على اختلاف الوسيلة عنه.
إن وضع إنساننا في الوقت الراهن، يشْبه حال شخص خرج يتجول في الربيع ليتمتع بجمال مناظره، ولكنه تعلق بزهرة صفراء (لاهيًا عن باقي المناظر).. فهو في هذا السبيل الذي يكافح فيه من أجل الوسائل، يكون قد فَقَدَ -في وقت مبكر- أمله في الوصول إلى الهدف المنشود. ويكون كل ما يفعله بعد هذه المرحلة هو مجرد المحاولة من أجل المحاولة، والتحرك من أجل التحرك.. فكما أن المضيف الذي يحاول أن يتودد إلى السياح يتمادى به الأمر إلى أن ينسى الخدمة للمعبد والعبودية للخالق، فكذلك الذين تعلقت قلوبهم بزمرة معينة أو حزب معين، قد أصبحوا متنكرين للهدف والغاية.
إن إنسان عصرنا قد أصبح أسير زهرة واحدة وهو في طريقه إلى الحصول على زهور الربيع بأكملها، كما أنه صار عبدًا لقطرة وهو في سبيله إلى المحيط.. ويبدو لي أنه لن يمكن الحيلولة دون عبوديته وأسارته هذه، إلا إذا قدمنا له وجهة نظر جديدة. لكن على الرغم من كل شيء، فإننا مكلفون بأن نكون مترجمين للحق والصواب.. ويا ليتنا قمنا بهذا من قبل.
ومهما كانت جاذبية الشيء الذي تقع عليه عيوننا وسحر الهواء الذي يملأ قلوبَنا، فليس لنا أن ننسى الحقيقة التي عشقناها.. فنحن الذين نعيش في مجتمع واحد لا يجوز لبعضنا أن يتنكر للبعض الآخر.. فلسنا محتكرين للخير والجمال، حتى يُسمَح لنا أن نحارب الذين يتوجهون لنفس أهدافنا ولكن من طريق غير طريقنا.
صحيح أنه يجوز لنا أن ننتقد من يخالفنا في الفكر من حيث أسلوبه ونظام عمله، فذلك يعبر عن نشاط العقل وعمله بطريقة مختلفة، ولكن إذا كنا نستنفد الجهد والطاقة من أجل الوصول إلى نفس الأفق، فعلينا أن نحترم فكره على أقل تقدير، لأن هذا من مقتضى التوجه إلى نفس الهدف، وحملِ نفس الاعتقاد، واستخدام نفس المصطلح، وفي نهاية المطاف من مستلزمات الاحترام للمعنى المقدس الذي بَجَّله الخالق العظيم.
فلنحترم الإنسان، ولنوقر الحقيقة العظمى التي ينطوي عليها، ولنحبه ونوقره من أجل الخالق، إذ إن المجتمع الذي سننشئه بهذه العقلية سيعود إلى وعيه في نهاية المطاف، وسيعرف كيف يستدرك ما فاته ويعوِّضه.
(*) نشر هذا المقال في مجلة “سيزنتي” التركية، العدد:16 (مايو 1980)، تحت عنوان “İnsana Saygı”. الترجمة عن التركية: أجير أشيوك.