“ريموند مودي”، فيلسوف وطبيب أمريكي، وأشهر الباحثين المعاصرين الذين تخصصوا في دراسة الحدود الغامضة بين الحياة والموت، خالط في محيطه أناسًا كثيرين عاشوا “تجربة الموت الوشيك”. لم تكن هناك بعدُ دراسات علمية أو جامعية متخصصة في تناول هذا الموضوع، لذلك حاول وضع منهجية دقيقة وحقق في ١٥٠ حالة. تناول في كتابه الشهير “الحياة بعد الحياة” (Life after Life) الذي نشره عام ١٩٧٥، أشخاصًا من مختلف الأعمار والأوطان والأجناس، استيقظوا بعدما كانوا على وشك الموت فسَرَدوا قصصًا غريبة.

إنها ظاهرة غامضة لم يكشف العلم بعدُ عن كل خباياها.. فتجربة “الموت الوشيك” أو “الاقتراب من الموت”، هي تجربة تعبر عن مجموعة من “الرؤى” و”الأحاسيس” بعد موت سريري أو غيبوبة متقدمة، ومن بينها الإحساس بـ”الانفصال عن الجسد” ورؤية كاملة لشريط الحياة الماضية، ثم الدخول في نفق يُفضي إلى ضوء ناصع، وإلى الشعور بحب لا نهائي وسلام أبدي. ورغم أن ما يرويه “العائدون من الموت” تختلف بعض تفاصيله وتلويناته، إلا أن الكثير من عناصر هذا السيناريو تتكرر إما جزئيًّا أو كليًّا.. إنها تجربة تبدو وكأنها تتقاطع فيها اعتبارات فيزيولوجية وسيكولوجية، وأخرى باعتقادات وجودية وروحانية. ومن أشهر ما تتضمنه هذه التجارب، أن ذكريات المرء “تومض أمام عينيه”، مع إحساسه بمغادرة جسده، وفي الغالب يرى الإنسان وجهه وجسمه، ويسافر في حبور باتجاه ضوء يلوح عند نهاية نفق، ويشعر “بالتوحد” مع شيء كوني عظيم.

إن تجربة الاقتراب من الموت ربما تنبع من شيء في النفس البشرية أكثر عمقًا من التطلعات الدينية أو الثقافية، فربما تعكس هذه التجربة تغيرات في كيفية عمل الدماغ عند اقتراب الإنسان من الموت. غالبية الذين عاشوا التجربة، يحكون عن أحاسيس فياضة وشعور أبدي بالحب والسعادة لم يسبق أن عاشوه في حياتهم.. “العائدون” يقولون إن تلك التجربة غيرت حياتهم رأسًا على عقب، وغيرت نظرتهم إلى الحياة والموت.

ويسعى الباحثون من وجهة نظر علمية محضة، لإيجاد تفسير علمي وعقلاني للظاهرة؛ فهناك افتراض يعتبر أن التفاعلات الكيميائية الحيوية داخل الدماغ والتصورات الحسية، هي التي تُولد هذه “الرؤى” في وقت يوجد فيه الجسد تحت توتر استثنائي يستشعر فيه خطر الموت الداهم. و”تجارب الاقتراب من الموت” لم تلق ما يكفي من الاهتمام العلمي.

“هكذا نموت”، كتاب ألماني يسبر أسرار الموت الغامضة، حيث يمنح الصحفي الألماني “رولاند شولتس” مساحة في كتابه للأطباء ومتعهدي دفن الموتى ومقدمي الرعاية الروحية وأهل المتوفى، بل والمحتضرين أنفسهم، وما يساورهم من مشاعر، وذلك بشكل مرهف وموضوعي. ويقول في ختام كتابه: “تمنيت لو أني وفقت لشرح أكثر جوانب الموت حزنًا في حياتنا، بشكل أكبر من ذلك.. انتابني شعور في بعض الأحيان، بأن لهذا الكتاب تأثيرًا مبالغًا في الدفء ومبالغًا في اللطف، مقارنة بالظروف التي يموت فيها الإنسان ويدفن فيها”.

هل يسمع الميت كلام من حوله؟

فجرت جامعة ستوني بروك للطب ومقرها نيويورك، واحدة من أكبر المفاجآت؛ ففي دراسة علمية هي الأحدث والأكثر دقة، تبين لكبار الباحثين فيها أن توقف المخ يكون بنسبة تقارب ٩٥ في المائة تشمل كل مراكز رد الفعل والمراكز الحيوية الرئيسية كالتنفس والنبض والحركة وغيرها.. لكن مراكز السمع والإبصار على وجه الدقة تستمر في إعطاء إشارات لفترات طويلة بعد الوفاة تجاوزت بضع ساعات.

نفس الإشارات التي تعطيها المراكز نفسها للشخص الحي، فالميت يسمع ما حوله بكل وضوح، يرانا حوله بجلاء تام، لكنه أصبح حبيس نفسه، انعدمت عنده الحركة وردود الفعل، لا يستطيع الرد عليك، ولا يستطيع الحركة تجاهك، لكنه يراك ويسمعك تمامًا كما لو كان حيًّا.

ماذا يحدث في الدماغ لحظة الموت؟

في بحث جديد من جامعة ميشيغان University of Michigan تؤكد الدكتورة Jimo Borjigin أن الإنسان قبيل الموت بلحظات يرى أشياء مجهولة، وعندما قام فريق البحث بمراقبة نشاط الدماغ لدى عدد من الكائنات الحية (فئران المختبر) وذلك لحظة الموت، وجدوا نشاطًا غير عادي في المنطقة البصرية من الدماغ.

وقد سجل العلماء من هذه الجامعة، إشارات بواسطة الأقطاب الكهربائية لقياس التقلّبات الفولتية في الدماغ (Electroencephalogram EEG) صادرة من عدد من الثدييات خلال تجربة الموت، وأن نشاطًا زائدًا في منطقة الإبصار في الدماغ، مما يدل على أن المخلوق يرى أشياء مذهلة تؤدي لحدوث هذا النشاط، ولكن لم يتعرف العلماء بعدُ على نوعية الصور التي يراها من يشرف على الموت.

يقول العلماء في تجربة جديدة على فئران المختبر: إن الدماغ يبقى في حالة نشاط لمدة ٣٠ ثانية بعد الموت، وبالتحديد المنطقة المسؤولة عن الرؤيا في الدماغ هي التي تنشط بشدة لحظة الموت، وتَبين صور المسح بالرنين المغناطيسي الوظيفي نشاطًا زائدًا في منطقة الإبصار، مما يدل على أن الكائن الذي يشرف على الموت يرى أشياء غريبة لحظة الموت.

إن هذا الاكتشاف -توهج منطقة الإبصار في الدماغ بشدة قبيل الموت- تؤكد أن الموت ليس ظاهرة طبيعية تنتهي بها الحياة وتتحلل الجثة مع الزمن وينتهي كل شيء.. لحظة الموت يرى الإنسان أشياء جديدة وغريبة تُحدث هذا التوهج القوي في منطقة البصر في دماغه. وكما تم ذكره آنفًا؛ فهناك افتراض يعتبر أن التفاعلات الكيميائية الحيوية داخل الدماغ، والتصورات الحسية، هي التي تُولد هذه “الرؤى” في وقت يوجد فيه الجسد تحت توتر استثنائي يستشعر فيه خطر الموت الداهم.

البصر الحديد

المعروف أن البصر العادي الذي نرى من خلاله، هو الذي يتكون من العينين وعصبين بصريين وامتدادات إلى خلف المخ، وهناك بصر يتبع الروح مفصول عنها؛ وهو البصر الحديد الذي لا ندرى مم يتكون لأنه إلى الآن غير مرئي. وعند الموت -وأحيانًا قبله- ينتهي عمل البصر العادي الذي نرى من خلاله تمامًا، وعندها ينشط البصر الحديد المكشوف عنه الغطاء.

والبصر الحديد هو البصر كثير الحدة، والبصر النافذ. وبصر المرء يوم القيامة نافذ لأنه من السهل عليه يومئذ رؤية حقيقة الأمور، فلا يتأثر ولا ينخدع بالمظاهر.

يوجد على بصر كل إنسان غطاء يمنعه من رؤية أشياء كثيرة، وبعد الموت يصبح بصر الإنسان قويًّا عندما يزاح هذا الغطاء عن العين؛ عندها سيرى كل شيء، الجن والملائكة وغير ذلك.. حتى إنه يرى روحه وهي تطلع، وأحياناً يزاح هذا الغطاء قبل الموت بدقائق أو ساعات.

هل ينشط البصر الحديد ونحن أحياء؟ والجواب أن البصر الحديد ينشط آلاف المرات خلال حياتنا، إنه يستيقظ عندما ننام. فإن كنت رأيت في أحلامك شخصًا تعرفه وتوفي منذ زمن، فعندها تكون قد استخدمت بصرك الحديد. فالبصر الحديد ينام عندما نكون مستيقظين ويستيقظ عندما ننام، كما أنه يستيقظ اليقظة الأخيرة عندما تطلع الروح أو قبلها بفترة بسيطة، وهي اليقظة التي لا يغفو بعدها أبدًا.

(*) استشاري في طب وجراحة العيون / مصر.