عندما ينطلق الدم من القلب يقوم من فوره بالدورة الدموية الصغرى إلى الرئتين، وبالدورة الدموية الكبرى إلى جميع خلايا وأنسجة الجسم، علمًا بأن عملية تنقية الدم تتم خلال الدورة الدموية الصغرى، بينما تتم عملية تنقية الجسم من الفضلات خلال الدورة الدموية الكبرى. ويعتبر جهازنا الدوري مسارًا مغلقًا تتحرك بداخله دماؤنا التي تبلغ خمس لترات تقريبًا، ويتشكل من أوردة وشرايين يقع القلب في مركزها. بينما يدور الدم النقي الوردي اللون والغني بالأكسجين في الشرايين، فإن الدم الأكثر قتامة والمحمل بنسبة كبيرة من ثاني أكسيد الكربون -أي الدم الملوث- يدور في الأوردة. وتحتوي هذه الأوردة على صمامات بداخلها، حيث يحتاج الدم منزوع الأكسجين، إلى دعم هذه الصمامات لدفعه للأعلى. فتسمح هذه الصمامات بتدفق الدم الصاعد، ولكنها تغلق في فترات زمنية قصيرة عندما ينقطع الضغط، مما يمنع رجوع الدم فيها إلى أسفل. فإذا تعطلت هذه الصمامات عن العمل، تجمَّع الدم في الأجزاء السفلية من الساقين، وتصبح الأوردة غير المرئية من الخارج في الطبيعي ظاهرة، وهو ما نسميه بمرض “الدوالي”.
يُشبه هذا الأمر، الخطوات المتبعة لحل المشكلات الاجتماعية؛ إذ يجب عرض القضايا على المجالس الاستشارية وإيجاد الحلول، فإذا لم تُنتج الحلول، فسيكون هناك تراكمات وستنشأ مشكلات أكثر خطورة.
لا يوجد نظام صمام كهذا على الأسطح الداخلية للشرايين، فبعد خروج الدم من الصمام الأورطي، ينتشر في جميع أنحاء الجسم دون أي عائق. تؤدي الأوعية الدموية المهمة التي كلفها بها القلب دون تقصير. إن الأوعية الدموية تحدد مسارها وفقًا لمعطيات القلب، فمع ضخ القلب للدم، ينتشر الدم (الطازج/المؤكسج) إلى الجسم كله، وتعود الحياة إلى الجسم.
أما القلب فهو يتشكل من أربع حجرات، ويعمل كمضخة كهروميكانيكية. يوجد دم غير نظيف في الحجرتين اليمنيين، ودم نظيف في الحجرتين اليسريين. وسنتناول فيما يلي كيفية التقاء الدم النظيف وغير النظيف داخل القلب دون أن يختلطا.
ينتقل الدم غير النقي الذي فَقَدَ الأكسجين في الخلايا والأنسجة وتشبَّع بثاني أكسيد الكربون، إلى الأذين الأيمن من القلب عبر الأوردة الرئيسية. هذا ويمكننا تشبيه حجرات القلب الأربع بالفصول الأربعة؛ الأذين الأيمن يشبه الخريف وهو الحجرة الأصغر مساحة، ولا يبقى الدم فيه لفترة طويلة. يمر الدم غير النقي الذي يكافح من أجل النقاء، عبر صمام، ويصل بسرعة إلى البطين الأيمن، وهو قسم أكبر قليلاً، ليلتقي بالهواء النقي. البطين الأيمن هو المكان الذي يوجد فيه ثاني أكسيد الكربون بأعلى مستوى في القلب، لذلك يبدو مثل الشتاء. ومع ذلك فإن الدم لا ينخدع بهذا الشتاء ويواصل رحلته السريعة إلى الرئتين حيث سيلتقي بالأكسجين. إن أمطار الربيع ضرورية بعد الشتاء، ويلبي الأكسجين الذي نأخذه من الرئتين في أثناء التنفس هذه الحاجة؛ بمعنى أنه يتم غسل وتنقية الدم بالأكسجين، ويعود الدم المنقى بهذه الأمطار الخصبة، إلى الأذين الأيسر، ويصبح الدم الذي تم تنقيته جاهزًا ليهب هذه الجماليات التي يحملها، ويمنح الحياة لجميع أعضاء الجسم. ويواصل رحلته ويصل إلى البطين الأيسر، ويصبح وكأن فصل الصيف قد بدأ وكل شيء يعمل في انتظام تام. لكن من الضروري نقل هذه الجماليات لبقية الأعضاء، فيتلقى الدم تعليمات من القلب: “لا تتوقف هنا، واصل السير على الطريق”، فيواصل الدم رحلته عبر الشرايين إلى بث الحياة في الجسم كله.
كأننا تعبنا من سفرنا مع الدم هذا، ما رأيك أن نأخذ قسطًا من الراحة؟ ولكن لنتوقف قليلاً وننظر إلى الرئتين ونفهم بعض الأشياء.
يدخل الهواء إلى الرئتين، ويمر الأكسجين الذي تحمله من الغشاء الرقيق لجدار الحويصلات الهوائية في الرئتين، إلى شبكة الشعيرات الدموية الملتصقة بها، وذلك لاختلاف الضغط، وهكذا يتشبع الدم بالأكسجين ويُنقى. عملية التبادل هنا مهمة للغاية؛ يرسل البطين الأيمن حوالي ١٠٠ مل من الدم إلى الرئتين في كل مرة، ويصل الدم إلى الرئتين اللتين تبدوان مضغوطتين في منطقة صغيرة على جانبي الثديين، حيث يتجلى في خلقها اسم الله “الواسع”، فقد خلق تعالى أشياء كبيرة من أشياء صغيرة. إذن لو فُرشت ملايين الحويصلات الهوائية التي تقوم بعملية معالجة الدم جنبًا إلى جنب مثل الملاءة، فإن الرئتين ستغطيان مساحة قدرها ١٠٠ متر مربع تقريبًا. يدخل الأكسجين من الحويصلات الهوائية إلى الدم، ويخرج ثاني أكسيد الكربون من الدم إلى الحويصلات الهوائية في عملية تبادل فائقة الكمال بين ١٠٠ سم٣ من الدم و٣٥٠ سم٣ من الهواء الذي يشكل الأكسجين ٢١٪ منه. إن جميع العوامل المؤدية لهذه العملية المثالية، والتي تبدو في الظاهر وكأنها تقوم اعتمادًا على قوانين الفيزياء، مثل ضغط الهواء والتوتر السطحي للسوائل والخصائص البيوكيميائية للهيموجلوبين، ما هي إلا ستار لصاحب القوة المطلقة جل جلاله. لأنه لا ذرات الهواء ولا خلايا الدم تمتلك مثل هذه المعرفة ولا الإرادة، كل واحدة منها هي جندي رهن إشارة صاحب الإرادة الكاملة عز وجل.
حسنًا، كيف توفر مساحة الرئة البالغة ١٠٠ متر مربع هذا التمدد بحيث لا تتلاشى في مثل هذه المنطقة الصغيرة؟ هناك عنصران يساعدان الرئتين بمشيئة الله، أحدهما غاز النيتروجين وهو داعم كبير للأكسجين، وحجمه حوالي أربعة أضعاف حجم الأكسجين، فيدخل الهواء المحمل بالنيتروجين والأكسجين إلى الرئتين، ليجعلها تتمدد مثل الخيمة، وإنه العنصر الرئيسي الذي يحافظ على انتفاخ الحويصلات الهوائية. العنصر الآخر عبارة عن خليط من مواد كيميائية من المؤثرات السطحية تنتجها الرئة وتسمى “فاعل بالسطح الرئوي” (Surfactant). وكما هو الحال في الحياة الاجتماعية، يجب إعداد وسائل الدعم في الداخل، بينما ينتظر الدعم من الخارج من أجل إنجاز أمر ما.
والآن قد حصل الدم على الأكسجين وتخلص من ثاني أكسيد الكربون.. يأتي ثاني أكسيد الكربون أولاً إلى قنوات الهواء الصغيرة، ثم إلى قنوات الهواء الكبيرة والذي يعمل على سماع صوتك أثناء خروجه، ونظرًا لزيادة كثافة ثاني أكسيد الكربون، فإنه يجعل الهواء خانقًا، فلو ظل على هذا النحو، فإن الحياة على الأرض ستنتهي بعد مدَّة، بسبب ثاني أكسيد الكربون الذي تطلقه جميع الحيوانات والبشر، ولكن يُستخدم ثاني أكسيد الكربون في عملية التمثيل الضوئي ليتحول إلى مادة مغذية للنباتات، وهو في الوقت نفسه مصدر مهم جدًّا بالنسبة لنا في عملية صناعة السكر.
لقد ذكرنا بأن القلب ينقسم إلى أربع حجرات، لا يختلط الدم الغني بالأكسجين والمنزوع الأكسجين ببعضهما بين هذه الحجرات؛ حيث يوجد جدار حاجز يقسم القلب إلى نصف أيمن ونصف أيسر. في بعض الأحيان يكون الجدار الحاجز غير مكتمل التكوين أو حدث به ثقب، فتختلط دماء الجانبين وتنتج الأمراض. وعلى الرغم من أنه من الممكن استدامة الحياة لو كان الدم المختلط بنسبة قليلة، فإنه يتعذر العيش لو كان مقدار الدم المختلط كثيرًا. ومن هنا يمكننا تشبيه الذنوب بالدم الملوث، والأعمال الصالحة بالدم النقي، حيث يأمرنا الله تعالى ألاّ ندنس النقي، وأن ننظف المساوئ بالاستغفار، والتنفس هو تطهير البدن من الذنوب أي استغفار.
تقوم الشعيرات الدموية التي يبلغ طولها ٩٠ ألف إلى ١٢٠ ألف كيلو متر تقريبًا بنقل الدم المنتشر على نطاق واسع، إلى ١٠٠ تريليون خلية في بدننا. تنتقل الفضلات وثاني أكسيد الكربون الناتج عن الخلايا عبر الشعيرات الدموية إلى الدم، وينتقل الغذاء والأكسجين من الدم إلى الخلايا. ويحدث هذا التبادل على نطاق واسع في البدن، فتنقل الشعيرات الدموية التي تبلغ آلاف المترات، الجماليات والقيم المأخوذة من مساحة مائة متر، وهذا يعني وجوب مشاركة القيم التي نحملها على نطاق أوسع.
هذا وإننا إذا أمعنا التفكير في أن أهم عمليات المعالجة والتنقية تتم في أصغر الأماكن وهي الشعيرات الدموية، لَتوصلنا إلى نتيجة أن جزءًا كبيرًا من نقائنا وطهرنا موجود بالفعل في أنفسنا وحياتنا الأسرية.
حِكم في شبكة الأوعية الدموية
إن التلف الذي يحدث في السطح الداخلي للأوعية الدموية، يفتح السبيل أمام مشكلات أكبر بمرور الوقت.. وإن ضيق الأوعية الدموية هو أحد المخاطر التي تهدد حياتنا. تستقر الدهون في التشققات الناتجة عن تلف البطانة الغشائية التي تبطن الأوعية الدموية من الداخل، ثم يغلف الكالسيوم هذه الخلايا، فتتحرر قطع صغيرة بعد فترة تهبط للأسفل مع تدفق الدم وتتسبب في انسداد الأوعية الدقيقة، مما ينتج عنها الذبحة القلبية والتنخر (أي موت الخلايا الالتهابي). في مثل هذه الحالات، يجب إجراء جراحة المجازة (فتح مجرى جانبي) أو إزالة هذا التضيق عن طريق الدعامة.
وفي صدد قراءة القوانين الكونية، فإن هناك كثيرًا من الأشياء التي يريد كل عضو في الجسد أن يقصها علينا، من خلال الوظيفة التي يؤديها. فلو نظرنا بحكمة، لتمكّنا من استنتاج العديد من النتائج الاجتماعية من القوانين السارية في كتاب الكائنات والإنسان.
يشير الأستاذ بديع الزمان سيعد النورسي إلى إن علم الطب علمٌ وفن في الوقت نفسه، وهذا يعني أنه من الضروري تقييم علم الطب بتعريفه الفني أيضًا، وإن اتخاذ قرار بماذا ومتى وأي دواء مناسب للمرض، هو من مهارة الطبيب وفنه.
أما الأستاذ فتح الله كولن، فقد لفت الأنظار إلى التشابه بين بنية الإنسان التشريحية وعلم القوانين الكونية على النحو الآتي: والحاصل أنَّ “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” والتذكيرَ الدائمَ بالموضوعات المتعلقة بـ”الرقائق”، يشبهان الشرايين والأوردة بالنسبة للإنسان؛ إذ إنّ حياة الجسد كله حتى ما فيه من شعيرات مرتبطةٌ بهما، كما أنّ مواصلةَ ما في الدين من حياة وحيوية، مرهونة بالوفاء بهاتين الركيزتين من المؤيدات، لأن الإنسان سيمتلك في ظلّ هذا، قلبًا واعيًا حكيمًا سينشغل بعاقبته، وسيخطو كل خطوة بحذر وتيقّظ، وسيقضي كل لحظة من حياته، يحاسب نفسه ويقوِّمها”.
(*) كاتب وأكاديمي تركي. الترجمة عن التركية: خالد جمال عبد الناصر زغلول.