الطفل الموهوب كيف نكتشفه ونرعاه؟

إن مهمة البحث عن الطفل الموهوب، مهمة مشتركة بين الآباء والمعلمين، فالتعاون عامل أساسي، ليس في اكتشاف الطفل الموهوب فحسب، بل وفي توفير الفرص له لكي ينمو روحيًّا وجسميًّا وعقليًّا. وبالدرجة التي يشتركان بها في هذه المسؤولية، يتقاسمان الفخر بهذا الطفل وبالرضا عن أعماله، وبذلك يجمعان بين الرضا والحرص على أن يجعلا من هذا الطفل صاحب المواهب النادرة، شخصية متكاملة متفوقة.

ومما لا شك فيه أن هناك أساليب مختلفة تتبع في الكشف عن المواهب، وتتضمن مثل هذه الأساليب ملاحظات الوالدين، وترشيحات المعلمين، وترشيحات الخبراء، وترشيحات الأقران، والتقارير الذاتية، والاختبارات التحصيلية، واختبارات التفكير الابتكاري والإبداعي إلى جانب اختبارات الشخصية. وثمرة عملية الكشف عن الموهوبين ورعايتهم بخمس مراحل أساسية على النحو التالي:

١– مرحلة المسح والفرز المبدئي: ويتم خلالها التعرف على أولئك الأطفال الموهوبين.

٢– مرحلة التشخيص والتقييم: ويتم خلالها التأكد من تلك الملاحظات التي يكون قد أبداها أولئك الأشخاص الذين قاموا بترشيح هذا الطفل أو ذاك ليكون من الموهوبين. كما يتم تطبيق المقاييس المختلفة للحكم على موهبة الطفل، ومدى مطابقته للمعايير الفنية بما يجعل منه طفلاً موهوبًا.

٣– تقييم الاحتياجات: ويتم هنا تصنيف الموهوبين إلى فئات مختلفة بحسب مواهبهم.

٤– اختيار البرنامج المناسب والتسكين، بما يحقق أقصى استفادة للطفل من هذا البرنامج أو ذاك.

٥– التقييم: وهنا يتم تقييم الأنشطة والبرامج التي يكون قد تلقاها الطفل.

وفي الواقع نحن في العادة نكتشف الموهبة الثقافية وغيرها من المواهب مصادفة، كأن نسمع طفلاً يقرأ قراءة سليمة معبرة، أو نراه في موقف خطابي معين، أو نقرأ شيئًا كتبه.. لكن هذا الاكتشاف ليس مهمًّا، لأن موهبة الطفل برزت من خلال سلوكه الفني أو الثقافي، وأعلنت عن نفسها دون أن يكون لأحد دور في ذلك. ومن الممكن أن يستفيد الآباء والمعلمون من ملاحظة أي مؤشر لموهبة ثقافية أو فنية عند الطفل، ثم تأتي الرعاية والمتابعة. ويمكنهم أيضًا أن يرتفعوا إلى مستوى مكتشفي المواهب إذا امتلكوا القدرات اللازمة لمتابعة الأطفال الموهوبين. أما القدرات والمعارف اللازمة لمكتشف المواهب الثقافية والفنية فهي:

تتمثل في عدة قدرات مثل: القدرة على الملاحظة المستمرة، والقدرة على إثارة الطفل الموهوب، والقدرة على المعرفة الثقافية واللغوية والفنية، والقدرة على معرفة مراحل نمو الطفل، والقدرة على معرفة صفات الطفل الموهوب وحاجاته.

ومن المتفق عليه، أن الطفل الموهوب في القصة مثلاً، لا يشترط فيه أن يكون موهوبًا في الخطابة أو الشعر أو المقالة.. ولهذا السبب يحتاج مكتشف الموهبة الثقافية أو الفنية إلى الملاحظة المستمرة، ليكتشف ميول الطفل الموهوب. كذلك ليست موهبة الطفل عامة شاملة، وإنما هي محدودة بمن هم في سنه وعمره العقلي، أي إنه موهوب بالقياس إلى أقرانه، ويؤخذ ذلك بعين الاعتبار أثناء رعاية الطفل الموهوب وتوجيهه ومتابعته.

ومن المعروف أن رعاية الموهوبين يمكن أن تتم في المدرسة من خلال الإسراع التعليمي عن طريق تخطي الطفل صفوفًا أو مقررات دراسية معينة، أو الالتحاق المبكر بالمدرسة، أو بصفوف معينة.. كما يمكن أن يتم أيضًا من إخلال الإثراء التعليمي والتجمع، سواء تم ذلك عن طريق المجموعات المتجانسة أو حتى المجموعات غير المتجانسة.

ومما لا شك فيه أن الطفل الموهوب يبدي منذ العام الأول من حياته، بعض الإشارات الدالة على ذكائه أو بعض الميول الفنية أو الموسيقية، وقد يبدأ الأطفال استخدام جمل كاملة في حديثهم، وذلك في سن مبكرة من حياتهم، وقد يلتفتون إلى تفاصيل بيئية معينة، وقد يثيرون أسئلة تكشف عن فهم من جانبهم لا يتوافر لغيرهم. كما أنهم قد يتعلمون الحروف والأعداد، ويدركون الألوان والأشكال، وذلك بقدر كبير من السرعة والاهتمام. وقد يمكنهم إلى جانب ذلك، القراءة بشكل تلقائي، وقد يظهرون موهبة فنية أو موسيقية غير عادية، وما إلى ذلك.

ومن المعروف أن الطفل الموهوب بالروضة، يتعلم بسرعة أكبر قياسًا بأقرانه العاديين، ولكنه يصبح كثير المطالب، ويحتاج إلى رعاية أو عناية فائقة. وقد يجد الولدان أنهما مشدودان لذلك فيعملان بالتالي على توفير الإثارة اللازمة لطفلهما. وعلى الوالدين أن يذهبا إلى أحد الأخصائيين المهتمين بالموهبة، حتى يجري عليه بعض الاختبارات والفحوص النفسية، كي يتأكد بمقتضاها من موهبته ونوع الموهبة.

ومن أهم المقاييس النفسية التي تستخدم في هذا الصدد، الصورة المعدلة من مقياس وكسلر للذكاء لأطفال ما قبل المدرسة وأطفال المرحلة الإبتدائية (ذكاء لفظي وذكاء عملي)، أو مقياس ستانفورد – بينيه للذكاء (Stanford – Binet Intelligence test)، والذي يمكن استخدامه عندما يتجاوز مستوى ذكاء الطفل حدود مقياس وكسلر. وإذا كان الطفل يستطيع القراءة وإجادة بعض العمليات الحسابية، يصبح بالإمكان استخدام اختبارات تحصيلية مقننة تم إعدادها لذلك وإن كان يفضل أن تستخدم اختبارات شفوية في ذلك السن. أما عندما يجيد الطفل القراءة والكتابة مع إجادة الحساب، فيفضل إلى جانب ذلك أن نستخدم اختبارات تحريرية.

أما فيما يتعلق بالمواهب الفنية، فإن الإنتاج الفني يعتبر هو الأساس في ذلك، وبالنسبة للفنون الأدائية كالغناء والرقص والموسيقى والدراما وحتى المهارات الحس حركية.. فيمكن الحكم على الطفل أو المراهق من خلال أدائه الفعلي فيها. ويفضل أن يتم تقييم هؤلاء الأطفال بشكل فردي، حتى يمكن الحكم بدقة على مواهبهم.

ويجب أن تتسم الروضة أو المدرسة التي سيلتحق بها مثل هؤلاء الأطفال الموهوبين، بالمناخ الإيجابي الدافئ، وثبات العاملين بها وعدم تنقلهم بشكل مستمر، ووجود قدر معقول من النظام والتنظيم بها، وتوفير الفرص المناسبة لحب الاستطلاع والابتكارية، وغرس حب الكتب والقراءة في الطفل ورعاية هذا الأمر، وتوفير فرص مناسبة للعب والاستكشاف، والاهتمام بالأنشطة الحركية، والاهتمام بنسق القيم السائدة في المجتمع، وتعليم الطفل اختيار السلوك والتفاعل الاجتماعي، وإعداد الطفل للدراسة الأكاديمية. وإذا ما توفرت مثل هذه المحكات في الروضة أو المدرسة، فإنها بطبيعة الحال تعمل على رعاية مواهب الأطفال وتنميتها وتطويرها.

أسس الرعاية والتوجيه

إن رعاية الموهبة الثقافية والفنية، غير مقصورة على الاهتمام بالطفل الموهوب والتعاطف معه، فهذان الأمران مطلوبان، ولكنهما غير كافيين لتنمية الموهبة الثقافية وتوجيهها، لأن الرعاية تعني العمل العلمي الواعي مع الموهوبين، وهذا العمل يستند في العادة إلى ثلاثة أسس هي: تهيئة الظروف الموضوعية لنمو الموهبة، والإشراف والمتابعة والتوجيه، والتنافس.

فالموهبة تخبو إذا لم تكن الظروف المحيطة بها قادرة على تنميتها، وأهم هذه الظروف؛ الحرية والفردية والتشجيع. ذلك أن الموهبة الثقافية لا تنمو في ظروف القهر وسيطرة الكبير على الطفل الموهوب، وتوجيهه بحسب رغباته وآرائه. وتتيح علاقة الود بين الموهوب والمربي، فرصة متابعته، ومعرفة استجابته للمواقف، والمعوقات التي تحول دون دخوله حقل الإنتاج الثقافي والفني.

ثم إن التنافس بين الموهوبيين، يحفز الموهبة الثقافية والفنية على التفتح، ويدفع الطفل إلى تجويد إنتاجه والتدقيق فيه. ومن البديهي أن يكون التنافس تربويًّا بعيدًا عن الحسد والغيرة والمشكلات التي تنتج عنهما. ومتى أدرك الآباء أن طفلهم موهوب، فمن الخير أن يبادروا بالتفكير في مستقبله، وأن يرسموا خطتهم من الآن، لكي يواصل ابنهم تعليمه، وألا ينتظروا حتى يتخرج من المدرسة الثانوية، والإعداد للمستقبل خطوة أساسية جوهرية لعدم التبذير في مواهب أبنائهم.

وتحتل الرعاية مكانة مهمة في العمل مع الموهوبين على أن تتكامل المصادر التي تقوم بها، وتوظف جهدها للإشراف والمتابعة والتوجيه.. فالأسرة والمدرسة والمجتمع هي مصادر الرعاية، وتحتضن الأسرة الموهبة، وتوفر لها حاجاتها الأساسية، وتدفعها إلى الإنتاج وتحوطها بالحرية، كما أنها تشجعها وتزيل العقبات التي تعترضها. ويجب على الوالد العمل على توفير مكتبة بالمنزل كي يتعلم من خلالها، بحيث تتضمن كتبًا ، وألعابًا، وصلصالاً، ومكعبات، وألعابًا بنائية.. وإلى جانب ذلك يجب أن يعمل الوالد على تعليم الطفل المهارات المكانية، والابتكارية، وتقبل المكسب والخسارة. كذلك يجب أن تصبح الأسرة أقل منعًا لسلوكياته، وأقل تقييدًا لتصرفاته ما لم تخرج تلك السلوكيات عن إطارها المسموح به. كما يجب أن تحرص الأسرة على اصطحابه إلى المتاحف، والحدائق، والمتنزهات، والمسارح، حيث يمكن أن يؤدي ذلك إلى توسيع أفق الطفل ومداركه.

دور الوالدين في تنمية الموهبة

ولقد بينت الدراسات التجريبية، أن آباء المبدعين يمثلون عاملاً حاسمًا في أدائهم الإبداعي من حيث كونهم نماذج للتوحد معهم، ومن حيث استثارتهم لمواهب أبنائهم ومحاولة تنمية هذه المواهب، كما أن تصرفات الآباء والأمهات كما يتلقاها الأبناء، أهم العناصر في تشكيل سلوكهم بوجه عام وسلوكهم المعرفي والإبداعي بوجه خاص، وذلك من خلال تعليمات الآباء اللفظية، وهذه التصرفات أهم من الأماني اللفظية للآباء والأمهات.

كما يجب على الأم تنمية الابتكارية لدى الطفل، لأن الأم الرؤوم ذات الطبع المستقر تولد لدى الطفل شعورًا بالأمن والطمأنينة، ويكون منطلقًا لشعوره -وهو الموهوب- المقبل بالاستقلال. إنها تؤكد استقلاله عن طريق الحماية التي يقدمه لها عطفها وحنانها. وتغدو الأم فيما بعد، عونًا لطفلها على تطوير قدراته، وعلى اكتساب القيم، وعلى توليد معايير القيم الخاصة به. ومن المفترض أن تعي الأم كيف تساعد إسهامات العائلة في النمو الفكري والعاطفي والإبداعي والابتكاري للطفل، عن طريق تجويد البيئة العائلية التي يحيا فيها الطفل، وهو تعلم غير مباشر. كما يجب عليها أن توظف الأسرة في النمو الفكري للطفل، عن طريق تقديم العوامل المهيأة للابتكار، وذلك بإيقاظ المجرى الطبيعي للنمو لدى الطفل، وتوجيه ودفعه إلى الأمام. ولقد أوضحت الدراسات تميز الأمهات مرتفعي الإبداع بالسماح لأبنائهن في سن أكثر تبكيرًا، بنوع من الاستقلال والسلوك الاستكشافي، وحرية اتخاذ القرارات في تصرفاتهم داخل المنزل أو خارجه.

ويجب على الوالد، أن يشجع أطفاله على الاشتراك في الأنشطة المدرسة الإيجابية التي يمكنهم خلالها أن يشاركوا أطفالاً آخرين متعة التعلم، وذلك كالاشتراك في الفِرَق المختلفة، والأعمال الدرامية، والمناظرات، ونادي الكمبيوتر، والصحافة المدرسية، وحل المشكلات المستقبلية.. وسوف تساعدهم مثل هذه المشاركة الإيجابية كثيرًا خلال تلك الفترة التي تسود فيها ضغوط الأقران خلال سنوات الدراسة بالمرحلة المتوسطة (الإعدادية) والعليا (الثانوية)، وذلك في تجاوز ما يمكن أن يحدث من عقبات وما يصادفها من مشكلات.

ويجب على الوالدين أن يحددوا توقعات تتفق مع قدرات أطفالهم وإمكاناتهم، حتى يشعروا بالإنجاز عند تحقيقهم لها. كذلك فإنه من الأكثر احتمالاً بالنسبة للوالدين اللذين يحاولان بطريقة لا شعورية، أن يعملا على إيجاد تواصل جيد مع أطفالهما الموهوبين، أن يكونا أكثر حساسية لذلك الوقت الذي يحتاجان فيه أن يعدلا من تلك التوقعات، حتى يساعدا أطفالهما على الشعور بالدافعية، دون أن يشعروا بأي ضغوط غير معقولة، وهو الأمر الذي يساعدهم كثيرًا في تحقيق الإنجاز المتوقع منهم إلى جانب تحقيق توقعات والديهم بالنسبة لهم أو توقعاتهم هم أنفسهم.

دور المدرسة في رعاية الموهبين

وتحتل المدرسة المكانة الثانية في رعاية الموهوبين، ومن واجباتها فتح سجل للتلاميذ الموهوبين تدون فيه تطوراتهم وسلوكهم الثقافي والفني، ومشاركتهم في العمل الثقافي المتميز طوال السنوات الست التي قضاها الطفل الموهوب في المدرسة الإبتدائية، كالكتابة في صحف الصف والمدرسة، والخطابة في المناسبات، والنشر في المجلات، والمشاركة في المسابقات داخل المدرسة وخارجها.

ويضيف أحد الباحثين ملاحظة هامة، وهي أن الملاحظة المباشرة للطفل في ظروفه المختلفة، تعطي معلومات ثمينة عنه لا تعطيها أي طريقة أخرى أو أي مصدر آخر، وكذلك توفير الظروف الموضوعية، والمربين المؤهلين، والتشجيع، لأن مستوى الموهوبين ليس واحدًا. وينبغي إثراء المناهج المدرسية بمواد إضافية لإشباع حاجات الأطفال الموهوبين، والتركيز على الطفل في عملية التعليم، لأن هذا أصبح مطلبًا أساسيًّا في المدرسة الحديثة، وييسر فرصة تفريد التعليم، ومراعاة للفروق الفردية بينهم. وينبغي أيضًا استخدام الطرق الاستكشافية في التعليم لمساعدة الطفل على إشباع حاجته للكشف والتنقيب والاطلاع والتخيل، لأن هذه الطرق تساعد على رعاية الموهبة الثقافية والفنية عند الأطفال وتنميتها. فالطفل الموهوب رجل المستقبل، وليس الحاضر سوى الإعداد لهذا المستقبل.

(*) كاتب وباحث وأكاديمي / مصر.

المراجع

(١) الابتكار وتنميته لدى أطفالنا، د. إسماعيل عبد الفتاح، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ٢٠٠٥م.

(٢) رعاية الموهوبين، د. عادل عبد الله محمد، دار الرشاد، القاهرة ٢٠٠٣م.

(٣) أطفالنا الموهوبون، د.صادق سمعان، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة ١٩٦٣م.

(٤) الأطفال الموهوبون ثقافيا، بهاء الدين الزهوري، الخفجي، السعودية، أغسطس ٢٠٠٢م.