قد تكون جائحة فيروس كورونا المستجد، من أهم الأحداث الإنسانية التي وقعت في المائة عام الماضية. إن هذه الجائحة هزت ثوابت العصر الحديث، واستطاعت أن توقف حركة البشر بشكل غير معهود. ولكن مهما عرفنا الآثار التي أحدثها هذا المخلوق المجهري، فينبغي ألاّ ننصرف عن الاتعاظ والاعتبار، والنظر في الأسباب غير الظاهرة، وألاّ ننسى ضعفنا وقلة حيلتنا أمام القدرة الإلهية. وكثيرة هي العبر والدروس التي ينبغي أن نستخلصها من تفشي هذا الوباء في العالم أجمع، نذكر منها ما يلي:

أن يدرك البشر كلهم ضعفَهم أمام قدرة الله تعالى، وأن يَدَعوا غرورَهم بمخالفة شرائعه؛ فقد هزمهم هذا الفيروس الذي لا يُرى بالعين المجردة، هزمهم رغم جيوشهم وأسلحتهم المدمرة، هزمهم رغم تقدمهم العلمي الذي ظنوه قد بلغ القمة، وحسبوا أنه لن يُعجزهم شيء، فهزمهم رغم كل إنجازاتهم العلمية واكتشافاتهم، لكي يدركوا ضآلةَ ما عرفوا في مقابل ما جهلوا، لكي يدركوا أنهم أقل وأضعف من أن يغترّوا بما وهبهم الله تعالى من المعارف (وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ)(البقرة:٢٥٥).

أن يعرف البشر أن ما يبذلونه في التسليح وآلات الدمار، كان ينبغي أن يكون كله أو غالبه في البحث العلمي، لأنهم لو كانوا فعلوا ذلك بقصد نفع البشرية، لربما كانوا قد نجوا من هذه الجائحة؛ بالوقاية منها وبإيجاد العلاج الشافي منها (بإذن الله).

أن يعلم البشر حاجتهم للنبوات والشرائع السماوية التي تبين لهم علاقتهم بالموجودات، وكيف يتعاملون معها؛ لأن تلك الشرائع هي هداية الله للناس من شطط الغرائز وانحراف الأخلاق وانطماس الفِطَر، لأنها جاءت هاديةً لهم إلى ما يُسعدهم. فقد جاءت الشرائع -مثلاً- تبيح مطعومات وتحرّم أخرى، لا عبثًا ولا تضييقًا على الناس، وإنما قيامًا على ما فيه مصلحتهم. فلما تجاوز الناس حدود ما تبيحه الشرائع من المطعومات والمشروبات وغير ذلك من الأفعال، ظهرت فيهم الأوبئة كفيروس كورونا.

أن يُقدّس البشر سُنن الله تعالى في الخلق، فلا يحاولوا التدخل بالإفساد في قوانين الطبيعة، فإن الذي خلق الأرض يغار عليها من الإفساد، قال تعالى: (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(الأعراف:٨٥)؛ فقد بدت حكمة لله تعالى في هذا الفيروس، وهو أن تتنفس الأرض من آثار الانبعاثات التي أفسدت غلاف الأرض الحامي لها من الأشعة الضارة المنبعثة من الشمس. لقد رأى الناس زُرقة السماء التي كانت محجوبة عنهم في عدد من عواصم العالم.

أن يتذكر الناس حقيقة طالما غفلوا عنها أو تغافلوا عنها، وهي أنهم يعيشون في كوكب واحد، جعلته وسائلُ النقل والاتصال الحديثة قرية واحدة، فما يُبتلى به شعبٌ، ستظهر آثاره على بقية الكوكب.

أن يتحقق الناس كلهم، أن أخوتهم الإنسانية توجب عليهم أن يقوموا بحقها؛ تراحمًا وتعاطفًا وتعاونًا في الخير، فلا تكون المصالح الخاصة بشعب سببًا لتجاهل شعب آخر، فضلا عن الاعتداء عليه طمعًا في مقدراته وثرواته. لقد أجبرتنا هذه الجائحة أن نجلس جميعًا في عزلة واحدة (دولنا الغنية ودولنا الفقيرة على حد سواء ، دول العالم الأول والعالم الثالث)، تَلفُّنا جميعًا أرديةُ التخوف والحذر، ونترقب ساعة الانفراج بالأمل. لم ينج من هذا الواقع رئيس دولة، ولا عامل في شارع، ولا الدول المتقدمة، ولا الدول النامية.. الجميع عرف أنه إنسان، الجميع أدرك أنه كغيره من البشر، لن يميزه لونُه ولا عِرْقُه ولا جنسيته ولا كل عنصريات البشر وعنجهياتهم.

أن يعلم المتعادون والأصدقاء، أن نجاتهم لن تتم بهلاك عدوهم، بل نجاتهم مرتبطة بنجاة عدوهم وصديقهم على حد سواء. فلو نجت بلدُك من هذا الوباء وتجاوزتْ مرحلة الخطر فيه، وبلد عدوك ما زال المرض فيها متفشيًا، ما الذي يحميك ويحمي بلدك من أن تعبر العدوى إليك في دورة جديدة لتفشّيه؟! لذلك أنت مضطر لطلب النجاة لعدوك كما تطلبها لنفسك. أرأيتم كيف بَينتْ هذه الجائحة تفاهةَ العداوات أمام ما يُهدد البشرية؟!

(*) كلية الدعوة وأصول الدين، جامعة أم القرى / المملكة العربية السعودية.