لقد نجح العلم وتكاثرت منجزاته، حيث وفّر حياة رغيدة، وعمائر شاهقة، وحواسيب ذكية، وهواتف نقالة، وطائرات نفاثة، وخدمات صحية، ومنظومات تعليمية وعولمية هائلة الخ.. كل هذا -وغيره- أعطى الانطباع بأنه لا يمكن وجود خطأ في نسقه وطرائقه التجريبية. لكن تبين لعلماء تحوُّل كثير من مسائله إلى عقائد حتمية لا تقبل النقاش. وتشابهت المؤسسات العلمية مع كهنوت العصور الوسطى الأوربية التي عاقبت كل من يخالف عقيدتها العلمية. وسرى اعتقاد “نحن نؤمن بالعلم فقط”، مما جعله نظامًا أيدولوجيًّا يتم التبشير به، ويرجم كل من ينتقد منظومته، رغم أن نسقه قائم على النقد والبحث والتجريب والاستدلال.

الأوهام العشرة للعلم الحديث

في جامعة كامبريدج (١٩٦٧-١٩٧٣)، تخصص الدكتور “روبرت شيلدريك” (Rupert Sheldrake) (١٩٤٢) في مجال الكيمياء الحيوية وبيولوجيا الخلايا، وعمل باحثًا رئيسًا في فسيولوجيا النبات في “المعهد الدولي لبحوث المحاصيل في المناطق المدارية شبه القاحلة” حتى عام ١٩٧٨. ومن أشهر كتبه في الولايات المتحدة “تحرير العلم: عشرة طرق لاكتشافات جديدة” (٢٠١٥)، وفي طبعته البريطانية (٢٠١٢) نشر بعنوان “وهم العلم” (The Science Delusion)، ليكون ردًّا على كتاب الفيزيائي “ريتشارد دوكنز” (Richard Dawkins) “وهم الإله” (The God Delusion). وعرض الدكتور “شيلدريك” عشر “عقائد”، ثم أثبت أنها ليست مؤكدة أو صلبة، بل هي “أوهام” بحتة.

الوهم الأول: كل شيء يسير آليًّا ميكانيكيًّا

فالطبيعة ميكانيكية، والكون بما فيه هو كالآلات، وما البشر إلا روبوتات (خرقاء مزعجة، بأمخاخ كحواسيب مبرمجة جينيًّا) كما وصفهم “ريتشارد دوكنز”. لكن -في الواقع- الكائنات الحية لها قوى تنظيمية ذاتية، وغايات وأهداف خاصة عكس الآلات المُصنعة (المبرمجة). فركوبك سيارة ستأخذك -بانضباطها- حيث تريد بدقة، بيد أن ركوبك حصانًا ربما لا يفعل ذلك، فله أهدافه الذاتية وهو ليس آله ميكانيكية.

الوهم الثاني: المادة لا وعي لها

الكون تَخَلَّق من مادة “أزلية غير واعية، وليس لها حياة داخلية ولا غائية”. فلا شيء غير المادة (Matter) والفلسفة المادية “الأحادية” (غير المطلقة، والانخلاع منها هو بعث للعلوم من جديد). بينما “الفلسفة الثنائية” لازمة لتفسير ظواهر الوجود والكون، وغلق الباب أمام البحث فيما وراء المادة، هو “انغلاق علمي وفكري”.

الوهم الثالث: قوانين الطبيعة والقياسات العلمية

قوانين الطبيعة والقياسات العلمية: الجاذبية، وسرعة الضوء، وسرعة الصوت ..إلخ، قياسات ثابتة. لقرون، قبلت نظريات “نيوتن” على أنها الحقيقة، ثم ظهرت النظرية النسبية لـ”آينشتين” لتوضح أن التجريب بأجهزة قياس أدق، أثبت أن نظريات “نيوتن” لا تنطبق -بإطلاق- على كل الحالات. ثم فشلت النظرية النسبية في تفسير سلوك الجسيمات الذرية الصغيرة، فظهرت ميكانيكا الكم، التي تحمل في طياتها: “لا يمكن معرفة أي شيء على وجه الدقة تمامًا، ولا توجد قياسات لانهائية الدقة أو حتمية النتيجة، بل يجب تضمنها درجة من “الشك”. فأي أداة قياس لا تسجل نتائجها بدقة لا نهائية، لأنها تتطلب قياسات وشروط ابتدائية لا نهائية. لكن باستخدام أداة قياس أكثر دقة، يمكن التقليل من معدل “الشك” في التنبؤات النهائية بمقدار صغير يُحتاج إليه لهدف معين. وهدف العلوم هو زيادة الدقة المطردة لأدوات القياس لتقترب من الدقة المطلقة، ولن تصل إليها أبدًا. وأعلن مختصون أن لديهم تقارير دورية، تؤكد “نسبية وتباينها الثوابت الطبيعية” وفق متغيرات عديدة مكانًا وزمانًا.

الوهم الرابع: مجموع المادة والطاقة ثابت

محموع المادة والطاقة ثابت، والمادة والطاقة لا تفنى ولا تستحدث. وهذه العقيدة هامة جدًّا وقائمة على افتراض عريق؛ ففلاسفة اليونان قالوا بأن الحقيقة المطلقة هي أبدية وثابتة، واعتقد “الفيثاغورثيون” تجليها في الأرقام والرياضيات، واعتقد “الأفلاطونيون” أنها تحوم حول الأفكار الأبدية الماورائية، أما “الماديون” فقالوا إنها المادة والذرات التي لا يمكن زيادة عددها أو نقصانه. وعندما أدمج هذا المذهب مع العلم الحديث، انتقلت إليه الفرضية. فالله خلق جميع الذرات، ولأن الله خلقها فالعدد الإجمالي يبقى نفسه للأبد. ولأن الحركة والطاقة من عطاء الله إذا هما كمية ثابتة يستحيل اضمحلالهما أو ذهابهما، لأنهما “جُعل إلهي”.

وتبين أن انجذاب المجرات لبعضها أكثر مما كان سابقًا. وإذا جمعت مادة النجوم وكمية من الثقوب السوداء والكواكب والسحب الغازية، فستجذب المجرات الأخرى أكثر. وإذا اعتبرت هذه المادة السابقة فسيظهر خطأ فرضي صححه الفيزيائيون عبر زيادة الجاذبية وزيادة مادة أخرى. فأضافوا قيمة المادة السوداء (لا نعرف طبيعتها غير أنها خمسة أضعاف المادة المعروفة)، ولا بد من وجودها لتوازن المعادلات. مما أوجد مشكلة أن وجودها الزائد، يعني تضخم الكون بما لا يتصور. وماذا عن التوسع الكوني، والبرودة المستمرة، مع تواجد مادة أكبر تبطئ هذا التوسع، مما سيؤدي لتوقفه ليحدث الانكماش، وينتهي العالم ممزقًا نظرية الانكماش العظيم.

لكن لوحظ عام ١٩٩٨ أن المجرات لا تتباطأ، وأن التوسع الكوني يتسارع. إذن، لا بد من وجود نوع جديد من الطاقة الكونية تدفع الأشياء بعيدًا، إنها “الطاقة السوداء”. فقط قم بإضافة القيمة المناسبة منها لجعل المعادلات متوازنة ولتحل المشكلات، لكن تبين أنها تزيد باتساع الكون وتمدده. لذا فالكمية الإجمالية للمادة والطاقة “السوداويتين”، تختلفان من وقت لآخر. وتقريبًا نحو ٩٦٪ من الكون يتكون من مادة وطاقة سوداويتين ونحو ٤٪ من المادة والطاقة عرفناها مدرسيًّا، وتنطبق عليها القوانين الاعتيادية. لكن ماذا لو أمكن تحويل الطاقة السوداء إلى طاقة منتظمة، والعكس بالعكس؟ لا أحد يعلم.

الوهم الخامس: الطبيعة والعملية التطورية عبثية لا غائية

الطبيعة والعملية التطورية عبثية لا غائية والرد على ذلك: العلة الغائية خارج نطاق العلم، لا يستطيع إحاطتها، فكيف يقرر بشأنها؟ وتفترض نظرية “المجال التكويني”، أن نمو وتطور الكائنات الحية لا يخضع لمؤثرات من داخلها، بل لمؤثرات خارجية. وهي خاصة بكل جنس من الأحياء على حدة. وتوجد المؤثرات الخارجية على هيئة مجالات ذات درجات قوة مختلفة، والتأثر بها موروث في الخلقة، وهو المسؤول عن النمو والتطور في أفراد جنس بعينه.

الوهم السادس: كل الوراثة البيولوجية مادية وموروثة

كل الوراثة البيولوجية مادية وموروثة من الجينات، والحمض النووي، فعندما توصل “واطسون وكريك” إلى اكتشاف جزيء “دنا” (DNA) وطريقة قيامه بوظائفه، ظن العلماء أنهم توصلوا لسر الحياة “المادي”. وأصبح البيولوجيون يعتبرون أن دنا “جيناتنا” مسؤولة عن بنيتنا وسلوكنا وشخصياتنا وقراراتنا. ثم تبين حديثًا وجود آليات شديدة التعقيد توجه نشاط الجينات وتشتمل على عوامل بيئية ونفسية عديدة. وثبت أن الإنسان يتمتع بحرية إرادة وتركيز عقلي قادر على تعطيل أو تعديل نشاطاته الجسدية التي تقف خلفها الجينات. لذا “فالحتمية الجينية” التي أطلقها الماديون قد عفا عليها الزمن.

الوهم السابع: العقل موجود داخل الأدمغة وهو نشاط للمخ

عندما تنظر إلى شجرة، فإن صورة الشجرة التي تراها ليست خارجية وإنما هي داخل مخك. وهناك فرق بين غياب الدليل على العقل وبين الدليل على غياب شيء. ففي غياب الدليل على شيء فمن حق أي منّا افتراض وجوده بدون اتهام بعدم الموضوعية، وربما هو عنده دليل لكنه لا يستطيع تقديمه. وغياب الدليل على الافتراضات العلمية ليس مؤشرًا على أنها صادقة أو كاذبة، لكن على أنها مجرد افتراضات، وكذلك افتراض أن العقل البشري أكبر من حدود المخ المادية، وهناك قضايا منطقية تدعم ذلك. فلماذا نقبل بعض الافتراضات بدون أدلة لأنها تعود لتيار فلسفي بعينه، ونرفض أخرى لمجرد أن بعض العلماء يرفضونها؟!

الوهم الثامن: الذكريات مخزنة في دماغك كآثار مادية من عمل بروتينات فسفورية

كما تقول النظرة المادية بأن “الفضائل والرذائل” هي “اهتزازات عصبية”. لكن، في أفراد الجنس البشري، يوجد جهاز استقبال موروث (المخ)، ويتناغم مع مجال تكويني معين، فيلتقط مؤثراته، كما يلتقط المذياع برامج إذاعة معينة عند ضبط موجتها. ويعمل “المخ” كذلك كمرسل. وبدلاً من الاحتفاظ بالذكريات، فإنه يرسلها لفلك معين، كما يحمل الأثير الموجات الإذاعية للفضاء. وكما لا تتبـدد الأصوات التي تبثها محطات الإذاعة (أي لا تتحول إلى عدم)، فكذا لا تتبدد ذكريات الإنسان في الفضاء. وطرافة هذه النظرية الخارجة على دلائل العلم الحديث، أنها الوحيدة التي يمكنها تفسير ظواهر عقلية مثل “الاستبصار”، و”التخاطر” ..إلخ. فكما يحدث اختلاط الموجات الإذاعية فيلتقط المذيـاع محطة غير مقصودة، فكذا تختلط موجات الأفكار، فيلتقط مخ إنسان ما أفكار إنسان آخر في مكان بعيد. إن لغز الذاكرة ليس بالبساطة التي يتصورها الإنسان، وبالمقاييس العلمية، لا يوجد دليل مادي قاطع على أن المخ هو مركـز تخـزين الذاكرة، ولا يوجد دليل دامغ على مكان اختزانها.

الوهم التاسع: الظواهر النفسية

الظواهر النفسية كالتخاطر عن بعد وتوارد الخواطر، لا يمكن حدوثها، وهي وهم. لا يمكن لأفكارك أن يكون لها أثر يتعدى المكان، لأنها تكمن داخل دماغك المادي. وتفترض نظرية “صدى التحول” أن “الذاكرة الكامنة في الطبيعة” والنظم الطبيعية، ترث الذاكرة الجماعية من كل الأشياء السابقة من نوعها”. وهي مسؤولة أيضًا عن “التخاطر والترابط بين الكائنات الحية”.

الوهم العاشر: الطب الغربي الحديث هو الوحيد الفعال

تجاهل “الطب البديل أو التكميلي” وإن بدت علاجاته مؤثرة، فإما لأن المريض قد شُفي أصلاً، أو أنها كتأثير “الدواء الوهمي” (البلاسيبو). ويعتبر “الطب الأصيل أو البديل” جزءًا من نظام صحي متكامل في حضارات شرقية عدة. وتوجد “علاجات وفلسفات صحية” تحته: العلاج بالوخز بالإبر الصينية، والعلاج بذات الداء (الهوميوباثي)، والعلاج بالأعشاب والغذاء، والعلاج بتقويم العمود الفقري، والعلاج الطبيعي، والتدليك أو المساج، والعلاج بالروائح، والعلاج بالبلورات، وطب الطاقة.. وبات “العلاج بالوخز بالإبر الصينية” يدرس في الغرب، وأصبح ممارسو الطب الأصيل يتبنى أساسيات “الطب الغربي”، فيطلبون إجراء فحوص معملية قبل تحديد العلاج البديل. لذا فممارسة “الطب المتكامل” المدمج للنوعين لهو الأفضل للبشر، حيث العلاج من منطلق شمولي، يتقصي نمط الحياة اليومية والبيئة المحيطة، والحالة النفسية والعصبية. والخلاصة؛ رغم تقدم مسيرة العلم، وتطبيقاته، تحولت بعض افتراضاته لعقائد حتمية لا يجوز الشك في مصداقيتها أو مناقشتها. فهل تَحرر العلم من “كهنوته وأوهامه” التي تناقض طبيعته النقدية؟

(*) كاتب وأكاديمي مصري.