غرس القيم لدى الطفل في ديوان صغير يرى العالم

يُعدُّ ديوان “صغير يرى العالم” نصًّا شعريًّا متكاملاً، يشكل نسقًا معرفيًّا لبناء منظومة القيم لدى الطفل العربي، وامتاز شاعره “أحمد مصطفى النناوي” بإجادة هذه الكتابة الأدبية، فجاء معجمه متناوَلاً ميسورًا دونما تقعُّرٍ، وجاء أسلوبه يسيرًا وجيزًا يسهل ترديده، خاليًا من الأخطاء اللغوية أو التعقيدات التركيبية، كما جاء شعره من جهة المضمون المعرفي تربويًّا تعليميًّا، ليغرس القيم والأخلاق والمثُـل في الطفل.. كذلك اهتم بتحقق الوحدة الموضوعية في الديوان بأن تنتظم القصيدة في موضوع واحد، والوحدة العضوية لتخرج القصيدة لُحمةً واحدة في تماسكها وانسجامها، حتى لا يتشتت ذهن الطفل في استيعاب الرسالة الموجهة إليه.

المعجم الشعري لأدب الطفل

وُفِّق الشاعر في اختيار عناوين قصائده، وجاءت ألفاظه موحية إلى حد كبير، لاندراجها تحت معجم أدب الطفل عامة، ومعجم الوطن والعالم خاصة، كقصائد “في حب مصر، و”العالم بيتك والأوطان”، و”طائرتي حول العالم” و”صغير يرى العالم”.. وهو المعجم الأهم لدى الشاعر بدليل وقوع عنوان إحدى قصائده عنوانًا للديوان برمته، لأنه يربط الطفل بالعالم الأكبر من حوله، ولعل في ذلك دعوة له نحو المشاركة والإيجابية.. كذلك معجم “القيم والأخلاق” ومنه قصائد “براءة” و”الحب” و”قلب طيب” و”أنا إنسان” و”عندي قطة”.. ومعجم “الروابط الإنسانية” ومنه قصائد “الأمّ مثـل الحب” و”عيد سعيد يا أبي” و”أبي وأخي” و”صديقي المدهش”.. ومعجم “العلم والمعرفة” ومنه قصائد “تعلّم تكلّم” و”أنا والكتاب” و”رموز الحضارة” و”هيا نحكي قصصًا” و”سؤال”.. وغني عن البيان أن بعض هذه العناوين يندرج تحت أكثر من محور معرفي أو معجم لفظي، فالفصل بينها ليس تعسفيًّا.

الوحدة الموضوعية

أفرد الشاعر لكل قصيدة موضوعًا واحدًا، لذلك نلمس وحدة موضوعية تدور القصيدة في فلكها؛ مثل دعوة الشاعر الطفلَ إلى الوطنية من خلال الاهتمام بالعَلَم في قصيدة “رموز الحضارة”، وتعريف الشاعر الطفلَ بالبلدان من خلال الاهتمام بالطيران في قصيدة “طائرتي حول العالم”، وحث الشاعر الطفلَ على حب الكتاب من خلال الاهتمام بالقراءة في قصيدة “أنا والكتاب”، وحث الشاعر الطفلَ على العلْم والزراعة والصناعة في قصيدة “تعلّم تكلّم”.

البعد التربوي التعليمي للشعر

يدخل هذا الديوان ضمن الشعر التربوي التعليمي، فقد حاول الشاعر غرس فضيلة الاعتزاز بالنفس لدى الطفل، وذلك بالإكثار من إيراد ضمير المتكلم (أنا)، خاصة في قصيدة “أنا إنسان” التي جعلها مفتتحًا لديوانه، فيقول في أبيات متفرقة منها: “أنا طفل، أنا إنسان، أنا قلب بكل مكان، أنا لا أقتل النملة، أنا طفل معي زهرة، أنا في كل ناحية، أنا من يبهر الدنيا برقته”.

مع الحث على حفاظ الطفل على فطرته النقية السليمة، مما يجعل الشاعر يعمد إلى التكرار؛ تكرار لفظة “الفطرة” صراحة، فقُبيل نهاية القصيدة يذكرها مرة واحدة في البيت “أحبُّ الحبَّ بالفطرة”، ليوطِّئ به لتكرارها في ثلاثة أبيات متتالية يجعلها مختتمًا للقصيدة، إذ يوقع لفظة “فطرة” خبرًا لمبتدأ هو “كلُّ” المفيد للاستغراق، ليدل التركيب الإضافيُّ (كلُّ+المضاف إليه) على اتصاف المبتدأ بالخبر مع تحقق الشمول والعموم، قائلاً:

فكلُّ سعادتي فطرةْ

وكلُّ محبَّتي فطرةْ

وكلُّ بلاغتي فطرةْ.

والشاعر مهتم بتعريف الطفل بمفردات البيئة من حوله ودعوته إلى الحفاظ عليها، وتعريفه بالأخلاق والفضائل ودعوته إلى التحلي بها.. فمن أشعاره في الحفاظ على البيئة قوله:

أحبُّ حدائق البستانْ

أحبُّ الشمس والأقمار والمنديل والفستانْ

أنا لا أقتل النملةْ

ولا أقسو على الحيوانْ

أنا طفلٌ معي زهرةْ

وأعشق واحة الخضرةْ

أنا في كلِّ ناحية أراني أزرع الشجرةْ

ومن أشعاره في الأخلاق المحمودة تجاه البيئة المحيطة بالطفل قوله:

أنا قلب بكلِّ مكانْ

يحبُّ توحُّد العالمْ ويحفظ حرمة الأديانْ

أحبُّ الله في نفسي وكلِّ عجائب القدرةْ

وأعرف قيمة الأوطانْ

مثل “محمد الدُّرَّةْ”

وأكره آلة التدمير والصاروخ والذرَّةْ

أنا من يبهر الدنيا برقَّتِه

يُشاهد في براءته

ويعشق فوق رغبته

ولا أحدٌ يخاصمني على فكرةْ

كما أني بحبي ثاقب النظرةْ

فلم ينس الشاعر تقديم القدوة للطفل من جنس الأطفال أنفسهم، كالطفل الفلسطيني محمد الدُّرَّةْ رمز التضحية والفداء الذي قُتل بدم بارد وهو في حضن أبيه الكسير وفي رحاب وطنه الأسير، فأبكى مشهد استشهاده العيون وأدمى القلوب.

والشاعر حين يحثُّ الطفل على التحلي بالقيم النبيلة، يعمد إلى التقديم والتأخير، أو مغايرة نسق التَّرتيب، فيقدم “العمل” على “القول”، قائلاً:

ويعشق فوق رغبتِهِ

ولي عملي ولي قولي

وكلُّ الناس من حولي

إنه مغاير العرف العام في الاستخدام اللغوي الذي يتقدم القول فيه على الفعل، لأن الشاعر يحثُّ الطفل على قيمة العمل وعدم التراخي، فقدَّم في الذكر ما هو بشأنه أعنى.

تشكيل حوار تعليمي

برَع الشاعر في إيجاد حوار تعليمي بين الأب والطفل في قصيدة “براءة”، وذلك بأن يطرح الطفل على أبيه الأسئلة الحقيقية المباشرة غالبًا أو المجازية العميقة أحيانًا، والأب يجيب بشكل واع تفكيرًا، ميسَّرٍ تعبيرًا، ليستوعب الطفل الجواب عما يجهل، والشاعر ينظم بأسلوب راق ليس فيه تفاوت بين السؤال والجواب، بالرغم من أن الجهة مُنْـفَـكَّة؛ فـ”السُّؤال، عالم الصغار= الطفل” و”الجواب، عالم الكبار= الأب”.

ولعل من الملاحَظ تأثُّر الشاعر بأسلوب “كليلة ودمنة”، الذي يقيم حوارًا على لسان الحيوان والطير، ويضفي مؤدى هذا الحوار أو مغزاه على عالم الإنسان؛ أبعادًا معظمها سياسية واجتماعية. وأرى أنّ الشاعر يمتلك القدرة على كتابة المسرح الشعري للطفل إن وجَّه موهبته إلى ذلك؛ لأنه يتمتع بموهبة بناء الحوار الشعريّ المتقن.

وما دام الحوار الشعري قد انعقد بين طفل سائل لأجل أن يتعلم، وأبٍ مجيب، فلم يَخْل الحوار من تلطُّف في مقام التربية، كقوله في مواضع متفرقة من القصيدة: “يا بُنَيَّ.. في الحديقة يا صغيري.. كل شيء يا صغيري.. صغيري كلُّنا نحلم.. قلبٌ مثل قلبكَ يا جميلْ.. رعاك الله يا ولدي.. تعالَ أيها الولد الحبيبْ”.

الأبعاد المتعددة للحوار الشعري للطفل

في هذا الديوان يتجلى الحوار الشعري بأبعاد دينية إنسانية، ونفسية اجتماعية في إطار فلسفي يسيرٍ، من خلال مشاهد متنوعة، مثل:

التعايش بين الحيوانات، سبيلاً للتعايش بين البشر ودرء الخلاف جانبًا، في قوله:

سوف نذهب للحديقة سوف تجد المستحيلْ

في الحديقة يا صغيري يلتقي أسدٌ وفيلْ

وتشبيه الطفل بالزرع، في نموه واستوائه ونضجه وتعدي خيره إلى مجتمعه، في قوله:

في الحديقة تلقى أطفالاً سيسقون النَّخيلْ

في الحديقة عالمٌ سحريٌّ

قلبٌ مثل قلبك يا جميلْ

وحبُّ الحياة ثمرة الانخراط في عالمي النبات والحيوان، في قوله:

في الحديقة كلُّ شيء فيه حبٌّ للحياةْ

يلعب الأطفال والغزلان في كل اتجاهْ

والتذكير بالخالق من خلال مشاهدات الخلق، في قوله:

صغيري كلُّنا نحلم وتلك حقيقة الأيامْ

أليس الله خالقنا وخالق هذه الأحلامْ؟!

وهذا الكون خلقُ الله، هل في خلقه إبهامْ؟!

ثمرة الحوار الشعري في التديُّن السمح بين البشر

خلاصة هذا الحوار على لسان الأب والمربي المعلِّم تضرب بسهم وافر في تناصِّ الشاعر مع القرآن الكريم، الذي أرسى مبدأ الأخوة الإنسانية الجامعة، في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقُـنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْـقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ(الحجرات:١٣).

فبعد هذا الحوار الشعري، يدلف الشاعر إلى دعوة الطفل إلى التديُّن الحقيقي، الذي مؤداه أن الناس جميعًا أممًا وشعوبًا وأعراقًا وقبائل من أصل واحد، وأن التسامح فيما بينهم أهم روابطهم الإنسانية، في قوله حكاية عن المعلِّم:

قد سمعْتُ من المعلِّم يا أبي شيئًا غريبْ

قال لي: إن التديُّن في القلوبْ

ليس في الدِّين التعصب والعيوبْ

هل صحيحٌ يا أبي أننا نحيا شعوبْ؟!

ولأن هذا القول في الدِّين منسوب إلى المعلِّم، فيثنّي الشاعر بقول آخر على لسان الأب؛ ليؤكدا معًا قيمة التسامح الإنساني، وليكون الحوار دلالة على أن منظومة القيم ببعديْها التربوي والتعليمي، يشكلها لدى الطفل كلٌّ من أبيه ومعلِّمه، في قوله:

تذكَّر أن خير الدِّين ما يجد البعيد قريبْ

تذكَّر أننا في الأرض مثل أصابع في اليد بالترتيبْ

تأكد أن نهر الحب ليس قليلْ

وعلِّم قلبك التوحيد والترتيلْ

تعالَ ندرس القرآن والتوراة والإنجيلْ

لأنكَ عاقلٌ ولبيبْ

تعالَ أيها الولد الحبيبْ

ويختتم الشاعر بالعبارة التنبيهية ذاتها التي استهل بها فكرته وهي: “تعالَ أيها الولد الحبيبْ”، فيما يُعَدّ ردًّا للأعجاز على الصدور، ولأن التديُّن السمح يُعَدّ أهم الأفكار التي ناقشها الشاعر، بل أهم القيم التي تَنادى بها.. فقد ذكره كمختـتَم لهذه القصيدة الحوارية، فيما يُعَدّ حسن خاتمة؛ ليكون الثمرة المرجوة من هذا التطواف الكبير في الكون من خلال الحوار الأخاذ بين الأب والطفل.

(*) كلية الآداب، جامعة بني سويف / مصر.