الاستشراق والعالم العربي نحو إعادة قراءة التاريخ

الاستشراق هو مصطلح يشير إلى علم الأجانب بحياة الشرق وعلومه وآدابه ولغاته وحضاراته ومدنياته، والمستشرق هو العالم الأجنبي إذا كان عالمًا بالعلوم والآداب والفنون واللغات والعادات الشرقية، وكان أول ظهور لمصطلح “مستشرق” في القرن الحادي عشر الهجري أو السابع الميلادي حيث أطلق على أحد أعضاء الكنيسة اليونانية لقب مستشرق، ويعرف المستشرق بأنه كل من تفرغ من أهل الغرب لدراسة الشرق ولتقصي آدابه وأخلاقه وعلومه وعاداته وفنونه وثقافاته.

وهناك خلاف على تاريخ بداية الاستشراق فهناك عدد من المتخصصين الذين يرون أن بداية الاستشراق ترجع إلى عصر الحضارة الإسلامية في الأندلس، وهناك من يرى أن الاستشراق ظهر مع الحملات الصليبية باتجاه الشرق في بداية القرن الثامن عشر الميلادي.

وقد ظهر الاستشراق في صورة جهود فردية نتيجة إبداعات الرحالة ومشاهدات الحجيج، وتقارير الباحثين والإرساليات والقناصل والخبراء، ولم يكن تأثيرها على مجرى التفكير الغربي كبيرًا، ولكن مع بداية التعبئة للحروب الصليبية في مجمع كليرمونت (1095)م في عهد البابا إربان الثاني أخذ الاستشراق شكل الحركة المنظمة والتيار الفكري، وتنوعت أنماط ومناهج الاستشراق فظهر الاستشراق الديني على يد “يوحنا الدمشقي” (680-750)م وهو عالم مسيحي كان مقرباً من يزيد بن معاوية، وبطرس المبجل (1092-1156)، وريموند لول (1235-1316)م. ومن المتفق عليه إلى حد كبير بين الباحثين الغربيين أن الاستشراق اللاهوتي الرسمي بدأ وجوده حين صدر قرار مجمع فيينا الكنسي (1312) بإنشاء عدد من كراسي الأستاذية في العربية والعبرية في جامعات باريس، وأكسفورد، وبولنيا، وأفينيون.

وفى القرون من (11 -14) الميلادية بدأت إنشاء مدارس الاستشراق وعقد الندوات والمؤتمرات وإنشاء جمعيات خاصة لهذا الغرض وإقامة المعاهد الاستشراقية التي تخصصت في دراسة أحوال الشرق.

ومع قدوم الحملة الفرنسية على مصر انتشر الاستشراق وتولى “سلفستر دي ساسي” مدير مدرسة اللغات الشرقية مهمة تدريب الشبان الفرنسيين الذين يراد إرسالهم إلى الشرق، واستقدم نابليون بونابرت أكثر من مائة وسبعة وستين عالمًا من مختلف التخصصات: مهندسين، وفلكيين، وكيميائيين، وأطباء، وفلاسفة في غزوه لمصر عام 1799م، وبالرغم من فشل الحملة الفرنسية على مصر سياسيًا إلا أنها نجحت فكريًا وأيديولوجياً وشكلت البداية لتأسيس علم الاستشراق الحديث. وقد أسهمت الكثير من الأحداث مثل حرب تحرير اليونان، وحرب القرم، والأزمة بين أوروبا ومحمد على في مصر، وافتتاح قناة السويس إلى تنامي ظاهرة الاستشراق في القرن التاسع عشر، والقرن العشرين، وأخذ الاستشراق شكلاً جديدًا في العصر الحالي.

مراحل تطور الاستشراق:

يمكن القول إن الاستشراق مر بثلاثة مراحل:

  • مرحلة التكوين: وهي مرحلة الانبهار بالحضارة العربية والإسلامية، وذلك منذ بداية الفتح الإسلامي في أوروبا، فتتأسس مكتب المترجمين سنة 1130م، وتمت ترجمة أمهات الكتب العربية إلى اللاتينية، وقام الراهب الإنجليزي “هرمان” بترجمة القرآن الكريم لأول مرة سنة 1143م.
  • مرحلة التقدم: وذلك مع بداية الحروب الصليبية، حيث لم تؤتِ تلك الحروب الثمار المرجوة منها، فبدأ التفكير في غزو البلاد العربية فكريًا لزحزحتها عن عقيدتها الراسخة.

 

– مرحلة الانطلاق: فقد شهد القرنان السادس عشر والسابع عشر الميلاديين ازدهارًا كبيرًا للاستشراق في النواحي العلمية والدراسية المتخصصة، ومع بداية القرن العشرين مع بداية الاستقلال في العالم العربي، بدأت حركة الاستشراق تغوص في أعماق الفكر العربي والإسلامي، وانتقل المستشرقون من الهجوم المباشر على الإسلام إلى الهجوم المقنع الخفي. وقد تطورت حركة الاستشراق اليوم واتخذت أشكالاً جديدة، فقد انتشرت مراكز الاستشراق في الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية، وصار الاعتماد عليها بشكل كبير في اتخاذ القرار، فالحرب على العراق مثلاً لعبت فيها مؤسسة “راند” الأمريكية التي تأسست في نهاية الأربعينيات من القرن الماضي دوراً كبيرًا في وضع خطة الحرب، كما أن مؤسسة “بروكينغز” التي تأسست عام 1916، ومؤسسة “أمريكان انتر برايز” تمثل مراكز لاستقطاب وتدريب المستشرقين الجدد وتزويدهم بالمهارات والمعلومات الضرورية للقيام بما يسند إليهم من مهام خارج بلادهم.

خصائص الاستشراق

تتلخص الخصائص العامة للاستشراق في:

– بداية كل الحركات الاستشراقية في أحضان حضارة الأندلس الإسلامية، والتقاء الغرب بالشرق في الحروب الصليبية.

– عاش الاستشراق قروناً في كنف الأيديولوجية الغربية، ولعب دورًا في بناء الأيديولوجيا الاستعمارية للغرب، ومهد لها سبل استعمار الشرق عسكرياً وسياسيً وفكريًا، وكان له اتجاهات ومجالات متنوعة ما بين الآداب واللغات والفلسفة والعلوم والتاريخ والفقه….إلخ.

– اهتم المستشرقون بإنشاء الجمعيات والمعاهد والأكاديميات المتخصصة وعقد المؤتمرات ونشر المجلات والدوريات المتخصصة في مجال الاستشراق، وانصب الاهتمام بالعالم الإسلامي بشكل واضح في منطقة الشرق الأوسط.

– الظاهرة الاستشراقية ظاهرة مستغلة باسم العلم بواسطة قوى دينية وسياسية واقتصادية وفكرية.

– الاستشراق ظاهرة فريدة من نوعها ليس لها مقابل في الحضارات الأخرى، فقد ولد الاستشراق في إطار الصراع الأكبر بين الشرق والغرب.

أهداف الاستشراق 

شملت أهداف الاستشراق كل من

الأهداف الاستعمارية: تعد أهم وأخطر أهداف المستشرق ينوركزت على تنبيه الدول الغربية إلى أهمية السيطرة على ثروات الشرق، وثقافته، وتوجيه شعوبه عبر طرق متنوعة من المذكرات والأفلام والكتب التي أنتجها المستشرقون كما كان الحال مع المستشرق الفرنسي (هانونتو) الذى عمل مستشارًا لوزارة الاستعمار الفرنسية، والمستشرق البريطاني “إدواراد هنري بالمر” الذي تعلم العربية واستفادت منه الحكومة البريطانية في التعرف على الطرق والمسالك الصحراوية واحتلال مصر 1882م، كما استعان اللورد اللنبي بمعلوماته في حملته الشهيرة من مصر إلى دمشق خلال الحرب العالمية الأولي (1914-1918)م. أما لورانس العرب فهو ضابط بريطاني تخفي تحت ستار عالم آثار بريطاني كلفته إدارة استخبارات الجيش البريطاني لضم القبائل العربية المتناثرة شرقي نهر الأردن وجنوب سوريا لقوات الأمير فيصل بن الحسين لمقاتلة القوات العثمانية 1918م، وقد نجح في ذلك، وكان أول شيء فعله لورانس عندما وصل دمشق مع الجيش البريطاني (1917م) أن زار قبر صلاح الدين الأيوبي، ونزع قلادة إعجاب كان قد وضعها على القبر الإمبراطور الألماني “وليم الثاني” في زيارة له للقبر، وأخذها معه إلى بريطانيا، ومازالت حتى اليوم في المتحف الحربي البريطاني، ومعها ملاحظة مكتوبة من لورانس تقول “لم يعد صلاح الدين بحاجة لها بعد الآن”.

الأهداف السياسية: رصد التاريخ قيام معظم المستشرقين بالتجسس على الشرق من أجل السيطرة على مقدراته الاقتصادية من خلال رصد كل النشاطات في المنطقة مهما كان قيمتها وإرسالها إلى دولهم ومراكز الأبحاث، وحتى أجهزة المخابرات، ويتضح ذلك من ارتباط مراكز الاستشراق ارتباطاً وثيقًا بمراكز القرار في الدول التي تدعم المستشرقين كالولايات المتحدة الأمريكية، فرنسا، وألمانيا… إلخ كما كان تطور الاستشراق الأكاديمي في القرن التاسع عشر مرتبطًا بتوسع القوى الأوروبية في الأراضي العربية.

الأهداف الدينية: ماتزال كثير من الأصوات في الغرب تنادي بالمقولات المعادية للآخر العربي بصورة لاعقلانية، وتبرز جانبًا مهمًا للنظرة الجامدة والمشوهة عن الآخر المختلف، وأسهمت في استرجاع الصورة النمطية والظالمة والتي كانت تطرح في العصور الماضية، والتي أسهم الاستشراق المغرض وغير المنصف في ترسيخ هذه الصورة السلبية عن الإسلام، وترويجها ونشرها.

الأهداف العلمية: فقد كان الغرب يعيش في ظلام حالك، ويعاني من تخلف حضاري كبير، ففتح عينه على تقدم المسلمين العلمي، وتفوقهم الحضاري، عندما فتح المسلمون الأندلس، وأقاموا فيها حضارة زاهرة، فانكب الغربيون على علوم الشرق الإسلامي ينهلون من معينها، ويجمعون المخطوطات الإسلامية في شتى الميادين ويترجمونها إلى اللغات الأوروبية. وأقبل بعض المستشرقين على دراسة الإسلام بدافع حب الاطلاع على حضارات الأمم وأديانها وثقافاتها ولغاتها، ولم يتعمدوا الدس والتحريف، فجاءت أبحاثهم أقرب إلى المنهج العلمي السليم، وكان لهم الفضل في تقديم خدمات كبيرة للدراسات العربية والإسلامية عبر تأليف قواميس وموسوعات ضخمة وتحقيق بعض المخطوطات المنسية من قبل العلماء والباحثين العرب ومن أشهرهم المستشرق الشهير كارل بروكلمان، وجورج غراف، وألفريد فون كريمر الذى تخصص في دراسة التاريخ الثقافي الإسلامي، وكان للمستشرق يوليوس فلهاوزين الفضل في دراسة التاريخ السياسي للإسلام، واشتهر رينهارت دوزي بكتابه الموسوعي عن تاريخ أسبانيا الإسلامية عام 1861م.

ويعد بوكهارت الرحالة والمستشرق السويسرى الشهير من أشهر المستشرقين الذين انبهروا بحضارة الشرق واعتنقوا الإسلام وكان له الفضل فى إعادة اكتشاف الآثار المنسية في البتراء ومعابد أبو سمبل بصعيد مصر. أما المستشرق البريطاني الشهير “هاري سينت بردجر فيلب” أو “عبد الله فيلبي” فقد رحل إلى الشرق في الحرب العالمية الأولي، ولكن لقاءه مع الملك عبد العزيز آل سعود – رحمه الله- فقد غير مجرى حياته حيث اعتنق الإسلام عام 1930م، وتحول إلى مدافع عن الإسلام.

وقد حورب العديد ممن مالوا إلى جانب الإنصاف من المستشرقين أدبيًا ومعنويًا في الغرب، كما حدث مع “توماس أرنولد” حين أنصف المسلمين في كتابه القيم “الدعوة إلى الإسلام”، وهوجم المستشرق الفرنسي “كاستريز” حين ألف كتاب “الإسلام”  في باريس عام 1896م، وكان فيه شيء من الإنصاف للإسلام وللرسول محمد عليه الصلاة والسلام حيث انتقده كل من “رينيه باسيه” و”كارادي فو”، وعلق عليه المستشرق الألماني “جوستاف” بفانموللر” في كتابه “موجز في أدب علوم الإسلام” الصادر عام 1923م بقوله “إن رأى كاستريز في محمد إيجابي أكثر مما ينبغي”.

الأهداف الفنية للاستشراق

لقد هاجر المئات من الرحالة والأدباء والرسامين باحثون عن متعة الشرق وسحره وطبيعته الأخاذ حيث كانت نتيجة تلك الرحلات عشرات من المجلدات والكتب واللوحات الفنية وكان القاسم المشترك بينها جميعًا هو تقديم صورة حية عن الشرق بكل تفاصيله، حيث شاعت ظاهرة الاستشراق في الفن والأدب، وهدفت إلى توثيق صورة الحياة في الشرق بكل تفاصيلها وأسرارها. وتكونت عام 1893م جمعية الفنانين المستشرقين الفرنسيين التي تزعمها ليونس بنيديت مدير المحفوظات في متحف اللوكسمبورغ والذي اهتم بدراسة العمارة والزخرفة الإسلامية، وكان أول نشاط لهذه الجمعية تنظيم أول معرض للفن الإسلامي في العام 1893م. ومن أشهر المستشرقين في الجانب الفني الفرنسي “جان ليون جيروم” و”جويا” و”ديفيد روبرتس” و”إتيان دينيه”.

الاستشراق في الميزان:

على الرغم من نشأة حركة الاستشراق في الأساس لأهداف استعمارية وتبشيرية، بهدف جمع المعلومات وإرسالها للدول الاستعمارية والغربية، والترويج لصورة نمطية مشوهة لحضارة الشرق عموماً إلا أن الثقافة العربية أفادت من الاستشراق فوائد عديدة منها نشر الثقافة العربية فى أوروبا، وترجمة كثير من كتب التراث العربي إلى اللغات الأخرى، وتصحيح فكرة الشعوب الأوروبية عن العرب والإسلام، ونشر كثير من كتب التراث نشرًا علمياً، وكتابة العديد من المؤلفات القيمة عن الحضارة العربية والإسلامية.

وتشتد الحاجة اليوم إلى النظر في الاستشراق كحركة عبر التاريخ، واستخلاص الدروس والعبر منها، فاليوم نحن في أشد الحاجة إلى القيام بدور فاعل في دراسة الغرب وإنشاء المراكز التي تدرس حضارة الغرب وعلومه وفنونه وآدابه، والإفادة منها، وإحياء حركة الترجمة، ونقلها من كونها جهود فردية ومتناثرة إلى عمل مؤسسي هادف له استراتيجيات وخطط واضحة ورؤى متكاملة.