المثقف العربي ومفهوم الالتزام

المثقف في مفهومه البسيط هو ذلك الشخص المتعلم الحذق (لسان العرب) الذي يفقه في كثير من الأمور كما يفقه في مختلف المجالات منها الثقافي والسياسي والاجتماعي والفكري والديني وغيره، وهو فوق ذلك شخص “ملتزم” اجتماعيًّا بقضايا أمته، والالتزام بمفهوم سارتر يعني كون المثقف فاعلا يؤثر ويتأثر ويفعل، يقول سارتر: “أن أكون يعني أن أفعل، ونحن دائما نختار ما نفعل”؛ فالفعل بمفهومه الفلسفي السارتري ميزة أساسية لهذا المثقف الملتزم، ولعل ذلك ما دعا أنطونيو غرامشي إلى اعتبار المثقف الحقيقي، وعلى عكس المثقف التقليدي، هو ذلك الذي يرتبط ارتباطا “عضويا” بطبقته الاجتماعية فيؤدي وظائف اقتصادية وسياسية واجتماعية، بل إن المثقف “الحقيقي” في تعريف جوليان بندا هو ذلك الذي يمثل “ضمير البشرية”، ومن ثمة ميزته الأساس عن باقي الناس وعم باقي المثقفين.

وتزخر الساحة الثقافية العربية بكثرة المثقفين بالمفهوم الضيق للكلمة، أي الذين لهم مستوى علمي لا بأس به، هم حملة إجازة أو شهادة في الدراسات العليا أو حتى الدكتوراه، وهم في الأعم الأغلب متخصصون في مجال محدد ودقيق في العلوم كما في الآداب، غير أن هذه الساحة الثقافية تفقد معنى المثقف العضوي بمفهوم غرامشي أو المثقف الملتزم بمفهوم سارتر، أو المثقف الحقيقي بمفهوم جوليان بندا، أي ذلك الشخص الفاعل والمتفاعل والذي يسعى إلى تغيير واقعه وليس فقط البكاء على وضعه.

والحق أن أغلب المثقفين عندنا، أو الذين نطلق عليهم مثقفين، هم أناس يجرون وراء الوظيفة العمومية ووراء مصالحهم الذاتية، وإذا ما حصلوا على هذه الوظيفة بحثوا بمختلف الطرق عن سبل الترقي في سلالم الوظيفة العمومية وتسلقوا في هذه السلالم مضحين بقيم ومبادئ من المفترض أن يخلصوا إليها، وقليل منهم من يحافظ على هذه المبادئ ويتخذ من عمله ثم من ثقافته سبيلا لإصلاح مجتمعه والمشاركة في تنمية وطنه والعمل على تبادل التأثر والتأثير في هذا الواقع وهذا المجتمع.

إن الحديث عن وضع هذا المثقف المفترض في واقعنا يدعو إلى النزول إلى الساحة وتسجيل الملاحظات لتعميمها بطريقة علم الاجتماع لنرى أسباب المشكل وحدوده وملابساته؛ تذهب إلى الجامعة فتجد أن جل الطلبة اليوم تخلصوا بشكل شبه نهائي من جبة طالب العلم الجامعي الذي يفترض أن يكون ناضجا فكريا وثقافيا وسياسيا وإيديولوجيا ولبسوا جبة التلميذ المتعلم الذي لا يهمه إلا الحصول على النقط والدرجات بمختلف الطرق سواء بالغش أو التملق والوصولية، أو ما إلى ذلك؛ أما العمل النقابي والسياسي فلا يهمه الخوض فيه لا سيما مع فرض الرقابة على الجامعة وإخلاص الأساتذة والإداريين إلى هذه التوجيهات العليا القامعة للطالب حيث يذهب ضحية الرفض والاحتجاج عدد من الطلبة الذين يتم طردهم أو على الأقل رفضهم في الانتماء إلى أسلاك الدراسات العليا حتى يخمد احتجاجهم ويكتفى شرهم.

وما يحز في النفس هو أن بعض الباحثين أيضا بل جلهم يخضع للشرط نفسه، فهو يناضل ويحتج وينتقد، لكن سرعان ما تخمد ناره وينطفئ نضاله فور حصوله على منصب وظيفي فيصبح أليفا صامتا لا يحرك ساكنا ولا يهمه وضع البقية من المناضلين، بل يتبرأ منهم، وقد يكتب بعضهم مقالات مشينة تندد بنضالهم ذلك. أما مسألة الالتزام الاجتماعي والأخلاقي فلا يد لهم فيها البتة، فقد لا تفرق أحيانا بين حامل دكتوراه وبين أمّيٍّ إذا دخلت معه في نقاش فكري أو سياسي أو علمي، وكأن تلك الشهادة العليا قد حصل عليها بالصدفة.

وفي ساحة الموظفين تتفاجأ في مختلف أسلاك الوظيفة العمومية بوضعية هذا المثقف المفترض الذي يرمي العلم والثقافة جانبا ويرمي مهمة الالتزام الثقافي والاجتماعي جانبا ويصبح همه هو الترقي والاغتناء، وإذا حضرت مجلسا تجده فارغا من أي محتوى، كما أن الرقابة الإدارية والعقوبات الزجرية التي نجدها اليوم تمس ضعاف الطبقة المتوسطة تكفي وحدها لإسكات صوت النقابات والتجمعات؛ بل حتى الموظفين المتحزبين غالبا ما يتنكرون للحزب إذا كان يتعارض مع طموحاتهم ولا يفيدهم في ترق طبقي أو صعود اجتماعي، بل إن أغلبهم ينتمي لحزب معين بالصدفة لا يفعل ولا يشارك ولا يؤثر.

فأين سنبحث إذن عن المثقف إذا عدمناه في صف الطلبة وصف الباحثين وصف الأساتذة والموظفين؟

إن هذا الوضع المشين للمثقف الصامت ينذر بالكارثة حقا، لا سيما في عصرنا الراهن، حيث نحن في حاجة ماسة إلى صوت المثقف وإلى فعل المثقف في عصر الرقمية الذي أصبح فيه الجميع يتكلم ويحلل ويحرم ويتكلم في كل الأمور بدون سلطان علم أو موجب حق، كما أن ما يعرفه العصر من تحولات خطيرة تمس القيم العربية وتمس الثقافة وتمس الديمقراطية نكون أحوج إلى صوت المثقف، وإلى تدخل المثقف وإلى مساهمته في بناء الوعي الجمعي وفي التنمية.

إن المثقف الملتزم، وبمنتهى البساطة، هو ذلك الشخص الذي ينزعج لظاهرة اجتماعية منحرفة ويتأثر لبكاء شيخ أو طفل ويبكي إذا مُس وطنه بسوء ويخجل إذا رأى أجنبيا مارا بحي غير نظيف من أحياء مدينته، بل إنه لا يكتفي بالبكاء والنحيب وإنما هو ناصح أمين للمسؤول على رعايته، ولمريضه إذا كان طبيبا أو تلميذه إذا كان مدرسا أو زبونه إذا كان تاجرا، ولا يكتفي بالنصيحة فيلجأ إلى الضغط على إدارته لإصلاح وضع زملائه الموظفين أو على السلطات إذا رأى مدينته بدون مستشفى أو قريته بدون مدرسة أو حيه بدون طريق كما يعمل جاهدا على تعليم غيره ومحاربة الأمية في قريته أو مدينته.

المثقف الملتزم لا يكتفي بالتفاعل مع مجتمعه هو بل يتعدى ذلك إلى التفاعل مع القضايا الدولية أيضا في السياسة كما في الثقافة والاجتماع، فهو يحارب التطرف ويشرح لمن هم أقل منه دراية وعلما خطورة هذا التطرف ومعناه ويشرح القضايا الكبرى بأسلوب مبسط يفهمه الجميع، كما يشرح أسس التنمية والتقدم وكيف وصلت الأمم الأخرى إلى تقدمها وكيف بقيت دول أخرى على الهامش، وذلك ما يحتاج دون شك إلى أن يحول هذا المثقف العربي أفكاره إلى مواقف، وأن يكون سلاحه هو القلم، من خلال الكتابة، لا الكلام، فمشكلتنا نحن العرب، أننا نتكلم كثيرا لكننا لا ننتج أفكارا حقيقية وواضحة عبر الكتابة حتى إن المفكر السعودي عبد الله القصيمي كتب في ذلك كتابا معبرا عن وضعنا المقلق عنونه ب” العرب ظاهرة صوتية”.

هذا هو المثقف الملتزم أو المثقف العضوي أو المثقف الحقيقي؛ فالالتزام ليس تشريفا وإنما هو واجب كل مثقف أمكنته الظروف من تبوء مكانة علمية معينة، فهو فاعل دائما له إيمان بواقعه وإيمان بوطنه وبأمته فهو في غير راحة أبدا حتى يشاهد هذا الوطن وهذه الأمة في المكانة التي تليق بها.

فما أحوجنا اليوم في عالمنا العربي إلى صوت المثقفين وإلى مواقف المثقفين لتحقيق التنمية والتقدم، وإلى مساهمة المثقفين في الإصلاح الاجتماعي وفي البناء العلمي والأخلاقي، وفي التعريف بقيمنا أمام باقي الأمم التي تجهل التراث العربي وتجهل القيم العربية، بل تسعى، جريا وراء العولة، إلى تخريب قيمنا وتغريب مجتمعنا؛ ذلك أن اليوم الذي سيقوم فيه المثقف العربي بدوره الأساس في الإصلاح وسينخرط فيه في مجتمعه انخراطا إيجابيا هو اليوم الذي ستتحقق فيه التنمية العربية.