تعتبر ثنائية العقل والنقل من الثنائيات التي رسخت في فكرنا العربي والإسلامي قديمًا وحديثًا، ولعل هذا راجع إلى الاختلافات والآراء الواردة حول هذه الثنائية، وثانيًّا لأهمية الكبرى لها داخل النسيج التشريعي الإسلامي و ضرورتها في خلق الوعي البشري، وضرورتها كقيمية كبرى من قيم الاستخلاف والعمران والتمكين في الأرض، لكن هذه الثنائية كان لها وقع خاص في المجال التداولي الإسلامي بين النزعة التكاملية التي ترى أن أساس العلاقة بين هذه الثنائية هو التكامل المعرفي وبين النزعة التحيزية التي مفادها التقابل والتضاد بينها، وما تولد عنها من تصنيف للعلوم، بين علوم عقلية و نقلية، كل هذا يمكن بسطه من خلال الإشكاليات والقضايا المعروضة للدراسة:
قضية التكامل المعرفي قضية فكرية منهجية، من حيث إنها ترتبط بالنشاط الفكري و الممارسة البحثية وطرق التعامل مع الأفكار، ولكن الغرض من معالجة قضية التكامل المعرفي ومنهج هذه المعالجة سوف يحددان الحقل المعرفي الذي يمكن أن تصنف فيه هذه القضية.
فالقضية التي نحن في صدد دراستها هي قضية العقل والنقل بغية إيجاد جذور الوصال والاتصال بينها، فمنهجية التكامل المعرفي هذه قائمة على الجمع بين العقل والنقل أو بين العلوم العقلية والعلوم النقلية كما جاء تقسيمها عند ابن خلدون: “اعلم أن العلوم التي يخوض فيها البشر ويتداولونها في الأمصار تحصيلا وتعليما هي على صنفين: طبيعي للإنسان يهتدي إليه بفكره، وصنف نقلي يأخذ عمن وضعه”. وهذه خاصية من خصائص تصنيف العلوم، فبالنظر والتبصر في حقيقة هذه التصنيفات تجدها تنقسم إلى علوم عقلية وعلوم نقلية. فالأول هي العلوم الحكمية الفلسفية، وهي التي يمكن أن يقف عليها الإنسان بطبيعة فكره، ويهتدي إليها بمداركه البشرية إلى موضوعاتها ومسائلها واتحاد براهينها ووجوب تعليمها حتى يقفه نظره وبحثه على الصواب من الخطأ من حيث هو إنسان ذو فكر” هذا بالنسبة للعلوم العقلية أما العلوم النقلية” والثاني هي العلوم النقلية الوضعية، وهي كلها مستندة إلى الخبر عن الواضع الشرعي، ولا مجال للعقل فيها إلا في إلحاق الفروع من مسائلها بالأصول، لأن الجزئيات الحادثة المتعاقبة لا تندرج تحت الفقل الكلي بمجرد وضعه، فتحتاج إلى الإلحاق بوجه قياسي”.
وهذا التصنيف أصبح من الثنائيات الشائعة المنتشرة في ساحة التداول الإسلامي أو بالأحرى من الثنائيات العريقة والعتيقة في فكرنا الإسلامي والعربي القديم والمعاصر حتى أصبحت تقرأ العلاقة بين هذه العلوم أنها علاقة تنافر وتفكك لا علاقة تظافر و تكامل” ثنائية العقل والنقل، وهي من المتقابلات التي ترسخت شيئًا فشيئًا في الوعي الإسلامي، وأصبحت من الأشياء التي نرددها على أنها مسلمات لا تقبل النقاش والمراجعة، و كان المعقول خليًّا من اللامعقول بالرغم من أنه قائم على مجموعة من المسلمات التي تفتقد إلى الدليل العقلي، وكانت علوم الشرع وما لحق بها من علوم نقلية لاحظ للعقل فيها.
حيث كان الإهتمام في هذه المرحلة أو المراحل التي جاءت بعدها بالعلوم النقلية على حساب العلوم الطبيعية أو العقلية مما ولد انفصالاً وتحجرًا في مناهج هذه العلوم والمعارف على حساب تكاملها وتداخلها المعرفي الذي من شأنه أن يؤدي إلى الازدهار الحضاري والانساني، وكل هذا التحيز جعل العقل الإسلامي عاجزًا عن أي بناء أو توليد للعلوم ومعارف تتجلى فيها النظرة التكاملية بين العقل والنقل اللهم إن إستثنيت بعض المحاولات التي حاول أصحابها ربط جذور الاتصال والوصال بين العلوم العقلية والعلوم النقلية.
وعلى هذا التقسيم لمنهجية الفكر الإسلامي إلى أصول أساسية تتعلق بنصوص الكتاب والسنة، وما يبنى عليها من قضايا القياس والإجماع، وإلى أصول فرعية وثانوية تتعلق بشؤون الاجتهاد والنظر في الحياة الاجتماعية ووقائعها، نجد أن العلوم والمعرفة منذ ذلك الوقت ثم بنائها وتقسيمها إلى علوم شرعية وعلوم غير شرعية.
وتبقى لمصطلح الشرعية وغير الشرعية دلالات معرفية في تراثنا العربي الإسلامي فالعلوم الشرعية هي العلوم التي مصدرها الشرع والعلوم الغير شرعية هي التي مصدرها العقل.
كل هذا يجعل كل علم من هذه العلوم يحظى بخاصية من الخاصيات تميزه عن العلم الأخر” الأولى: أن هذه العلوم وحدها تكتسب صفة العلمية و الموضوعية، الأمر الذي يجعلها تتطابق مع الشريعة الربانية، مع العلم أن هناك فرقا شاسعا بين العلوم المتولدة عنه.
أي أن هذه العلوم أصبحت تعامل على أساس أن هي العلوم الصحيحة وهي من يحق أن يصطلح عليها اسم العلم، ونحن نعلم أن هناك بون شاسع بين الوحي باعتبار مصدره الرباني، وبين اجتهادات الإنسان في قراءة هذا الوحي.
أما بالنسبة للنوع الثاني من العلوم فهي نفي دائرة الشرعية عن بقية العلوم التي يولدها العقل الإسلامي، وبالتالي: يتم النظر إليها برؤية احتقارية ازدرائية، وهو الأمر الذي أدى إلى انفصام هذه العلوم بدلاً من التكامل بينها، و بذلك أصبح العقل المسلم والفكر المسلم حبيس منهج وعلم جزئي وصفي غير قادر، في كثير من الحالات، على النماء وملاحقة الواقع و التغيرات في أوضاع النفوس و الكائنات و البيئات المختلفة وتفاعلاتها و حاجاتها وإمكاناتها ومتطلباتها في الزمان و المكان.
آفة أخرى تنضاف إلى ما تقدم وهي أنه لم ينظر في بناء هذه العلوم إلى مصادر المعرفة في تكاملها، بحيث تعتمد بشكل متواز نصا وعقلا وواقعا، فغالبا ما نجد هيمنة جانب على آخر، الأمر الذي يبرر تضخم نزعات نصية مغلقة على حساب العقل في التدبر والتفكر و الإجتهاد، على حساب الواقع ودوره في تكييف الأحكام. أو تضخم نزعات عقلية أو واقعية على حساب إرشاد النص وهدايته وتصويبه وتسديده، إذ هو المطلق وما عداه نسبي ومغلق.
هذا ما يبين أن غياب النزعة التكاملية بين العقل و النقل، أو بالأحرى النزعة التكاملية بين العلوم العقلية و العلوم النقلية وما شاب هذه الثنائية من تصنيف وانقسام تاريخي، كان له عواقب و خيمة على العقل المسلم و على العلوم و المعارف الإسلامية وحتى على المناهج التعليمية الإسلامية.
إشكالية التحيز بين العقل و النقل وآثارها على العقل المسلم ومناهج التربية والتعليم:
يبقى لهذه الإشكالية أثر كبير في الوضع الفكري والثقافي للأمة، وخاصة تأثير على التصنيف المناهج التربوية مما جعل بعض الطلاب يميزون علوما على حساب أخرى مما ولد الانفكاك بين هاته العلوم.
ساعد على ذلك أيضا تصنيف العلوم إلى عقلية ونقلية، وظاهرة، وعادية وتعبدية، وشريعة وعقيدة… والتمييز بين علوم دينية شريفة وعلوم دنيوية وضيعة، مما رغب الطلاب في الأولى اعتقادا منهم أن عليها –وحدها- أجرا وثوابا، وزهدهم في الثانية اعتقادا منهم أنه لا أجر ولا ثواب عليها.
حتى أصبحت المناهج مختلفة هناك مسارين متوازيين، لكل منهما فلسفته، ومناهجه وموضوعاته، وطرائقه، وأساليب تدرسيه، واستراتيجيات تقويمه، أما المسار الأول فيهتم بالتعليم الديني أو ما يسمى عند الغرب علوم اللاهوت…، وأما المسار الثاني فيأخذ بالتعليم المدني(الحياة)، وما له صلة بها من مجالات الإنسان و النبات و الحيوان والكون والظواهر والباطن.
وبالنظر إلى ما سبق نجد أنه أدى إلى انقسام الأنظمة التربوية إلى أنظمة إسلامية وأنظمة أخرى علمانية هادفة إلى ترسيخ قيم العقلانية بعيدًا عن البعد الديني المؤطر لها وفي وصف هذه الإشكالية نجد” إن أعظم مهمة تواجه (الأمة) في القرن الخامس عشر الهجري هي حل مشكلة التعليم، وليس هناك أمل في البعث الحقيقي للأمة ما لم يتم تجديد النظام التعليمي وإصلاح أخطائه، والحق أن ما نحتاج إليه إنما هو إعادة تشكيل النظام من جديد. هذا ما أدى إلى تقسيمه إلى نظامين إسلامي وعلماني يجب أن تزال ويقضى عليها إلى الأبد. يجب أن يدمج النظامان و يتكاملا في نظام واحد و أن يشبع بروح الإسلام ليصبح جزءا وظيفيا لا يتجزأ من برنامجه الفكر.
هذا ما يبين أثر الذي خلفه تصنيف العلوم تاريخيا إلى علوم تابعة للعقل وأخرى تابعة لنقل إلى توليد هذه الثنائية التاريخية في المجال التداولي الإسلامي، هذه الثنائية التي جعلت العقل والنقل في تقابل، مما ولد أزمة معرفية إبستمولوجية حادة كان لها أثر سلبي على العلوم النقلية بمختلف تخصصاتها ومجالاتها العلمية والمعرفية، نظرا لعدم قدرتها على الاستفادة من العلوم العقلية ومنجزاتها العلمية والمعرفية، حيث ظلت علوم الوحي حبيسة جدران المناهج القديمة التقليدية، وهذا ما تكرس من خلال النماذج التربوية التعليمية في عالمنا العربي، حيث قسمت الأنظمة التربوية إلى قسمين تعليم مدني وآخر ديني، حيث أصبح ضرورة ملحة اليوم إعادة جذور الوصال والثقة بين هاتين الثنائيتين لتحقيق نقلة معرفية وعلمية في مشاريعنا التربوية مما يعيد للأمة شيئا من هيبتها المفقودة.
من هنا تتبين ضرورة التكامل من أجل تحقيق الاستخلاف و العمران و إعادة الأمة إلى السيادة و الريادة، بعدما ضاعت بضياع النزعة التكاملية وحلول النزعة الانفصالية التحيزية، لكننا نريد أن نعتكف على الدراسة التكاملية التوحيدية القائمة على التوحيد، فالتوحيد في الرؤية الإسلامية ينبثق عنها مفهوم الاستخلاف، ولعل هذه الرؤية هي التي تربط بين التوحيد والوجود، وبين العقل و النقل، وبين الإنسان والكون في علاقة مركبة لا تناقض فيها و لا تعارض، بل تتكامل المفاهيم وتتضافر من أجل تحرير الإنسان من عبودية الطبيعة أو ألوهية الهوى المنفعة المادية الضيقة، ويجعل أصل العلاقات بين البشر مبنيا على التعارف، و التدافع الخلاق.
لأن قيمة الاستخلاف قيمة عليا في الاسلام فهي أساس قيام المصالح الإنسان في المعاش و المعاد” المقصد العام للشريعة الإسلامية هو عمارة الأرض، وحفظ نظام التعايش فيها، وصلاحها بصلاح المستخلفين فيها، وقيامهم بما كلفوا به من عدل واستقامة ومن صلاح في العقل، وفي العمل وإصلاح في الأرض واستنباط لخيراتها، وتدبير لمنافع الجميع.
فالاستخلاف في الأرض مقصد شرعي عام، يشتمل على بعدين: خلافة مادية بالتعمير في الأرض تعميرًا ماديًّا، وخلافة روحية بالترقية الروحية للإنسان فردًا ومجتمعا.
التكامل المعرفي في الوحي وأثره في بناء الوعي
الوحي أساس بناء الوعي البشري، بإرشاده الإنسان إلى طريق الهداية وإبعاده طريق الكفر و الظلال.
فالوحي نقلهم من الكفر والعمى، إلى الضياء والهدى، وبين فيه ما أحل منا بالتوسعة على خلقه وما حرم: لما هو أعلم به من حظهم في الكف عنه في الآخرة والاولى، وابتلى طاعتهم بأن تعبدهم بقول وعمل وامساك عن محارم، وأثابهم طاعته من الخلود في جنته، و النجاة من نقمته، وما عظمت به نعمته، وجل ثناؤه، وأعلمهم ما أوجب على أهل معصيته من خلاف ما أوجب لأهل طاعته ووعظهم بالأخبار عمن كان قبلهم، ممن كان أكثر أموالا وأولادا، وأطول أعمارا، وأحمد آثارا، فاستمتعوا بخلافهم في حياة جناهم، فأذاقهم عند نزول قضائه مناياهم دون آمالهم، ونزلت عقوبته عند انقضاء آجالهم، ليعتبروا في أنف الآوان، ويتفهموا بجلية التبيان، ويتنبهوا قبل رين الغفلة، ويعملوا قبل انقطاع المدة، حين لا يعتب مذنب، ولا تؤخذ فدية.
ليجعل من جملة رسالة الإسلام الأولين أمة مخرجة للناس، وسطا فيهم، وشهيدة بعده عليهم وقطبًا تستقطب أمم الأرض حول الهدى ودين الحق وما غادرهم صلى الله عليه وسلم إلا وهم على المحجة البيضاء والكلمة السواء.
تتبين ضرورة الوحي في بناء الوعي الإنساني فالوحي هو المرشد والدليل لإنسان في هذا الكون، فإذا تعامل هذا الإنسان مع الوحي بشكل صحيح، فهذا يعود بالفوز بالعاجل والآجل والفوز بالصلاح والفلاح في المعاش والمعاد، وإذا لم يتعامل مع هذا الوحي بطريقة السليمة الصحيحة في تطبيق أحكامه ومجرى شريعته عاد بالفوات النجاة ورجع بالخسران المبين في الحال والمآل.
ضرورة وأهمية التكامل المعرفي بين العقل والنقل داخل النسق التشريعي الإسلامي، مما يحقق البعد الإستخلافي الذي أناطه الله تعالى بالإنسان منذ أن خلق الكون، فالتكامل أساس تحقق القراءة الشمولية المستوعبة لقضايا الوحي والإنسان والكون، بعيدين كل البعد عن القراءات التحيزية القائمة على هدم العلاقة الترابطبية بين مصادر المعرفة الكونية والإنسانية، فلو تحقق التكامل المعرفي بين هذه الثنائية سوف تحقق الأمة شهودها الحضاري وتعود للريادة والسيادة.