في الوقت الذي اتسع فيه البحر بجواهره الثمينة، وتعمق بمناظره العجيبة التي عجزت عقلية البشر في إدراكها، وتنوع البر بأشجاره وآكامه، وتلونت جماليته من خلال آلاء ربانية لا حصر لها، ظلت الصحراء رغم رمالها المبعثرة والمتكدسة، وكثبانها المهيبة، تلهم مخايل الشعراء، وتذكي وقود عباراتهم، وتعزف فيهم ألحان الأمل والألم في حين واحد. والصحراء حقيقة جميلة وإن لفها الغموض والهيبة، هي ثرية بعطاءات شعرية بناءة وسعت خيالات المفكرين وأرباب البيان.. فمن عمق الصحراء خرجت الأشعار تتغنى والمعاني تتمنى، ومن بين مسالكها المتعرجة وأطلالها التي تبدو كقينات راقصات سمع الزمان همسات القلب الحي.. فمن رحمها ولدت أمهات الشعر والسحر الحلال.. فما سر الصحراء الذي أبهر الشعراء وأنبت البيان؟ ومن أي معدن خرج الكلام محبرًا؟ ومن أي جبل نحت البيان مزركشًا؟ إن الرحلة إلى أعماق الصحراء عبارة عن متعة جميلة، فيها مناورة ومغاورة، ومداورة وربما مخاطرة.. فيها جمال الوجود الذي لم يظهر للإنسان المتحضر، وفيها كمالية الأخلاقيات التي لا شائبة عليها، فيها حمية وحماسة، وحب وحرب.. وربما وسعت الصحراء آفاق الخيال، وبسطت له رؤى الفكر والأحلام.. حتى الشمس التي تشرق بهالتها المبهرة، وبأشعتها المنتشرة؛ تنسج حبكة شعر أنيق، وتشهد ميلاد شاعر فحل.. وحتى الظباء التي تتوارى من الأعين وتسرح بين النخيل تصدر إلى الشعراء أجمل ألحان القوافي وأحلى ألوان الصور. فكل حركة في هذا المحيط الهادئ، تساوي آلاف الأمواج المتلاطمة في البحار، ووراء كل حركة وسكتة، مفاجآت جميلة تغير بوصلة التاريخ. ولا يخفى السر الكامن وراء تسمية “موريتانيا” ببلد مليون الشعراء؛ فموريتانيا حاضرة الأدب العربي وعراب الشعر والنثر، ولم ينهكها الفقر وما أفناها الدهر، بل ظلت تردد آهاتها عبر كلمات تخرج من آلاف الحناجر، بصوت جميل وبمعنى عميق.. فكل رمال تحكي ألحانًا جديدة، وتنسي الآلام المنكدة الناجمة من الفقر والقحط.

كانت الصحراء منذ القرون الأولى مفجرة الإبداعات، وملحنة الإيقاعات، وظل العرب، يتعايشون مع الرياح الصحراوية التي هبت بصفير عنيف لتنتج فيهم خيالاً إثر خيال، فلم يتركوا الصبا والجنوب والشمال، إلا والقصيدة تطير معها أينما طارت وثارت.. فالتضاريس الوعرة التي توجد في الصحاري، أصبحت تنقش في حنايا الشعراء معان لا حصر لها.. ووظف الشعراء هيبتها وسكونها ووحشتها وصفير رياحها وغير ذلك، في تعبيرات جميلة وتصورات مكتملة الأركان.

ولم يزل الشاعر الذي استنشق هواء الصحراء يحمل في روحه شيئًا منه أينما حل وارتحل. واختلفت الصحراء بكل ما فيها من الروعة والوحدة في مناماته الجميلة، وأسفاره الطويلة، ولم يزل يسير عليها من دار إلى أخرى، ويضرب على أوتارها الخيام، ويعزف قيثارة شعره على تلك الأنغام المستلهمة من الذكريات الصحراوية، يسهر لياليه، يستدعي الأماكن البعيدة ويستحضرها في مخيلته، ويعيد رسمها في شعره بفرشات الحزن والحنين والألم، ويمزجها وفق رؤيته التي تبحث عن السراب تارة والواحة أخرى.

الصحراء والشعر

للعربي مكانة لا تنافس في قرض الشعر، ويعود إليه الفضل في رفع مكانة الشعراء وتوسيع نطاق الإبداع الخيالي؛ فالشعر عضو من أعضائه، وهو بوصلته وميقات قلبه. فقد كان الشعر دستوره ولسان قبائله، وحديثه في البيت والسوق ماضيًا وحاضرًا. وارتباط الشعر العربي بالصحراء كالحلقة المفرغة التي لا تدري أين طرفاها. وكما أن الصحراء أعطت للجزيرة العربية ثروة كبيرة من النفط والمعادن، فقد ألهمت الشعراء على مر القرون.

فمنذ أن تجول امرؤ القيس الملك الضليل في قحالة البيداء، مناجيًا عفاريت الليل، ومسامرًا أبراج الكون، ومخاطبًا سائر الوجود بلغته المتفردة التي لا يفك طلاسمها إلا المبدع النادر، ومنذ أن انطلق الشاعر الفحل يصوغ الاستعارات الجميلة من حقائق الصحراء المتوحشة، ومنذ أن شاطرنا طرفة بن عبد حكايات الصحراء بقوله:

لِخَولةَ أطلالٌ بِبُرْقةِ ثَهْمدِ

تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليدِ

وتساءل الشاعر الحكيم زهير بن أبي سلمى بقوله:

أَمِن أُمّ أَوفى دِمْنةٌ لم تَكَلَّمِ

بِحَـومانَةِ الدُرّاجِ فَالمُــتَثَلَّمِ

واستدمعنا لبيد بن ربيعة بلحنه الشجي:

عفتِ الديارُ محلُّها فمُـقامُــها

بــمــنىً تـأبَّــدَ غَــولُها فَــرِجــامُـها

فمُدافعُ الريَّان عرِّيَ رَسْمُها

خلقًا كما ضَمِن الوُحِيَّ سِلامُها

وهمس في مسامعنا شاعر الطبيعة والصحراء، ذو الرمة، بأسرار تخبأت في جو الصحراء، وتهرب رائد الشعراء أبو الطيب المتنبي من سيف الدولة وهو يقول:

أمَّــا الأحــبَّــةُ فــالبَــيْــداءُ دُونَــهُمُ

فليت دُونك بِيدًا دُونها بِيدُ

أصبحت عيوننا ترحل إلى عمق الصحراء، وتتطلع لاكتشاف ما وراء الأسرار الصحراوية التي تكمن في كل حبة رمل من رمالها الصفراء، وتبحث غرائزنا عن كيمياء الإبداع المودعة في أجواء الرمال المستعرة.

ويبدو للقارئ المتأني عبر المعلقات، كمية كبيرة من الألفاظ والاستعارات التي تعبر عن الصحراء وفضائها الواسع.. فكل شاعر جاهلي يحمل في قلبه شتى الإحساسات عن البيئة التي عاشها، ويعرب عن انفعالاته الجياشة من لوعة البين وفراق الأصحاب والحنين ورحلة الأحباب، وبالتالي يستوقف كل من حوله لسماع آهاته المتهدجة المتمثلة في الأبيات الدامعة التي صاغها من صميم الفضاء. فجاءت كلمة الصحراء من خلال ألفاظ مترادفة كثيرة منها البيداء، والمفازة، والسبسب، والبسبس، والفلاة، والتيه، والمهمة، والفضاء، والفيفاء، والقفر، والتيهاء، والبرية، والتنوفة إلى غيرها من الكلمات الغزيرة التي تدلك على عمق الصحراء العربية التي يوهب منها نسيم الشعر الخالص الذي لا تشوبه شوائب التحضر والتمدن. فكلما كان الشاعر قريبًا من الصحراء كان أقرب إلى الشعر بالذات؛ حيث تشكل الصحراء في ذاته عالمًا من الخيالات التي لا يكملها إلا الإبداع العميق والإيحاء الراسخ.

ولا يخفى دور الشعراء الصعاليك الذين انتشوا في رحيق الصحراء، وعاشوا قسوتها وجورها، وصنعوا منها حياتهم ولقمة عيشهم، وامتزجوا في هواء الصحراء القاسي بحثًا عن الحياة والإبداع الذي يحررهم من سطوة الحياة المؤلمة، فأبدعوا رغم مضاضة الفقر وشظف العيش، مبدعون انفلتوا من قوانين القبائل ورسموا الطريق والدستور لأنفسهم، وقرضوا الأشعار ورجزوها ومزجوها بروح الصحراء، فيها الكرم والصفاء والتمرد والتوحش والقسوة والإنكار والرفض، بل ستسمع منها صيحات الفقر وويلات الحرمان والجوع.

ويحتل الشعر الحساني(1) أبرز مكانة في الإبداع الصحراوي، فقصائد تخرج من أعماق الصحراء. ويتكون الشعر الحساني من عدة بحور تصل إلى خمسة وعشرين بحرًا بما فيها بوعمران، إسغير، ولبتيت الناقص، ولبتيت التام.. وله مكانة رائدة في الخيم العربية وجلسات الشاي التي تدلل وجدانات العرب، وتستدعيهم  إلى الأيام الماضية الجميلة. سكنت الحسانيات وجدان المجتمع الصحراوي، وعبروا عن مشاعرهم المختنقة عبر هذه الألحان الشعبية، فخرجت الألفاظ حية من بين مطاوي الرمال الذهبية، عربية الهوى، حسانية الروح، لتمثل أمة تتعشق الصحراء وتتناسخ في طيها الواسع.

وظلت الصحراء والشعراء كشبه الكليتين من الطحال، وبقيت الرمال الصفراء الملتهبة أمّ القوافي والألحان وموسيقى الطبيعة القاحلة، وتشكلت من تلك الجداول والجلامد سمفونيا الحياة والفناء في وقت واحد.

 

(*) كاتب وباحث من الهند.

الهوامش

  • هو كلام منثور يختاره الشاعر ليجعل منه مادته الشعرية.