في عصر العلم يتهاوى الإلحاد

في عام 1966 صدر عدد من مجلة تايم “Time” الأمريكية يحمل غلافه عنوان: هل مات الإله؟ “IS GOD DEAD” وعكس هذا العنوان ـ آنذاك ـ تقبل ناس لفرضية مفادها: “أنه لم يعد ثمة ضرورة ولا حاجة مُلحة لوجود إله يفسر وجود الكون في ضوء تقدم العلم ومكتشفاته التي قدمت تفسيرًا لكل شي”. وفي نفس العام الذي صدر فيه عنوان غلاف التايم.. أكد عالم الفلك الأمريكي الأكثر شهرة في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي الدكتور كارل ساجان “Carl Sagan” 1934-1996، على أمور هامة أنه: “يؤمن بأن الكون يضم حياة أو أكثر خارج الأرض… وذلك استنادًا لحجم الكون الهائل الذي يضم أعدادًا لا تحصى من المجرات والنجوم والكواكب، وهناك احتمال كبير لوجود الشروط الملائمة للحياة خارج كوكب الأرض، ومن أهمها شرطان الأول: وجود نجم مناسب، والثاني: وجود كوكب على بعد مناسب من ذلك النجم”.

وكان “ساجان” قد درس الكواكب، وبحث نظريات الذكاء ووجود مخلوقات ذكية خارج كوكب الأرض، فمن بين “أكتليون” -واحد متبوع بأربعة وعشرين صفرًا- عن كوكب على الأرض، من المفترض أن يكون هناك “سبتليون” -واحد متبوع بواحد وعشرين صفرًا- كوكبًا صالحًا للحياة على سطحه. ومع هذه الفرص الهائلة تفاءل العلماء بسهولة العثور على “كائنات ذكية خارج الأرض” (تُعرف اختصاراً (S.E.T.I.، وهو مشروع طموح انطلق في ستينيات القرن العشرين، واستعان بالشبكة الضخمة من التليسكوبات الراديوية القوية مما بث مزيدًا من الثقة في اكتشاف شيء ما قريبًا. وواصل المختصون البحث لمحاولة استقبال “إشارات تنم عن مبتغاهم”. لكن بمرور السنين، كان “الصمت الكوني” مخيبًا آمالهم. وحتى عام 2014 وجد الباحثون: “لا شيء البتة، ولا حياة علي الإطلاق”، وبتعبير رياضي: “صفر متبوع بعدد لا نهائي من الأصفار”.

ما الذي حدث؟

يؤكد العلماء أنه كلما ازدادت معرفتنا بالكون أصبح من الواضح أن أمر وجود حياة بسيطة فضلاً عن حياة ذكية يحتاج عوامل ضرورية أكثر بكثير مما افترضه سابقاً “كارل ساجان”. فالشرطان اللذان وضعهما لإمكانية نشوء حياة قد ازدادت من اثنين إلى عشرين إلى خمسين. مما يعني أن عدد الكواكب المحتملة القابلة لنشوء حياة على سطحها قد تقلص على نحو كبير ليصير عدة ألاف من الكواكب فقط بدلا من عدد واحد متبوع بواحد وعشرين صفراً، ومع توالي الدراسات العلمية والبحوث الفلكية استمر العدد بالهبوط السريع. واعترف المناصرون لبرنامج البحث عن حياة ذكية خارج الأرض بالمشكلة. فكتب “بيتر شينكل” عام 2006 في مجلة “سكيبتبكال انكوايرر” ـ وهي مجلة مؤيدة للإلحاد بقوة: في ضوء المعلومات والاكتشافات الجديدة علينا الاعتراف بهدوء أن التقديرات السابقة لم يعد بالإمكان التمسك بها… فاليوم هناك أكثر من مائتي معيار ضروري لتنشأ الحياة وتستمر على سطح كوكب ما. وكل معيار منها يجب أن يكون دقيقًا للغاية، ومُقدرًا تقديرا بالغًا وإلا انهارت المنظومة كلها. فعلي سبيل المثال.. بدون كوكب قريب وذو جاذبية كبيرة المشتري ليحمينا من الكويكبات السيارة ويسحبها بعيدًا، كان كوكب الأرض هدفًا لهذه الأجرام السماوية ولاختفت الحياة من على سطحه. كما أثبت البحث الحديث أن قمرنا ـ في بعض مواضعه بالنسبة للشمس ـ يحوِّل اتجاه الرياح الشمسية، وسيل الجسيمات الأولية التي تنبثق منها وتتأثر بها الأرض. كما أن المغناطيسية الأرضية وتأيُّن فضائها يتبدلان بحسب أطوار القمر. ويرى الفيزيائي الإسترالي E. K. Bigg أن الفعالية الجيومغناطيسية تنخفض عندما تصطف الكواكب على خط مستقيم بين الشمس والأرض. فكوكب الزهرة يشكل حاجزًا في وجه الرياح الشمسية.  لذا فدور الكواكب الأخرى ليس هامشيًّا بالنسبة للأرض، يقول د.”بيكاردي” من جامعة “فلورنسا”: “إن مجمل النتائج كافٍ ليسمح لنا بنقل فرضياتنا عن تأثير الكواكب على الأرض إلى مجال الحقائق المثبتة والمقاسة علمياً”.

تقدير الحياة على الأرض لا تقارن بتقدير الكون

يؤكد العلم الحديث أن الضبط الدقيق لمتطلبات وجود حياة على كوكب ما لا يقارن مطلقًا بالتقدير الدقيق الضروري لوجود الكون برمته. فعلي سبيل المثال.. تبين لعلماء الفيزياء الفلكية أن المقادير الدقيقة للقوي الكونية الأربع الأساسية: قوة الجاذبية، والقوة الكهرومغناطيسية، والقوة النووية القوية، والقوة النووية الضعيفة تحددت بعد أقل من جزء من مليون من الثانية عقب حدوث الانفجار العظيم”The Big Bang”. ولو كان قد حدث تغيرًا طفيفًا جدًا فيها لما وجد الكون كما نعرفه اليوم. ومن المعلوم أن نظرية “الانفجار العظيم” هي السائدة، اليوم، حول نشأة الكون، وتعتمد فكرة أن: “الكون كان جزءًا واحدًا عند نشأته، وفي حالة حارة شديدة الكثافة فتمدد. وبعد التمدد الأول، بَرَدَ بما يكفي لتكوين جسيمات دون ذرية كالبروتونات والنيترونات والإلكترونات. ورغم تكوّن نويّات ذرية بسيطة خلال الثلاث دقائق التالية للانفجار العظيم، إلا أن الأمر احتاج آلاف السنين قبل تكوّن ذرات متعادلة كهربيًا. فمعظم الذرات التي نتجت عن “الانفجار العظيم” كانت من الهيدروجين والهيليوم مع القليل من الليثيوم، ثم التئمت سحب عملاقة من تلك العناصر الأولية بالجاذبية لتُكوّن النجوم والمجرات، وتشكّلت عناصر أثقل من خلال تفاعلات الانصهار النجمي أو أثناء تخليق العناصر في المستعرات العظمى. فلو أن النسبة بين القوة النووية القوية وبين القوة الكهرومغناطيسية تغيرت بجزء صغير جدًا من أصغر الكسور المهملة لما تشكل أي نجم مطلقًا. وقد أثبت الروسيان: ماكسيموف “Maksimov” وشوفالوف “Chouvalov” أن الاضطرابات في الجاذبية الكوكبية تُحدِث على الشمس نوعًا من “المدّ والجزر” الذي يؤثر بدوره على النشاط الشمسي. كما أجرى الفرنسي تريلس “Trellis” حسابات تتعلق بهذا الأمر، وقدم للأكاديمية العلمية في 1966 ثلاثة تقارير تثبت أن مساحة البقع الشمسية تكبر مع المدّ الذي يحدث بتأثير الكواكب عما هي عليه في حالة الجزر. وهو يعتبر أن التأثيرات الكوكبية تؤثر، على ضآلتها، على كوكبنا.

ولعقود من السنين.. ظن العلماء أن قوى الكون الأربع تلك هي قوى “متمايزة متباينة عن بعضها البعض”، ولا توجد “نظرية شاملة” تستطيع تفسيرهم. بيد أن “الدافعية للتوحيد” وقفت دومًا خلف سعي حثيث للعلم الحديث ليثبت أنه يمكن “توحيدها” وإرجاعها إلى ظاهرة واحدة، ومن ثم يفسرها “قانون/ سُنة” واحدة تجمعها جميعًا. وبدأ هذا “التوحيد” من “اسحق نيوتن” (1642-1727) عبر قوانينه عن الحركة والقوة والكتلة. فقام “بتوحيد الجاذبية الأرضية، والجاذبية بين الأجرام السماوية”، وصاغ “قانون الجاذبية العام”. وباتت لقوانينه تطبيقات واسعة في عالم الفلك والفضاء والصواريخ والطائرات والمدفعية الخ. ثم تابع “جيمس ماكسويل” (1831ـ1879) عملية “التوحيد الشامل”، فاستوعب أعمال من سبقوه أمثال: “كولمب” و”أمبير” و”فاراداي”، “فوحد” بين القوى الكهربائية والمغناطيسية اللذين كانا منفصلين تمامًا في القرن الثامن عشر في ظاهرة واحدة هي “الحقل والمجال الكهرومغناطيسي”، وصاغ معادلات رياضية شهيرة، بسيطة وأنيقة. واكتشف “ماكسويل” شيئين هامين: إمكانية وجود أمواج كهرطيسية، وأن الأمواج الضوئية هي في الحقيقة نوع من الأمواج الكهرطيسية، وتم فعلاً اكتشاف هذه الأمواج من قبل “هاينريخ هيرتز”(1857-1894) بعد سنوات من تنبؤات “ماكسويل”.

ثم جرى تعميم وتعميق جهود “ماكسويل” في “نظرية ميكانيكا الكم Quantum Mechanics، وأثبت “ألبرت أينشتاين” (1879-1955) أن المجالين الكهربائي والمغناطيسي هما في الواقع من ” طبيعة واحدة”. وأن وجود أحدهما أو عدمه يعود إلى حركة إطار الراصد الذي يجري التجربة. وقام “أينشتين” طيلة حياته بالبحث عن “نظرية موحدة” نستطيع عن طريقها اشتقاق (استنتاج) المغناطيسية الكهربية وظواهر الجاذبية، والتفاعل الثقالي من مجموعة واحدة من المعادلات. وفي سبعينيات القرن الماضي نجح الفيزيائي الباكستاني “عبد السلام”، و”اينبرغ”، و”غلاشاو” في “توحيد” التفاعلين الكهرومغناطيسي، والتفاعل النووي الضعيف، في نظرية واحدة أطلق عليها “كهروضعيفة”. مما زاد من حلم العلماء في إمكانية جمع التفاعلات النووية القوية إلى الشكلين السابقين اللذين تم توحيدهما، ومن ثم ضم جميع التفاعلات والقوى الكونية المعروفة إلى تلك “السُنة”. ولإيجاد “نظرية التوحيد الكبير” تلك.. تم اقتراح “نظرية الوتر الفائق”، أو “النظرية الفائقة M-Theory “، التي يأمل أنصارها أن تكون النظرية التي “تشرح كل شيء”، مما يؤكد أن العالم المادي يشكل ظاهرة حقلاً تفاعليًّا واحدًا، ووحدة متكاملة منضبطة تخضع لمنهاج واحد، وتحكمه سنن شاملة متكاملة.

عود على بدء

إن الاحتمالات التي تمنع الحياة على كواكب أخرى مذهلة، وبالرغم من ذلك ها نحن الآن ليس فقط موجودين بل نتحدث عن الوجود، فما السر الذي يفسر وجودنا؟ هل تحققت كل هذه المعايير الضرورية الكثيرة والدقيقة مصادفة؟ وعند أي مدى يجب الاعتراف بأن العلم نفسه يثبت أننا لا يمكن أن نكون نتاج “قوي عشوائية”؟. أليس افتراض أن “عليما” خلق هذه الظروف المثالية المقدرة تقديرًا دقيقًا يتطلب إيمانًا أقل بكثير من تصديق أن كوكب الأرض تغلب “بالصدفة” على كل هذه الاحتمالات المستحيلة؟”. لقد قام مختصون بضرب أي من هذه العوامل الضرورية في كافة العوامل الأخرى اللازمة لقيام حياة على كوكب ما فوجدوا أن الاحتمالات هائلة. بحيث تصبح مقولة أنها “وجدت بالصدفة” تخالف العلم والعقل معًا. وسيكون الأمر كمن يرمي قطعة نقود ويحصل على نفس وجه العملة عشرة  “كوانتيليونات” (واحد يتبعه تسعة عشر صفراً) مرة متتالية، فهل هذا ممكناً ومتصوراً؟. لقد صرح “فريد هويل” (1915-2001) عالم الفضاء والرياضيات البريطاني الذي ساهمت أعماله في فهم نظرية “الانفجار العظيم” أن “إلحاده قد تعرض لهزة عنيفة بسبب هذه الحقائق العلمية المكتشفة”. أما ” بول ديفيز” أحد أعلام الفيزياء النظرية ـ فقال: “إن مظاهر التصميم في الكون مذهلة وكاسحة”. واعترف “كريستوفر هيتشنر” أحد أشد المدافعين عن الإلحاد عدائية: اعترف، بلا أدني شك، أن دليل التقدير الدقيق والضبط المُحكم للكون هو من أقوى أدلة الجانب الآخر، “أي المؤمنون بوجود الله”. وأشار بروفيسور الرياضيات في جامعة أكسفورد د. “جون لينيكس”(1945-):”كلما تعرفنا على الكون كلما تعززت نظرية وجود الخالق واكتسبت موثوقية كأفضل تفسير لوجودنا ومن المعروف عن د.”لينيكس” أنه مناظر مؤيد للمسيحية، ومحاور في قضية “العلاقة بين العلم والإيمان”.

الإلحاد يتهاوى

كان ممن سار في رحلة “العودة إلى الإيمان” عالم النفس التجريبي الكبير “هنري لنك” في ثلاثينيات القرن الفائت والذي آمن: بعجز العقل ومحدوديته عن إدراك كنه كثير من الأمور… فـعبادة العقل والاحتقار الفكري للديانات قد جعلا من الإنسان فريسة سهلة لنظريات مدمرة، ومذاهب عدمية وعبثية محيرة، لكن بقدر ما نكتسب من علوم ومعارف حقيقية نلمس مدى عجزنا وجهلنا بالكثير من الظواهر من حولنا. وسواء من الوجهة النفسية أو من أي وجهه يستسيغها العقل يبدو أن الإنسان جُبل على الإيمان بعقيدة، والتصرف وفقها، لذا فالإلحاد مرض عقلي، والإيمان أصح وأفضل، فالإنسان محتاج إلى الإيمان يشق به طريقه في ظلمات الحياة، وبحاجة لملاذ يلوذ به، فبدونهما تستحوذ عليه نوبات من الضعف والشك والقلق تمزق كيانه، فهو لا يقوم وحده.. إنه لا مناص من العودة إلى إيماننا متجردين من شوائب الشك، طارحين شوارد القلق، بعيدين عن شطحات الجموح، كي نستعيد راحتنا واطمئناننا، وإذا ما اتحد الدين والعقل بات الإنسان متحدًا غير مجزأ، وقويًّا غير ضعيف، وثابتًا غير مزعزع أمام التيارات غير السوية.

لا شك أن أعظم معجزة على مر العصور هي وجود الكون نفسه فهي معجزة تفوق كل المعجزات، وهي تشير حتمًا إلى وجود الله الحي، القيوم، الخالق، البارئ، المصور، الحكيم، العليم، القادر، المقتدر سبحانه تعالي. وفي عصر العلم اتضح أن دعاوى “موت الإله” غير ذات منطق علمي ولا سند عقلي، وأن ما طرحه عنوان غلاف مجلة “تايم” عام 1966 محض هراء. فأقوي الأدلة على وجود الله، وهيمنته وقيوميته على كونه، يأتي من العلم نفسه بخلاف ما كان يظنه هؤلاء الملحدون ومن سار على دربهم، وكثير منهم بعدما أشرقت شمس العلم الحقيقية ـ عاد إلى الإيمان وما بدلوا تبديلاً.