خيالات الماضي حقائق الحاضر

بعض الأقاويل تُرجع جذور قصص الخيال العلمي إلى القرن الثاني للميلاد، مثل الكاتب “لوقيان السميساطي” في مؤلفه “قصص حقيقية”، كما أن الكثير يَعتبر حكايات “ألف ليلة وليلة”، أو حكاية “قاطع الخيزران” اليابانية العائدة إلى القرن العاشر للميلاد، أو مدينة الفارابي الفاضلة.. بدايات لهذا النوع من الأدب. لكن أدب الخيال العلمي -في حقيقة الأمر- يختلف عن ذلك تمامًا؛ فهو بالرغم من الحبكة الخيالية والأسطورية، يظل متسقًا مع النظريات العلمية وقوانين الفيزياء، ويحوي كثيرًا من المنطق والفلسفة والمبادئ التقنية والتكنولوجية، قلما يتم الاستعانة بقوى سحرية أو خوارق غير طبيعية، ولعل هذا أهم ما يجعله متميزًا عن الفانتازيا.
ربما تعود بدايات الخيال العلمي المقارب للواقع، إلى الروائي الفرنسي “جول غابرييل فيرن” عام 1865م عندما كتب رواياته المتتالية التي كانت أولاها “من الأرض إلى القمر”؛ تلك الرواية التي استخدم فيها مدفعًا هائل الطول يُطلق منه قذيفة من الأرض لتسقط على سطح القمر ويصل ثلاثة رواد إلى القمر، تمامًا كما حصل بعد ذلك بقرن من الزمان تقريبًا، حين أصبح الرائد “نيل أرمسترونغ” أول إنسان يطأ سطح القمر وإن اختلفت طريقة وصوله نسبيًّا عما ورد بالرواية. ففي نفس الرواية يصف “فيرن” القمر وصفًا دقيقًا، كما يؤكد على أن القمر خالٍ تمامًا من الهواء، وأن الجاذبية منعدمة في الفضاء؛ وفي عام 1954م كتب تحفته الروائية “عشرون ألف فرسخٍ تحت الماء”، وفيها تنبأ بالغواصة “نيوتيلوس”، حيث وصفها كمركبة ضخمة تحت الماء ومعقدة التركيب، وقد اقتصرت الفكرة العامة من ذلك الوقت عن الغواصة بأنها كرة مفرغة يتم إدلاؤها في الماء بحبل، ثم تتابعت رواياته مثل “رحلة إلى مركز الأرض”، و”حول العالم في ثمانين يومًا” وغيرها.. وخلال رواياته تحدّث “فيرن” عن الكهرباء والغواصات والاختراعات الحديثة قبل أن تدخل حيز الوجود بعشرات السنين، وتوفي “فيرن” في أول القرن الذي تحققت فيه كل تنبؤاته.
أما الروائي البريطاني “هربرت جورج ويلز” الذي كان معاصرًا لـ”فيرن”، فتُقدِّمه كتب التاريخ كأحد مؤسسي أدب الخيال العلمي أيضًا، من أهم ميزاته أن جزءًا كبيرًا من كتاباته قدمت تنبؤات لما سيحدث في المستقبل؛ حيث تنبأ -في روايته “أول رجال على سطح القمر”- بأساليب ريادة الفضاء، وفي عام 1889م جاءت روايته “حرب العوالم”، حيث تمكن الغزاة من استخدام مدافع ليزرية ليدمروا المدن الأرضية. وبالرغم من أن فرضيات “نيوتن” و”ماكسويل” وقفت عائقًا وراء تصديق ذلك، إلا أن مجيء “ماكس بلانك” ومن بعده “أينشتاين” أسهم في تحقق ما تخيله “ويلز”. كما نشر أيضًا كتابات مسلسلة في إحدى المجلات تحت عنوان “تجربة في التنبؤ” محاولاً التنبؤ بوضع العالم عام 2000 وما بعده، ونجح بالفعل في التنبؤ بتطور السيارات والقطارات، وانحلال القيود الاجتماعية على العلاقات الجنسية، وفشلِ ألمانيا عسكريًّا ونشوء الاتحاد الأوروبي. وفي مؤلفه “العالم يتحرر” تنبأ بقنبلة يمكنها محو مدينة كاملة، ورغم أن المبادئ العلمية التي ذكرها (قنبلة مبنية من الراديوم) لم تكن صحيحة، إلا أن بعض العلماء الذين عكفوا في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين على تطوير القنبلة الذرية، قالوا إنهم استمدوا الفكرة من كتاب “ويلز”.
كثيرة هي الأمثلة التي وردت في أدبيات الخيال العلمي كأشياء ومخترعات خيالية، ربما أوردها المؤلفون كتنبؤات مستحيلة الحدوث، أو على سبيل الجذب ولفت الانتباه والإثارة للقراء، لكنها مع الوقت تحققت وصارت أشياء ملموسة على سطح الأرض.
“مارك توين” سبق وأن وصف الإنترنت في قصته “From The London Times of 1904” التي كتبها عام 1898، وتحدث عن جهاز هاتفي سمّاه “تيليكتروسكوب” يَصل الكون كله ببعضه. أما الروائي “هوجو جيرنزباك” فقد حملت رواياته كمًّا كبيرًا من المخترعات التكنولوجية التي صرنا نستخدمها اليوم؛ منها التليفزيون بالريموت كنترول، ومسجلات شرائط الكاسيت، والرادار الذي وصفه تفصيليًّا. أما العام 1888 فقد شهد رواية “النظر إلى الماضي” (Looking Backwards) التي تحدث فيها الروائي “إدوارد بيلامي” عن كروت الائتمان التي يتم استعمالها اليوم، إذ تحكي الرواية عن شخص ينام عام 1888 ليستيقظ عام 2000، ليجد الحكومة الأمريكية تمنح كل مواطن كارت ائتمان يمارس به شراء السلع، ويحصل من خلاله على نصيبه من الناتج القومي للبلاد.
لا يمكن إنكار أن روايات وأدبيات الخيال العلمي تزخر بتوقعات ونبوءات عديدة، سواء كانت علمية أو سياسية أو غيرها.. فالقمران التابعان لكوكب المريخ “فوبوس” و”ديموس” تم اكتشفاهما عام 1877 عبر مرصد البحرية الأميريكية، لكن هذا الاكتشاف قد سبقته نبوءة المؤلف الشهير “جوناثان سويفت” في عمله الخالد “مغامرات جليفر” المكتوب في عام 1726، حيث تحدث عن قمرين يدوران حول الكوكب الأحمر. أما في عام 1968 فقد قدم مؤلف الخيال العلمي “آرثر سي كلارك” وصفًا للجرائد الرقمية في روايته الشهيرة “2001: أوديسا الفضاء”، حيث قدم “كلارك” وصفًا كاملاً للجرائد الرقمية تمامًا كما نراها اليوم، ومما يجب ذكره عن “كلارك” أيضًا، أنه قد تنبأ في دراسة له عن نهاية الحرب العالمية الثانية بعصر جديد تصبح فيه الاتصالات عبر الأقمار الصناعية، لكن إحدى المجلات رفضت نشر الدراسة معتبرة أنها خيالية أكثر من اللازم، وقد ألف “كلارك” أكثر من 100 كتاب، معظمها يدور في فلك الخيال العلمي والفضاء.
هذه الخيالات التي كانت في يومٍ من الأيام تقع في ضروب الأوهام والأساطير، باتت اليوم حقائق، فكثير من الأمور التي احتوتها تلك العوالم الخيالية، والقصص ذات الفرضيات المعقدة التي تَحدّث عنها بعض المؤلفين للخيال العلمي في الماضي من خلال قصصهم ورواياتهم، تحققت وكانت مصدر إلهام هام للمخترعين والعلماء فيما بعد.. فالكواكب المجهولة أصبحت الآن على وشك الارتياد بعد أن زارتها مركبات “ناسا” غير المأهولة.. وفكرة الحياة على سطح تلك الكواكب تحولت من مجرد فكرة خيالية وفلسفية في روايات الخيال العلمي، إلى نظرية علمية يتم بحث احتمالية حدوثها، بخلاف ذلك فإن الرحلات إلى القمر باتت تتم الآن بصورة دورية، والتعمق في جوف الأرض لم يعد مستحيلاً، ويُرجِع البعض أن المرآة السحرية كانت الخيال الملهم وراء اختراع التلفاز، والبساط السحري شكل النبوءة الأولى وراء اختراع الطائرة.
ربما لا يدرك مؤلفو قصص الخيال العلمي نتائج تلك الظواهر، أو النظريات التي يطرحونها في كتاباتهم، لكن بعد ما شهده العالم خلال القرن الماضي، فإن الخيال العلمي قد بات يتأطر في إطارات علمية جديدة، بحيث يتم النظر إلى أدبيات الخيال العلمي على أنها تحمل وجهات نظر فلسفية وآنوية لنظريات علمية واختراعات تكنولوجية قد تتحقق مع الوقت.. فالأمر لم يعد مقصورًا على الأوهام والخيال المشوق، بل صار خيالاً مجنَّحًا يرتبط بالمنطق العلمي أكثر من الأدب.

(*) كاتب وباحث مصري.