إشراقة الروح

ربما بسبب ذلك الوميض الخاطف انتقلتُ من الظلمة إلى النور؛ فقد كشف ذلك الشعاع لي جانبًا من أستار الغيب كان مخفيًّا عني. فقد شعرت في تلك الليلة، أن روحي قد سرت مع ذلك الشعاع إلى مناطق من الكون مغيّبة عني ولكنها محببة إليّ، وكأنها أوطان للروح محبوبة تحنّ دائمًا للعودة إليها بعد طول غياب.
وربما كانت القراءات الكثيرة في تلك الأوراق المضيئة لمؤلفات أبي حامد الغزالي، والقشيري والجنيد.. قد ساعدتْ نفسي على استكشاف ذلك العالم المجهول، الذي طالما حنت للوصول إليه وطرْق أبوابه. وكان من علامات ذلك، كثرة ترددي على المساجد وكثرة انغماسي في العبادة، بل وتلذذي بإطالة الصلاة والتوجه إلى الله تعالى بكنه الهمة وخالص الرجاء.
إنني كنتُ في مفترق طرق الحياة، دفعتني تلك اللحظات الروحية السعيدة، وتلك اللوائح الإشراقية العابرة في الصلوات، إلى أن أضع حدًّا لآثامي، وأقرر التوبة إلى الله تعالى من كل ذنوبي وخطاياي، منتهجًا سبيل الله، ومتخذًا الطريق إليه، متوسلاً إلى ذلك بأداء الفروض والعبادات، ومحاولاً التخلص من كثير من الرذائل والشهوات، مستعينًا في كل ذلك بكثير من الأوراد والتأمل والقراءات.
وليس سرًّا أن الإنسان يندمج -بحكم العادة- في كثير من الآثام والرذائل، والعديد من الشهوات والقبائح -خاصة في مرحلة الشباب- التي لا يسهل عليه التخلص منها أو تجنبها، ولكنني بدأت أتخلص منها شيئًا فشيئًا، وأعوّد الإرادة على أن تكبح جماح النفس، وتسيطر على تلك الغرائز التي تمكنت منها فصارت لتلك الشهوات جذور في النفس عميقة ومتشعبة، وأوتاد تمتد فيها على مسافات بعيدة. فكانت العناية الإلهية تمكنني -في كثير من الأحايين- من التغلب على تلك الشهوات، والسيطرة على تلك النزوات، ومن هنا كانت تتسرب إلى أعماق النفس -بين الحين والآخر- نسائم الرضى ونفحات السكينة، تغذي نبتة الإرادة الباثقة، وتروي مساحات في النفس كادت أن تجف وتموت، فتدب فيها ثانية الحياة؛ حياة الطهر والسكينة والغبطة والسرور.
وقد كانت هناك شهوة عظيمة تمثل في غابات النفس وأدغالها شجرة عتيدة، امتدت جذورها إلى أعمق أعماق النفس، فصار اقتلاعها من جذورها أمرًا بالغ الصعوبة؛ فأخذت أحتال عليها بتقليم فروعها والضرب على جذعها، وتقليل الغذاء والماء الواصل إلى أصلها، علّها تذبل أو تهزل، حتى يمكنني التخلص منها ولو بعد حين.
أما هذه الشهوة العظيمة فقد كانت النظر إلى النساء، تلك الشهوة التي استبدت بي وأخذت عليّ أقطاري، وهي تستبد بكثير من البشر، وغالبًا هم لا يعون ذلك إلا إذا انتهجوا طريق التطهير؛ طريق رياضة الروح بتصفية النفس وتهذيب السلوك.. هنا تنكشف لهم النفس عن خبائثها، وتبين لهم عن سوءاتها، ولا يدرك ذلك إلا من رحم ربى. ويبدو أن هذه الشهوة الخفية، صارت تسلية يومية لي، وغذاء ترضعه النفس دون كلل أو ملل، بل إذا مُنعت منه تشعر بالحاجة والألم، ويصير فطامها هنا صعبًا والحؤول دون مطلوبها شاقًّا ومجهدًا، على الرغم من أنها سهم من سهام إبليس تطلقه النفس من تلافيف جعبتها الخبيثة. بل لقد اكتشفت أن تلك الشهوة كانت تمثل زادًا يوميًّا وتسلية حياتية تزداد متعتها في الأعياد، حيث يلهو المرء مع أصدقائه وخلاّنه في الحدائق والمتنزهات.
ومن هنا، حينما أتى عليّ العيد بعد تلك التوبة النصوح، كم شعرت من الألم حين حنّت النفس إلى ما تعوّدت عليه، وكانت في أمثال هذه المناسبات تشتاق إليه، ولكنني في ذلك العيد، وقفت لها بالمرصاد، بعد أن وضعت كنانة الشيطان جانبًا، وجندت الإرادة لمقاومتها، وعدم الرضوخ إلى مطالبها الدنيئة.. ولكنها كانت ترسل إلى تلافيف العقل أبخرة ودخانًا أسود، وخواطر سوء، وتتساءل كيف ستسعد اليوم؟ وما مصدر تسليتك؟ لقد كنتَ تتسلّى بالنظر إلى تلك المفاتن، وتتغذى بالتأمل فيها وترتوي.. لقد كنتَ تنظر إلى كثير من الأنواع والأصناف، وتقارن في سعادة بالغة بين البيضاء والسمراء، وتحقق لك تلك النظرات لذات ولذات.. على الرغم من أنها في الأيام الأخيرة، شابها الإحساس بالإثم، وألقت عليها التأملات الروحية ظلال من الخزي والعار.
ولكن الروح في ذلك اليوم، انطلقت لا تلوي على شيء، مصممة على تحقيق الإرادة الخيّرة ووضع التوبة موضع التنفيذ؛ فأغلقت تلك الشقوق العفنة التي كانت تسترسل منها النفس بخواطرها، وأرسلت على تلك الخواطر شواظ من نار الشوق إلى الملأ الأعلى، والارتفاع إلى المقامات الأسمى، مستنجدة في أثناء ذلك بالسماء، ومستعينة بقوي العالم العلوي.
وفي هذه الأثناء كنت قد اقتربت من جسر قصر النيل، حيث تناثر البشر حوله في جماعات وثلل معظمها من الشباب اللاهي، الآخذين في اللعب واللهو، والمستمتعين بنسمات النيل ودغدغة الرياح.. وكانت الشمس على الرغم من ارتفاعها في الأفق، حانية في حرارتها، ترسل دفئًا يرغب فيه الجميع في نهاية شتاء بارد بدأ يغزوه الربيع.

سقاني شربة أحيا فؤادي
بكأس الحب من بحر الوداد
فلـولا الله يحـفظ عـارفـيه
لهــام العـارفـون بـكل وادي

وحين وقفت بجوار الجسر أنظر من عَلٍ على جُموع البشر الممتد حتى الأفق، مرسلاً نظراتي متأملاً الكون حولي في محاولة لتجاوز جزئيات المشهد، والارتفاع إلى أفق الرؤية الشاملة، وفي لحظة تند عن الزمان، شعرت بأن إرادتي تتحرر كلية، وترتفع بالروح عالية، ممتطية صهوة همتي، محاولة الوصول إلى الملأ الأعلى، متجاوزة العالم المحسوس.. وعلى الرغم من أن عيّني كانتا مفتوحتين تمامًا، وعقلي في كامل وعيه، إلا أن شعورًا طاغيًا بالسعادة أخذ يغمر النفس ويفيض عليها، ثم تتوالى في لمحات خاطفة فيوضات من الرحمة والسكينة إلى سراديب النفس، فتملأها في الوقت الذي تتفتح فيه في النفس عيونًا وينابيع من الغبطة والسرور الروحي الجارف، تشبه تلك الينابيع من الماء التي تتفجر في صحراء جدباء فتغمر كل ما حولها.. وبدأت هذه اللوائح واللمعات التي انعكست على النفس من أفق السماء، تزداد وتتوالى حتى تحولت إلى فيوضات منهمرة تغمر النفس وتغذوها؛ فالتقت أنوار النفس مع أنوار السماء، مما أشعل في النفس طاقة من الضياء والحبور لا قبل لي بوصفهما، ولا قدرة لغوية لي على شرحهما وتحليلهما، على الرغم من أن عقلي -وأنا دارس المنطق والفلسفة- في كل هذه المشاهد لم يغب ولم يحتجب، بل مكث مندهشًا ومتربصًا يرقب ما يحدث لي، ويسجل كل شيء بدقة بالغة، ويتعـجـب مـعي مــن ســــرعة التحولات، ويندهش من كثرة الفيوضات التي لم أكن أملك وقفها، بل شعرت بلذة بالغة القوة في ورودها.. لكن اللذة أخذت تتضاعف، والواردات من الأنوار أخذت تتوالى، فأخذت ألتفت حولي خوفًا من أن يُشاهد أحد ما يحدث لي، ولكن الناس كانوا في لهوهم مستغرقين ولم يلتفت إلىّ أحد.
ثم اشتدت في لحظة تلك الواردات الإلهية، حتى لم تستطع النفس تحمّلها، وحين تطلعت إلى السماء وشاهدت الشمس حينئذ تعتلي بقوة قبتها، فاضت النفس بما يتوارد عليها من الأنوار، وتسامت الروح كطائر عملاق يمتطى صهوة السماء حتى خيل إليّ أنها قد سدت الأفق، واقتربت من السُدم والمجرات، وأصبحت الشمس طوع أمري وعند نهاية أطراف أصابعي، لو أمرتها أن تذهب لاستجابت دون تردد أو توان.. كما شعرت حينئذ بتجسد الإرادة وتحققها، حتى كأنها اتحدت بالإرادة الكونية الكلية، مما أربك العقل وزلزل معاييره بعد أن توالت عليه شحنات الأنوار الصاعقة، وكادت تحرقه لوائح التجليات البادية.
في هذه اللحظات، أدرك العقل الناقد أن الروح قد ثملت بما فيه الكفاية، وأن ما صُبّ فوقها من شَهْد الوصال بالملأ الأعلى، قد زاد على حدها وقوتها، وأنه لا قبل لها بما قد يرد من واردات إلهية قد تدفعها إلى الجنون أو الهلاك.. فقد شعرت في هذه الأثناء وعند اقترابي من الجسر، أنني يجب عليّ القفز في الماء حتى أهرب مما يغمرني من الأنوار والضياء، التي وصلت إلى حد الإحراق، مُصاحبة بلذة عاتية وصلت إلى حد الألم، فأصبحت لا أستطيع تحمل تلك الفيوضات، ولا قِبَل لي على الوقوف طويلاً في منازل تلك الواردات، بعد أن صرت معلقًا بين الأرض والسماء، واتصلت في روحي -أنا الفاني- كل عوامل الخلود والبقاء.
ثم أدركتني العناية الإلهية، فإذا بقدميّ تحملاني بعيدًا عن النهر والجسر، فأخذت أهرول بعيدًا بعيدًا، هاربًا من أجمل المشاهدات، ومستنقذًا النفس والجسم من أعظم الفتوحات، وأنا أردد أشعار أبي يزيد البسطامي:
سقاني شربة أحيا فؤادي
بكأس الحب من بحر الوداد
فلـولا الله يحـفظ عـارفـيه
لهــام العـارفـون بـكل وادي.

(*) قسم الفلسفة والاجتماع، كلية التربية، جامعة عين شمس / مصر.