المنهج التجريبي الحديث.. إلى أين؟

إذا كانت التجربة في التصور العلمي الحديث تزود العلم بالأساس المادي الذي يثبت وجهة نظر الباحث فيما سبق له أن لاحظه من الوقائع والمشاهدات، فإن جابر بن حيان قد فطن إلى هذا المفهوم وطبقه بصورة فعلية، فمن نصوصه يمكن تلمس خطوات السير في طريق البحث العلمي، وهي خطوات تتطابق مع ما يتفق عليه معظم المشتغلين بالمنهج العلمي اليوم.

جابر بن حيان ونهجه العلمي

لم يغفل جابر بن حيان دور الملاحظة أو المشاهدة الحسية تمامًا كما في المنهج العلمي الحديث. ففي كتابه “الخواص الكبير” يقول: “ويجب أن تعلم أنّا نذكر في هذه الكتب خواص ما رأينا فقط دون ما سمعناه أو قيل لنا أو قرأناه بعد أن امتحناه وجربناه، فما صح أوردناه، وما بطل رفضناه، واستخرجناه نحن وقايسناه على أقوال هؤلاء القوم”.
فالملاحظة الحسية هي المصدر الصحيح لتحصيل العلوم والمعارف، وهي أيضًا وسيلة لتقييم آراء الآخرين، فما تثبته فمقبول، وما لم تثبته فمرفوض.
وينصح جابر بضرورة قراءة الكتب والتحصيل النظري قبل إجراء التجارب، ومع اعترافه بأن عملية الاطلاع على ما في الكتب النظرية تقتضي تعبًا وكدًّا، إلا أنها هي الخطوة الأساسية الأولى في البحث إذا أراد الباحث الوصول إلى الحقيقة بعد التجربة. يقول جابر: “اتعب أولاً تعبًا واحدًا واجمع وانظر واعلم، ثم اعمل”.
يتضح مما سبق أن جابر بن حيان قد اتبع المنهج العلمي بأدق تفاصيله. وقد أدى به هذا إلى إحراز نتائج مهمة في تقدم علم الكيمياء.

الرازي ونهجه الطبي

لقد اهتم أطباء وعلماء المسلمين اهتمامًا بالغًا بالطب السريري، وذلك يرجع إلى اهتمامهم البالغ بالمنهج التجريبي في العلوم الطبيعية لا سيما الطبية منها.
ويأتي أبو بكر الرازي (250-313هـ/864-925م) في مقدمة هؤلاء الأطباء الذين استخدموا هذا المنهج، حيث تعد آثاره من الركائز المهمة في تاريخ هذا العلم، ولعل أهم ما فيها هو وضع الرازي للمبادئ الأساسية لعلم السريريات البحتة، وعدم الوقوف عند المبادئ النظرية. فلقد تحرر الرازي من تأثير المذاهب والنظريات، ولم يرض بالتسليم بما تتضمنه إلا بعد إقرار التجربة بذلك. فقد كان اهتمامه الأول منصبًّا على التجربة العملية باعتبارها أضمن الطرق وصولاً إلى الحقيقة العلمية.
ولقد طبق الرازي المنهج التجريبي بمراحله المعروفة؛ الملاحظة والتجربة وفرض الفروض والتحقق منها.
ويمكن الإشارة إلى ذلك بإيجاز فيما يلي: ففي الملاحظة وخاصة ما يسمى اليوم بالملاحظة الوصفية، نجد أن أهم ما يتميز به الرازي هو تدوينه للحالة المرضية، والتي تسمى في الطب الحديث “الحالة السريرية” (Clinical Case)، وهي السّيرة المرضية لشخص معين، والشكوى، ونتائج الفحص، وتطور الأعراض نحو الأحسن أو نحو الأسوأ بسبب ظروف معينة تحيط بذلك الشخص. فإذا أصيب شخص ما بمرض من الأمراض، وأصيب شخص آخر بنفس المرض، وظهرت عليه نفس الأعراض ذاتها، فعندئذ يقرر الرازي بأن لدينا حالتين وليس حالة سريرية واحدة، وذلك لأن لكل مريض منهما ظروفه الصحية والجسمية والنفسية الخاصة به، والتي تؤدي إلى شدة المرض أو نقصه أو الشفاء منه أو الهلاك به.
ومن الأمثلة القوية على استخدام الرازي لأسلوب الملاحظة الوصفية الدقيقة، ذلك الوصف -الذي يعد الأول من نوعه في تاريخ الطب- الذي ميز به بين أعراض مرضَي الجُدَري والحصبة، إذ يقول: “يسبق ظهور الجدري حمى مستمرة تحدث وجعًا في الظهر وأكلانًا في الأنف وقشعريرة أثناء النوم. والأعراض المهمة الدالة عليه، هي وجع في الظهر مع الحمى والألم اللاذع في الجسم كله، واحتقان وألم في الحلق وفي الصدر مصحوب بصعوبة في التنفس، وسعال وقلة راحة، والتهيج والغثيان والقلق أظهرُ في الحصبة منها في الجدري، على حين أن وجع الظهر أشد في الجدري منه في الحصبة.
ولم يترك الرازي صغيرة ولا كبيرة تتعلق بالمريض، إلا وسجلها في سجل خاص، ليعرف ما إذا كان لها من تأثير في حدوث المرض أم لا. ويتضح هذا بوضوح في الحالات الإكلينيكية التي ذكرها في كتابه “الحاوي”. وقد اتفق كل من اطلع على هذا الكتاب، على أن هذه الملاحظات السريرية هي خير دليل على مهارة الرازي ودقة ملاحظاته وغزارة علمه، وقوة منطقه في استخراج النتائج من معطيات البحث الإكلينيكي. وهي تتعلق بدراسة سير المرض، والعلاج في كل حالة مع تطور حالة المريض ونتيجة العلاج.
أما التجربة فقد اهتم بها الرازي اهتمامًا بالغًا، فما تثبته التجربة فحق ومقبول، وما لم تثبته فباطل ومرفوض حتى وإن كان قائله من فطاحل العلماء.
ويمكن الوقوف على عدة أنواع من التجارب عند الرازي، إلا أن أهمها هو ما يعرف بالتجربة الموجهة، حيث لم تكن التجربة عند الرازي تجربة اتفاقية كتلك التي وجدناها عند أطباء اليونان، بل كانت تجربة موجهة، ومن أمثلة هذه التجربة أن الرازي حينما أراد أن يتحقق من أثر الفصد كعلاج لمرض السرسام، قسم مرضاه إلى مجموعتين، عالج إحداهما بالفصد، وامتنع عن فصد الأخرى، ثم راقب الأثر والنتيجة في كل أفراد المجموعة حتى انتهى إلى حكم في قيمة العلاج.
ومن ذلك يتبين أن للرازي فضل السبق في تدشين ما يعرف حاليًّا بمهنج المجموعات المرضية والعلاجية.وهناك مثال من كتابه “المرشد” يدل على فهم الرازي لما يجب أن تكون عليه التجارب من ضرورة وجود موجهات أو ضوابط، إذ يقول: “سافر رجل نبيل في الصيف أيامًا، ورجع وبه حمى مطبقة قوية الحرارة جدًّا، فألزمنيه بعض الملوك، فلما كان في اليوم الرابع قلق جدًّا واشتدت حمرة لونه، وأقبل بغير أشكاله ويضرب بنفسه الأرض، وصار الهواء الذي يخرج بالتنفس من الحرارة إلى أمر عظيم جدًّا. وحدث عليه بعد هنيهة خفقان، وكنت أقدر أنه سيرعف، فلما بقي على تلك الحال ساعتين وأكثر، أمرته أن يحك داخل أنفه طمعًا في انفجار الدم. فلما لم يكن ذلك، ورأيت الحرارة والكرب والقلق يتزايد، سقيته مقدار عشرة أرطال من الماء الصادق البرد جدًّا، فخسر مكانه وانطفأ ما به، ودر بوله، ولانت حماه. ففي هذه الحالة -وهي ضربة شمس- كان ارتفاع درجة الحرارة بمثابة موجه للرازي في تقديم العلاج المناسب، والذي تمثل في الماء البارد الصادق البرد جدًّا.
وهذا النوع من التجارب لا يخرج عن ما يسمى حديثًا بـ”التجربة الضابطة” (Controlled experiment) التي تعتبر من أهم المبادئ في التجارب البيولوجية، حيث تتضمن مجموعتين متشابهتين أو أكثر -تتماثلان من جميع الوجوه باستثناء ذلك التنوع الكامن في جميع الكائنات البيولوجية- أحدهما هي مجموعة الاختبار للتجربة التي يراد معرفة تأثيرها. وتُختار هذه المجموعة عادة بطريقة عشوائية. وتتوخى الطريقة التجريبية التقليدية جعل المجموعات متشابهة من جميع الوجوه فيما عدا العامل المتغير.
أما الفروض فقد لعبت دورًا بارزًا في منهج الرازي العلمي، مـن حيث إن الفرض هو أهـم وسيلة ذهنية لدى الباحث، ووظيفته الرئيسة هي أنه يوحي بتجارب أو ملاحظـات جديدة. والواقع أن أغلب التجارب وكثيرًا من المشاهدات تجرى خصيصًا لاختبار الفروض وهو ما فعله الرازي. ومن الأمثلة على ذلك ما يلي:
قال الرازي: كان عبد الله بن سوادة حميات مخلطة تنوب مرة في ستة أيام، ومرة غبًّا (تأتى يومًا وتغيب يومًا) ومرة ربعًا (تأتي كل أربعة أيام مثل الملاريا)، ومرة كل يوم، ويتقدمها نافض يسير. وكان يبول مرات كثيرة، فحكمت أنه لا يخلو أن تكون هذه الحميات تريد أن تنقلب ربعًا، وإما أن يكون به خراج في كلاه، فلم يلبث إلا مديدة حتى بال مدة، فأعلمته أنه لا تعاوده هذه الحميات، وكان كذلك وإنما صدّني في أول الأمر عن أن أبتّ القول بأن به خراجًا في كلاه أنه كان يحم قبل ذلك حمى غُب وحميات أُخر، فكان الظن بأن تلك الحمى المختلطة من احتراقات تريد أن تصير ربعًا موضع قوي. ولم يشْكُ إليّ ابتداء ثقلاً في قَطنة (ما بين الفخذين)، لكن بعد أن بال مدة قلت له: هل كنت تجد ذلك؟ قال نعم. لقد كان يشكو ذلك وأن المدة نقيت سريعًا، فدل على صغر الخراج. فأمّا غيري من الأطباء، فإنهم كانوا بعد أن بال أيضًا لا يعلمون حالته ألبتة.
يتضح من النص، أن الرازي في محاولة تشخيصه للمرض قد افترض فرضين بناء على ما رآه من مشاهدات: “فحكمت أنه لا يخلو أن تكون هذه الحميات تريد أن تنقلب ربعًا، وإما أن يكون به خراج في كلاه”.

وقد شخص الرازي المرض أولاً على أنه ملاريا “تريد أن تنقلب ربعًا” على افتراض أنه كان يشخّص ويعالج في بلد تكثر فيه القشعريرة، وهذا هو الفرض الأول، أما الفرض الثاني فقد تمثل في وجود خُراج في كلى المريض. ولما لاحظ الرازي خروج مدة مع بول المريض، كانت هذه الملاحظة بمثابة تأييد للفرض الثاني، فاستبقاه واستبعد الفرض الأول وشخص المرض على أنه التهاب في الكُليتين، وقد قام بالعلاج بناء على هذا التشخيص، فشفي المريض.
وهنا يذكرنا الرازي بقاعدة هامة في المنهج العلمي الحديث، وهي ما تُعرف بـ”الاستبعاد المنظم” (Systematic Elimation)، فعند البحث عن سبب مرض -مثلاً- تُستبعد مختلف الأسباب المحتملة إلى أن يتبقى في النهاية مجال ضيق يمكن التركيز عليه، وهذا ما فعله الرازي بمنتهى الوضوح والدقة.
إن الرازي أشار إلى هذه الخطوات في كثير من كتبه، لا سيما “الحاوي” الذي يحوي ما يقرب من مائة حالة سريرية (إكلينيكية)، اعتمد عليها الباحثون للتقرير بأن الرازي قد استخدم المنهج التجريبي، وأرسى قواعد الطب السريري، وقد انعكس أثر ذلك على الإنجازات التي قدمها.

ابن زهر ومنهجه التجريبي

اهتم أبو مروان بن زُهر (557هـ/1161م) اهتمامًا بالغًا بالمنهج التجريبي في العلوم الطبيعية وخاصة الطبية منها، فما تثبته التجربة فحق ويؤخذ به، وما لم تثبته التجربة فباطل حتى وإن كان قائله من فطاحل الأطباء كابقراط وجالينوس والرازي، أولئك الذين اطلع ابن زُهر على أعمالهم الطبية، ودرسها واستشهد بآرائهم كثيرًا، إلا أن ذلك لم يأت إلا بعد نقد وتمحيص، وإقرار التجربة بذلك “فمدار أمرنا على التجربة” كما يقول.
وإذا كان ابن زُهر قد عوّل على الاحتكام إلى التجربة كمحك يفصل به بين الحق والباطل فيما يقبله من آراء، فقد ساعده هذا كثيرًا في التشخيص السليم للأمراض باعتباره الأساس الذي يقرر على ضوئه العلاج المفيد. فلقد أثبتت التجربة فيما مضى أن هذا المرض يسبقه كذا وكذا من الأعراض، فإذا لاحظ الطبيب هذه الأعراض، فسرعان ما يقرر المرض الذي يشكو منه المريض بناء على سابق خبرته من كثرة المشاهدات والتجارب، التي يقرر على ضوئها العلاج المناسب.
لقد اهتم ابن زُهر بالملاحظة الوصفية، إحدى مراحل المنهج العلمي الحديث، فكان ينصح بضرورة ملاحظة الحالة جيدًا حتى يسهل على الطبيب الوصول إلى تشخيص سليم لها. ولقد سجل ابن زُهر في مؤلفاته كثيرًا من ملاحظاته لحالات مرضية مختلفة الأعراض، وتابعها حتى وصل إلى تشخيصها تشخيصًا سليمًا بعد معرفته بأسبابها.
كان ابن زهر في وقت مروره إلى دار أمير المؤمنين بإشبيلية، يجد في طريقه مريضًا به مرض في الأمعاء وقد كبر جوفه واصفر لونه، فكان أبدًا يشكو إليه حاله ويسأله النظر في أمره، فلما كان في بعض الأيام سأله مثل ذلك، فوقف أبو مروان بن زهر عنده، وفحصه، فوجد عند رأسه إبريقًا عتيقًا يشرب منه الماء، فقال: “اكسر هذا الإبريق فإنه سبب مرضك”، فقال: لا بالله يا سيدي فإنه ما لي غيره، فأمر بعض خدمه بكسره فكسره، فظهر منه ضفدع وقد كبر مما له فيه من الزمن، فقال له ابن زهر: “خلصت يا هذا من المرض، انظر ما كنت تشرب” وبرئ الرجل بعد ذلك.
يتبين من كل ما سبق، أن المنهج التجريبي الحديث بمراحله المتبعة حاليًّا -وهي الملاحظة وفرض الفروض والتحقق من الفروض بالتجربة- دشنه علماء الحضارة الإسلامية، وطبقوه في أبحاثهم العلمية، فتوصلوا إلى الاكتشافات والإنجازات العلمية التي تحسب لهم حتى اليوم.

(*) أكاديمي وباحث مصري.