مشروع الخدمة من عين الواقع

سأتكلّم في هذا المقال عن ثلاثة عناصر أساسية:
1– المتكلمون في “مشروع الخدمة”

المتأمل في عطاءات الباحثين في مشروع الأستاذ فتح الله كولن يجدهم على عدة أصناف:
أ- فيهم من يُطالع تأليف الأستاذ والإنتاجات الفكرية حوله لا يتجاوزها إلى الرؤية الميدانية، فهذا الصنف يبقى تصوّره ناقصًا، لأنه انحبس في الجانب النظري.
بـ- وصنف يقف على المنجزات والإبداعات ومشروعات الخدمة فيراها رأي العين، فهذا يقف على نصف الحقيقة، لأنه وقف في نصف الطريق. فالرؤية وحدها لا توصل إلا إلى نصف الطريق ما لم يربط تلك المنجزات بالمحفّزات الدينية والخلقية والإيمانية والواقعية التي فرضت نفسها، وهذا يتطلب فهمًا من نوع مغاير.
جـ- وصنف من الباحثين قرأ وطالع وبحث وأصّل وعاين حقيقة الخدمة عن قرب، فهذا الصنف على جانب كبير من الفهم والمعرفة، لأنه التزم بالمنهج فربط النظري بالعملي.
د- أما من انخرط في المشروع كلية، وأصبح من “إخوة الخدمة”، ومن عناصرها الفاعلين ومن المجتهدين العاملين فهذا -في نظري- حاز عنصر السبق في العلم والفهم؛ وفي الحديث الموقوف: “تعلموا تعلموا فإذا علمتم فاعملوا”(1)، وفي حديث موقوف آخر: “تعلموا ما شئتم أن تعلموا، فلن يأجركم الله حتى تعملوا”(2).
هذا الصنف هو الرابع من حيث التصنيف، وهو الأول من حيث الاعتبار، صنف دفعت به تجربته إلى الانخراط في العمل ومن ثم إلى الاتحاد في المشروع الكلي للخدمة ليصبح جزءًا منها، وهي في الغالب تُبنى عليه ومدار العمل كله فكريًّا كان أو نظريًّا، على التجربة العلمية والعملية للأستاذ فتح الله كولن.
لقد أصبح هذا الصنف على مدار الوقت موضوع بحث ومجالاً للفهم والمعرفة، لِمَ لا وهذا المشروع يرتكز على الإسلام بكل ثوابته، ذلك أن الإطار العام الذي يتحرك فيه الأستاذ، هو فكر إصلاحي شامل ينطلق من التراث الإسلامي الكلي: القرآن الكريم والسنة النبوية والفقه والأصول والمقاصد والفكر والزهد…إلخ. فصَيحة الأستاذ هي صيحة إصلاحية شاملة انبنت على تجارب الإصلاح في العالم الإسلامي مرورًا بتجربة الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي كإحدى التجارب التركية الرائدة في مطلع القرن الماضي. والثابت الثاني، الواقع التركي بأبعاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية، الواقع بماضيه وحاضره؛ إنه فتح الله كولن بفكره وذاته، الفكر الذي نهل من معين التراث، والذات التي عايشت الواقع المرّ الذي طرأت عليه تحولات جذرية. لقد سخر للواقع جيلاً نهل من الماضي واتجه صوب الحاضر ليستشرف المستقبل، كانت آهاته آهات حسرة، وأنينُه أنين ألم… إلى جانب هذا الثابت هناك البعد الإنساني الذي استحضره الأستاذ عبر واقع التحضر العالمي، واقع العولمة والتحديات المعاصرة الجارفة. من هنا نقول إن تجربة الأستاذ هي تجربة رباعية التركيب: “التراث الإسلامي” الذي هو المنطلق والمجال، و”التجربة الشخصية” التي هي الوسيلة والأداة، و”الواقع المعاصر” الذي هو القصد والهدف، و”البعد الإنساني” الذي هو الدافع والمحرك. وسنرى في تطبيقات كل ذلك عند حديثنا عن “إنسان الخدمة” في النقطة الموالية.
2- “إنسان الخدمة”
كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في المدلول والمعنى:
• مدلولها الأول “إنساني” غير قاصر على القطرية أو الانتماء الجنسي أو العقدي.
• المدلول الثاني التواضع الجمّ، والعمل بنكران الذات. والمدلول الثاني يعني تيسير الأمور على الناس في حياتهم العامة.
فالخادم هو مَن يعمل ليساعد ويعين لتيسير ما تعسّر وتقريب ما بَعُدَ، وهي شاملة وعامة. وإذا أردنا تقريب المعنى أكثر قلنا: إن “إنسان الخدمة” هو في خدمة الإنسانية كلها، ولا يفهَم من “إنسان الخدمة” دونية المعنى، إنهم صحابة الأستاذ وتلامذته المباشرون، فعلى الرغم من التطور الحضاري والنمو العمراني والتكنولوجي الذي حازت فيه تركيا عنصر السبق، ما زالت فئة ظاهرة على الحق يمتحون من تجربة صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- القدوة الحسنة – رضي الله عنهم-. وكثيرًا ما كان الأستاذ يذكرهم بذلك بعبارة “حرق المسافة بينهم وبين النبي -صلى الله عليه وسلم-“؛ فالقرون الممتدّة منهم إليه لا تعني شيئًا أمام القدوة والأسوة، فلا تقف حائلاً في وجه الاتّباع والاقتداء، بهذه العبارة تُطوى الحضارة كلها لتصبح وسيلة للخدمة، ولن تكون هي الأخرى عائقًا في وجه استلهام التجربة النبوية كما يحلو للبعض أن يتصور، تمامًا كما طويت القرون(3).
يشكل الأستاذ بتجاربه المتعددة وبحرصه الصارم، على تربية الأسوة والقدوة نواة المدار، وحوله يتحلق “إخوة الخدمة” في دوائر كلما ابتعدت كبرت كموج البحر لا يظهر عليها التناهي من شدة التفاني… توالد بالإيجاب، وتكاثر بالنفع، ويدور الكل حول تلك النواة التي تشكل في نظري “مركز مشروع الأستاذ فتح الله كولن”… ولذلك لم يَعد الأستاذ مجرد رسائل أو كتب أو محاضرات ودروس، بل أصبح مدرسة متحركة، مدرسة يمثلها الإنسان والحضارة والعمران، هذه المدرسة بإنسانها وعمرانها وأدبياتها وأنشطتها العلمية والفكرية التي تعددت وامتدّت، فسحت في المجال للباحثين والدارسين والزائرين ليجعلوا منها مجالاً للبحث والدرس، وإطارًا للكلام الهادف والمتعدد.
من موقع الزائر الناظر تجد أن “إنسان الخدمة” يشكل الأسرة الكبرى في المجتمع التركي. صحيح جدًّا أن “الأسرة” هي نواة المجتمع، لكن الخدمة قلبت هذا المفهوم تمامًا؛ ففي الوقت الذي بدأ فيه الجميع يتكلم عن الأسرة، وسخرت في ذلك نظريات ومفاهيم في البحث والدرس، وتم الدفع بها في مجاري الرؤية المعاصرة مما ولد اهتمامًا مبالغًا فيه، اتصف بالغلو والتنطّع، وتُنُوسِي المجتمع بل تم إهماله، ولا يلزم من الدعوة إلى إصلاح الأسرة والإفراط في الاهتمام النظري بها إصلاح المجتمع ما لم يتم التركيز على المجتمع، لكن الخدمة قلبت هذا المفهوم تمامًا، فالفرد للمجتمع، والأسرة للمجتمع. لقد رأينا الجميع في الخدمة من الآباء والأمهات، الشباب والشابات، النساء والرجال، الأطفال والشيوخ… لقد نزل الجميع لخدمة الجميع، ونجح الجميع في خدمة الجميع في جهات كثيرة من المعمور ما زال الإنسان متخبطًا في معالجة أمراض نفسه، يعاني من تمرد النفس، لكن هنا يتغلب الإنسان على نفسه، ويُعان على التغلب عليها، وتُروض على الرغم منها لتصبح طائعة هينة، ثم توجه إلى ما لأجْله وُجدت. فالوظيفة الحقيقية للإنسان على هذه الأرض هي الإيمان بالله والعمل الصالح، وهي أزرار ضغَط عليها الأستاذ بإحكام فبنى عليها مشروع الخدمة: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)(فصلت:33).
لزائر تركيا وللواقف على أساليب الخدمة أن يتحدث هل يحس بالفرق بينه وبين رجال الخدمة؟ شيء طبيعي أن تحس بالتباين الشاسع والفرق الكبير بينك وبين من لا يتكلم لغتك، لكن هنا يذوب هذا الإحساس تمامًا ليعوض بتواصل كبير، إنه التواصل الروحي والأخوّة في الدين وفي الإنسانية، وهي معطيات ساهمت الخدمة في إيجادها. الخدمة لا تجعلك تغيّر من سلوكك فحسب، بل تُحدث فيك طاقة جديدة يتولد عنها منهج جديد في التعامل مع القرآن الكريم والسنة النبوية، حيث تصبح القراءة من موقع تجربة الخدمة لا مِن موقع الأساليب المعلقة. إنها تجربة ذات نفَس جديد في الواقعية والتأصيل والتفعيل، ولذلك كثيرًا ما كنتُ أقف مدهوشًا أمام هذا النمط من الكتابة حول القرآن والسنة والسيرة والأخلاق والحضارة والروح… إلخ(4)، أعني بذلك الكتابة التي استحدثها الأستاذ فتح الله، المصادر هي هي، لكن طرق التعامل معها يختلف، وكنت أبحث عن سرّ التميز في التأليف والتصنيف، ولا أجازف إذا قلت إنها “الخدمة”… الخدمة هنا هي كل شيء؛ هي العلم والمعرفة، وهي الثقافة والحضارة، وهي الفن والإبداع، وهي الوظيفة والمال، وهي الأسرة والعائلة، وهي الأصدقاء والإخوة… فمن استغنى عنها فقد ضيّع جانبًا مهمًّا من حياته وحياة الناس، ومن دخل إلى ساحة الخدمة متحلّيًا بتلك العناصر فقد تحصل له المراد. ولا أريد هنا أن أمثل بنماذج حية من عين الواقع، فقد خبرت التجربة عن قرب، وشاهدتُ وجالستُ واستفدتُ، وليس مَن رأى كمن سمع، ولا من سمع كمن قرأ، وتلك مستويات في الفهم كنت مجبرًا أن أتكلم عليها في التصنيف السابق.

وقد يقول قائل: “إن الدعوة يمكن أن تكون من دون هذا النوع من الخدمة” أقول: قد يكون ذلك في غير الواقع التركي، أما الواقع التركي المعاصر فهذا النوع يبدو ناجحًا بكل المقاييس، إنه ربيع تركيا الخاص، الربيع الذي يطلق عليه من موقع لغة الخدمة “الأزهار”، وهو نعت لطيف، جميل وخفيف، إنها أزهار الأستاذ التي تتفتّح يومًا بعد آخر… ولقد تكلم الأستاذ بديع الزمان -رحمه الله- عن الأزهار في وقت من الأوقات، وتكلم الأستاذ فتح الله كولن عن الأزهار في هذا الوقت لتكون في كل وقت، ومهما خيم صيف حارق للإيذاء بها فإن نواتها توجد في عمق التراب، وبالتحديد فوق قبور الأجداد، أولئك الذين ماتوا مرتاحين بعد أن فعلوا ما عليهم، ما زالت آثارهم ثابتة، وقبورهم محطّ الزيارة إلى اليوم، منطلقها قبر الصحابي الجليل أبي أيوب الأنصاري -رضي الله عنه-، إنهم زرعوا فأنبتوا، فكانت تلك الأزهار من بذرتهم.
العاملون في الخدمة تطلق عليهم ألقاب متعددة، منهم من ينعتهم بـ”أبناء الخدمة”، ومنهم من يصفهم بـ”إخوة الخدمة”، ومنهم من يسمّيهم بـ”أصحاب الخدمة”؛ وقد نطلق عليهم “إنسان الخدمة” وهي إطلاقات لا تغير من الحقيقة شيئًا، إنهم كذلك بكل المواصفات… والباحثون يطلقون الوصف حسب ما يريدون منه، والكلمة الرائجة هي “الأصحاب” وهي كلمة لطيفة ودالة، وهي من إطلاق الأستاذ نفسه، كان يسمّيهم بـ”الأصحاب” عِوَض “التلاميذ”، وهو نعت مؤصل من سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- حين نعت أتباعه بـ”الأصحاب”، والله – سبحانه وتعالى- نعتهم بالأتْباع فقال تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ)(آل عمران:31)، وقوله – عز وجل-: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ)(الأعراف:157)(5)… وقد دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- من تبعه ورآه وآمن به منهم بـ”الأصحاب”، ولم يطلق عليهم نعت “تلاميذ” وإن كان هذا النعت في حقهم جائز، قال -صلى الله عليه وسلم-: “لا تسبّوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أُحدٍ ذهبًا ما أدرك مُدَّ أحدهم ولا نَصِيفَه”(6)، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: “وأصحابي أمنة لأمتي”(7)، وجرى إطلاق لفظ الصحبة عليهم. وأما من صحِبوهم فهم من الأتباع، فالصحابي في الاصطلاح مَن لقي النبي مؤمنًا به ومات على الإسلام، والتابعي من لقي الصحابي مؤمنًا ومات على الإسلام، وتابع التابعي من لقي التابعي مؤمنًا ومات على الإسلام، وهكذا من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين… والشاهد من هذا التوضيح هو أن الصحابة كانوا قدوة لأبناء الخدمة، قال لهم الأستاذ مرّة وقد خرج إلى جماعة منهم وهو يحمل كتاب حياة الصحابة للكاندهلوي بيده: “كونوا مثل هؤلاء أو موتوا”.
إن سر نجاح الخدمة يكمن في هذه الصيرورة المطردة، فهي نموذج يتكامل يومًا بعد يوم، لا اختلاف ولا تباين، ولا فارق بينهم ولا تباعد إلا بالجد والعمل والتقوى، الجميع على نمط متجانس، وهو سرٌّ يرجع إلى الالتزام بالخط القرآني، وهو خط واضح بيِّنٌ، يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ)(الحجرات:13)؛ التعارف مقدمة ضرورية للتعرف والتواصل، وبالتعرف والتواصل يتم التعايش، وبالتعايش يتحصل التسامح والتآخي، وإذا تحصلت هذه الأمور جميعها تقوت أواصر المحبة، وما سبب النفور والإعراض المفضيَين إلى الكوارث الأخلاقية في بعض الأحيان إلا بجهل كل طرف للآخر. وأعتقد أن سبب المحبة الحاصلة بين أفراد الخدمة إنما هي نابعة من ثقافة معينة. إن المتأمل في ثقافة وأدبيات الأستاذ فتح الله، يجدها تفوح بفكر المحبة، وبالأساليب الدافعة إلى تحصيل المحبة -محبة القلوب- وهي ظاهرة تحتاج إلى أن تفرد ببحث مستقل. وإننا لنرجو صادقين أن تمتد هذه الأفكار والتوجيهات والنصائح والإرشادات إلى أجيال الإنسانية كلها.
3- “مرتكزات المشروع”
نقصد بـ”المشروع” الخدمةَ، الخدمة التي تسير من دون مواثيق ولا معاهدات بين الأفراد، ولا دفاتر أو سجلات، ومن دون قانون داخلي أو خارجي، ولا يفعل من هذا إلا ما اقتضته الضرورة الإدارية. أما العلاقات داخل الخدمة فتتسم بالسجية والفطرة وحسن الظن بالآخر كيفما كان هذا الآخر، والأمور -ما رأيناها- تسير من دون تكلّف آو تعسف، أو سلطة صارمة تزرع خوف أبناء الخدمة منها لا من الله – عز وجل-. ويمكن القول بأن الأستاذ هو اسم على مسمّى؛ فهو “فتحٌ” مبين على هذا الجيل المتعطش للتربية، وللقدوة الصالحة، والتوجيه النير، فإذا كان السلطان محمد الفاتح قد فتح الديار، فإن الأستاذ محمد فتح الله قد فتح القلوب، وهذا العصر هو عصر فتح القلوب ولكل زمان عمله.
فالأستاذ مربّ بالدرجة الأولى، وللتربية مجالات في فكره:
• المجال الأول: التاريخ التركي بصفة خاصة.
• المجال الثاني: التاريخ العالمي بصفة عامة.
التاريخ التركي مشحون بالدلالات والأحداث، ففيه دروس وعبر، وهو يحاول التركيز على التاريخ المحلي، لأن هذا التاريخ يُراد له أن يفصل عن الزمن التركي المعاصر. لقد حاول المستشرقون تشويه تاريخ السلطنة العثمانية ووصفها بأبشع النعوت والأوصاف، وما زال هذا النيل إلى اليوم ساري المفعول في الأفلام والمسلسلات.. التاريخ هو كل شيء في الفكر التركي الحديث، لأن به تنتعش الذاكرة ومنه تتغذى، فالحاضر المؤلم فيه الكثير من معطيات الماضي. وأما التاريخ العالمي فهو مركب من تاريخين:
• التاريخ الأوربي الذي يعتبر التاريخ التركي جزءًا منه بحكم الجوار الجغرافي، ولهذا التاريخ أثر كبير على مسيرة التقلبات الزمنية في تاريخ الحضارة الإسلامية التركية.
• وأما المجال الثاني فهو مجال الواقع الحديث والمعاصر، هذا الواقع أدرك الأستاذُ أقفالَه، ففتحها فانفتحت مغاليقه. إن الحديث عن “فقه الواقع” في فكر وفقْه الأستاذ لَيحتاج إلى وقفة خاصة، لأن البحث في فقه الواقع يتطلب استحضار المستندات الفقهية والأصولية والمقاصدية من خلال إنتاجاته، كما يتطلب استحضار معطيات الواقع بكل أبعاده، وتطبيق تلك المستندات على هذه المعطيات ثم استخلاص ما سيقع.
• وأما المجال الثالث فيتمثل في استغلال القدرات وتدبير الإمكانيات، لأن الواقع لا يرتفع.
لقد وفر الأستاذ الإمكانيات الموجودة في سبيل الخدمة، هذه المجالات الثلاثة التي استطاع الأستاذ أن يكون بها الجيل الذهبي للخدمة بُنيت هي الأخرى على قواعد ثلاثة: التسامح، والحوار، والتقريب بين المتباعدين.
وتستطيع أن تلحظ هذا في مجمل الأنشطة التي تقوم بها “مجلة حراء” الغراء وأخواتها على الصعيدين المحلي والدولي، كما تستطيع أن تلحظ ذلك في مؤسسات الخدمة المنتشرة في أرجاء تركيا، من ذلك مثلاً “مؤسسة الحوار” التي هي وَقْف للصحفيين والكتاب، يتم الاشتغال فيها على ترسيخ “ثقافة التعايش”، ويتم البحث فيها عن المناخ لتجسيد ثقافة الحوار من خلال اللقاءات والندوات والورشات… إلخ.
إن فتح بابِ الحوار والتعايش السلمي ونشر ثقافة التسامح إنما وَقَع الانطلاق فيه من واقع تركيا في إطار الحكم العثماني؛ لقد كانت تركيا إمبراطورية واسعة ممتدة الأطراف، تتعايش فيها كل الأجناس وكل الملل والنحل، وكانت العاصمة إسطنبول رمزًا للتعدد في أبهى صوره، لكن بين عشيّة وضحاها تحوّلت تركيا إلى دولة قطرية وطنية وعرقية. ولذلك فما يقوم به “إخوة الخدمة” ليس بدعًا من الفكر والعمل، بل هو نهج من نهج الأجداد. ثم إن جذوره ممتدة في الزمن التاريخي للحضارة الإسلامية، وقد أدرك قيمة هذا النهج الأستاذ محمد فتح الله كولن.
لقد عمّت فكرة إرهابية الإسلام العالمَ، فالإسلام دين إرهابي -كما صوّروه- يحث على القتل والكراهية والبغض والنفور، وهذه التهم ما زالت -للأسف- سارية إلى اليوم، ساهم في نشرها جيل من المستشرقين المستعمرين وممن نال من وحدة الخلافة الإسلامية، واستمر هذا النعت قرونًا من الزمن تصطبغ به الأدبيات الثقافية الغربية، وتزكّيه الفلسفات والنظريات الممسوحة باسم العلم. وقد حاولوا الدفع بها في مجال التربية والأخلاق حتى أصبحت فكرة جاهزة قابلة للاعتناق والاعتقاد، وبالتالي قابلة لأن تستثمر في مجال السياسة العالمية تجاه العالم الإسلامي. والشيء الأخطر هو أن أيّ تحرك إسلامي أو تجمّع إسلامي أو سياسة إسلامية إذا لم تكن تتوافق مع الرغبة الغربية وطموحاتها، فهي مصدر قلق وإرهاب!
أدرك الأستاذ فتح الله كولن هذا المدّ الثقافي الخطير المشحون بالنعوت القدحية وبالملصقات اللفظية الجاهزة، فبادر بتنقية الخطاب الإسلامي من كل ما قد يجلب إليه هذه التهم الجاهزة، فبنى فكره على “الحوار” والتسامح والأخلاق والقيم والتربية الروحية والجهاد بالكلمة الهادفة، والتآخي ومد جسور التعاون، مستبدلاً مصطلحات كثيرة بأخرى أكثر دلالة وأبلغ أثرًا، فركّز على الحوار جاعلاً منه دعامة أساسية. والحوار مبدأ أصيل في الثقافة الإسلامية، وأداة فعّالة في الدعوة والإصلاح الشامل.

انطلقت فكرة الدعوة إلى الحوار -بتوجيه من الأستاذ كولن- منذ سنة 1995م، وقد وقفنا أثناء زيارتنا العلمية في مطلع سنة 2013م والتي امتدّت أسبوعًا كاملاً على مركز من مراكز الحوار في إسطنبول وهو واحد من ستة مراكز موجودة في منطقة البوسفور، فإخوة الخدمة عمَليّون أكثر مما هم نظريون، يحبّون أن يطلعوك على ما هو موجود عوض الاكتفاء بالوصف والكلام. لا يتحدثون عما يعملون، بل يعملون أكثر مما يقولون، ويتركون للزائر الواقف على أساليب الخدمة الحكمَ الحرّ والمطلق.
كانت فكرة الحوار هي فكرة الأستاذ نفسه، فقد كان يدعو إليها دائمًا، وكان دائب الزيارة لكل الفئات والهيئات والتيارات والمنظمات، وكان يقدّم الخدمة كأنموذج؛ الخدمة التي جمعت كل الأطراف المتصارعة على طاولة واحدة، فبعدما كانت القطيعة والانفصام تسود بين الأطراف المتخاصمة، اجتمعوا على مجلس واحد وحاور بعضهم بعضًا، وأدركوا جميعًا أن همُّهم مشترك هو خدمة الوطن. وقد شمل هذا الأسلوب كل الطوائف في المجتمع التركي، من حزبيين ومفكّرين ومثقفين ونقابيين ورياضيين وفنّيين… إلخ، وأصبح الأستاذ فيما بعدُ الرئيس الفخري لهذه الملتقيات الحوارية.
تلك قبسات من تجربة علمية لزائر وَقَف على أساليب الخدمة عن كثب، ضمّنّا فيها جانبًا مما يجب أن يقال وبما يسمح به المقام.

(*) أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب بجامعة القاضي عياض في “مراكش” / المغرب.
الهوامش
(1) حديث عبد الله بن مسعود أخرجه الخطيب البغدادي في اقتضاء العلم العمل، ص:22-23 بإسناد حسن. تحقيق محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي طبعة 1984م.
(2) حديث جابر بن عبد الله الأنصاري، أخرجه الدارمي في سننه، 1/81.
(3) انظر: “اجتياز الزمن والمسافات”، فتح الله كولن، 25 مارس 1990م، إزمير/تركيا.
(4) انظر على سبيل المثال لا الحصر كتاب “النور الخالد: محمد -صلى الله عليه وسلم- مفخرة الإنسانية” للأستاذ فتح الله كولن، تكلم فيه عن السيرة النبوية في خمسة أقسام، وملحق للسنة النبوية من حيث تقييدها ومكانتها في الشريعة الإسلامية.. وكتاب “أضواء قرآنية في سماء الوجدان”، وكتاب “ونحن نقيم صرح الروح”، وكتاب “التلال الزمردية نحو حياة القلب والروح”، و “ترانيم روح وأشجان قلب” وغيرها من الكتب والرسائل العلمية القيمة.
(5) سورة الأعراف الآية 157، وانظر الآية 158 من نفس السورة، وغيرها كثير.
(6) متفق عليه، أخرجه البخاري في كتاب فضائل الصحابة باب قول النبي صلى الله عليه وسلم ” لو كنت متخذا خليلا ” 7/12 برقم 3673 ومسلم في صحيحه كتاب فضائل الصحابة، باب تحريم سب الصحابة 4/1967-1968، برقم 222 و 2541.
(7) طرف من حديث مرفوع أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب بيان أن بقاء النبي أمان لأصحابه 4/1961 برقم 207 و 2531.

 المصدر: مجلة حراء العدد 42