الموتُ قبل الموت

“أيتها النفس الخائفة والهاربة من الموت، تنبهي! فالخوف نابع منكِ وفيكِ.. والخوف ليس من صورة الموت، بل من وجهكِ القبيح! فروحكِ شجرةٌ والموت أوراقها”.
عندما نلقي نظرة متفحصة، نجد مولانا جلال الدين الرومي، في آثاره عمومًا وفي المثنوي خصوصًا، يقسم الموتَ إلى نوعين: موتٌ إرادي، وموتٌ طبيعي.

الموت الطبيعي

والموت الطبيعي -البيولوجي- الذي يشكل القسم الثاني عنده، وإن بدا لنا في نظرة سطحية أنه فناءُ الجسد وتلاشيه، فإنه لا يعني العدم. لأن الإنسان ليس كائنًا حيًّا مركبًا من جملة الموجودات المادية فقط، بل يحمل فوق ذلك روحًا خاصة به. ويكون بذلك كائنًا ذا جانبين؛ جانب مادي، وجانب روحي. فالموت هو بداية المسير نحو أصلِ كل الموجودات، والموت ليس فراقًا ولا فناءًا، بل هو تعبير عن عودةِ كلِّ جزء من الوجود إلى أصله واتصاله به.
يتناول مولانا جلال الدين موضوع البعث “العودة إلى الأصل” بهذه العبارات مستندًا في ذلك إلى الآية الكريمة ﴿إِنَّا لِلهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾: “لو لم يكن فراقًا تَوَقُّفُنا في هذه الدنيا، ما كان لنا أن نقول، نحن العائدون من جديد، والواصلون إليه. يقال: عائد وراجع، لمن يبلغ من جديد تلك الديار وينجو من مُفْتَرَق الزمان ويبلغ الوحْدة”.

الموت الإرادي

والنوع الثاني الذي يتناوله المثنوي، هو الموت الإرادي، وهو بهذا المعنى يشكل إحدى مراكز التَّنَبُّه في التصوف الإسلامي، معتمدًا على مبدأ “موتوا قبل أن تموتوا”، وهو ما يعبّر عنه المثنوي بقوله: “موت البدن بالرياضة هو الحياة، وتعذيب هذا الجسد يعني بلوغَ الروح الخلودَ. فيا له من سعيدٍ مَن مات قبل أن يموت، ونال عبقًا من أصل هذه العناقيد من هذا البستان”. ثم يقول مولانا في المثنوي: “موتوا.. موتوا لتنالوا روحًا خالدة، وانقطعوا عن هذا التراب وتخلّصوا من حقول الأجساد لتلمسوا بأيديكم السماوات”.
يريد مولانا جلال الدين الرومي في هذه الأبيات أن يقول: إن الحياة الحقيقية شيء مختلف عن الحياة التي يعرفها كل فرد منا بأنفاسه التي تدخل وتخرج. فالإنسان الذي يقضي حياته في الطعام والشراب والرغبات الجسدية -في نظره- لا يعيش في الحقيقة حياةً إنسانيةً. والمعرفة تعني قدرةَ الإنسان على أن يدير ظهرَه لهذه الرغبات التي تُحْدِق به من كل جانب وهو على قيد الحياة، لأن هذه المطالبَ والرغبات، تحمل في نفسها من الطاقة الكامنة، ما تجعلها عبئًا عليه وغمًّا، وهي لا تستطيع أن تشكل خطرًا عند الأموات، لأنها في الأصل غيرُ موجودة عندهم. وفي هذه الحال، ينبغي على الإنسان أن يختار موتًا إراديًّا ومجازيًا، ليتمكّن من الخلاص من همومها -أي الرغبات- وأثقالها.
وفي تأكيدٍ آخر، نجد المثنوي يسلّط الأضواء على البيان أعلاه فيقول: “تطلبُ الموتَ وتشتهيه كما يشتهي الحليبَ الرضيعُ، فلستَ أسيرَ العلّة والمرض. تبحث عن الموت وتتمناه، لا تطلبه هربًا من الآفات والآلامِ، بل في كنزٍ دفينٍ تَراه في ركنِ بيتكَ المُنهدِم”. ففي هذه الأبيات نرى أن رغبة الموت في المثنوي حالةُ شوقٍ مثالية. فقدم مثالين اثنين تأكيدًا لهذه الحالة من الشوق: ميلُ الطفل وشوقُه للحليب والرضاع، وحبُّ الغنى عند من يرى الكنز الدفين.

حقيقة الخوف من الموت

“أيتها النفس الخائفة والهاربة من الموت، تنبهي! فالخوف نابع منكِ وفيكِ.. والخوف ليس من صورة الموت، بل من وجهك القبيح! روحكِ شجرةٌ والموت أوراقها.. وما يَنْبت من خير أو شر فمنكِ، وما كان في النفس مرغوبًا عنه أو فيه، فمنكِ وحدكِ يأتي”.
بهذه العبارات، يحاول المثنوي أن يفصح عن حقيقة الخوف من الموت، فيشبهه -أي الموت- بالمرآة. فالموت للأتقياء محبَّب وجميل، وللعاصين مكروه وقبيح. وما يخيف الإنسانَ هو ما يراه في المرآة من قبائحه وسيئاته وليس هو الموت بحدّ ذاته. ولذلك ينبغي علينا -ونحن ندرك حقيقة الموت- أن لا نتعلق بالدنيا، وأن نجعل ختامَنا الذي لا مفرّ منه، حياةً عامرةً بالأعمال الصالحة الحسنة، وأن نستعدّ للحياة الأبدية فلا نُفضي إلى حضْرة المحبوب صِفْرَ اليدَين.
“ستبقى في حالة النَّزْع تُغالِب الموتَ، ولن تنجوَ قبل الموت، فَمُتْ إذًا حتى تفوز بالنجاة. كيف ترتقي سطحًا بسلّمٍ ذي مئة درجةٍ ينقصك فيه درجتان؟! أو تنال الماء من بئرٍ عميقٍ ما لم يبلغْه الحبل ولو كان مئة ذراع؟! فكذلك السفينة لا تغرق ما لم تحْمل حِمْلها الأخير الذي يفوق قدْرتَها! لقد طال النَّزْع لأنكَ ما زلتَ على قيد الحياة! يا شمْعة الظلام! مُتْ عندما يشرق الصباح، ولكن ليس موتًا يودي بك إلى القبر، بل موتًا يسمو بك إلى النور ويوصلك إلى الكمال. ففي موتٍ كهذا ينقلبُ الغمُّ فرحةً وسعادةً، كما لا يبقى للتراب أثرٌ عندما يعود ذهبًا”.

حالة نزع الروح

وهنا نجد أيضًا وجهةَ نظرٍ من زاويةٍ أخرى تؤيد ما سبق من المفاهيم. فحالة نزْعِ الروح ليست الحادثةَ التي يعيشها المرء في سكراتِ الموت، لأن حياة الإنسان كلها، عبارةٌ عن مرحلةٍ طويلةٍ من حالة النَّزْع. فالموت عند مولانا جلال الدين، ليس الحالة التي تتحقق دفعةً واحدةً، ولكنه سلسلة أحداثٍ تنتشر في زمانٍ طويل، وتبدأ هذه السلسلة بمجرد قدومنا إلى الدنيا، أدركنا ذلك أم لم ندرك. وما ذُكِر عن ابن آدم ينطبق على سائر الكائنات، فكل مخلوقٍ يكون مع الموت وجهًا لوجهٍ في كل حين.
فإن كان الأمر كذلك، فما الذي يعنيه موتُ الإنسان عندما يفارقُ الحياة؟! نجد الجواب على هذا السؤال في أوجز تعبيرٍ عند يونس أَمْرَهْ حيث يقول: “إنْ مات، مات الجسدُ، فالأرواح لا تموت”. فإن كان الذي يموت -حسب يونس أمره- هو الأجساد، فليس هناك موتٌ في الحقيقة. وهنا يتبادر هذا السؤال: فلماذا يموت الجسد إذن؟! سؤال يُتوقَّع أن يخطر في بال كل واحد منا. والجواب عليه عند مولانا جلال الدين: “بستانيٌّ كان يُعِدّ حديقتَه للزراعة، ناداه شخصٌ يراه من بعيد: لماذا تخرِّب الأرض يا هذا؟! فأجابه البستاني: بدونه كيف تغدو الأرض حديقةً يا أحمق؟!”.
فالسؤال عبثٌ في أصله، وغريبٌ غرابةَ السؤال عن حراثة الأرض، فكما أنه لا يخاط الثوب من غير قماش يُفصِّله خياط، ولا طحينٌ من غير طحن حبوب القمح، كذلك لا يمكن بلوغ الكمال ما لم يمزَّق لباسُ الروح (البدن). فالذي يمزَّق ويَبْلى إنما هو الجسد، ولكن بتمزيقه تُنال حياةٌ أبدية.
هذه النصوص التي اقتبسناها من المثنوي وحاولنا بيانها، لم تبق في حدود النظريات، فقد طبقها مولانا جلال الدين الرومي على نفسه بالذات. وإذا كان الموت في نظر الناس انقطاعًا عن الدنيا، فإنه “ليلةُ العُرْس” عنده، ولحظة الوصال، ولقاء المحبوب.
نرى إذن، أن مولانا جلال الدين الرومي يؤمن بأن الروح عند قدومها إلى هذه الحياة، وعند تغرُّبها في هذا العالم، تغدو حبيسة الأجساد، حاملةً معها حسَراتها وأشواقها لذلك العالم الذي قدمت منه، ويرى بأن الأبدان ليست سوى مراكب الأرواح، لا تستطيع الخلاص منها إلا بالموت. ويستند في تلك الواردات كلها إلى القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف. كما يبين موقفه من الموت وتصرفه تجاهه، فيرى بأنه ليس شيئًا مستهابًا، بل هو عند العارفين أمر مرغوب فيه. وهذا الموقف من الموت يمنح لمولانا مكانةً متميزةً بين المواقف الأخرى في تاريخ الفكر الإنساني. والموت عند مولانا، عبارة عن الانتقال من حالة الفراق إلى حالة الوصال والاتحاد، وبلوغ الحياة الأبدية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) الترجمة عن التركية: مصطفى حمزة.