الإسلام دين أم إيديولوجيا؟ قراءة في كتاب نادين بيكودو

نحن بصدد نص علمي رصين، تميزت مقاربته بدرجة رفيعة من التماسك المنهجي، والتجرد الموضوعي، والكثافة المعرفية، والحس التاريخي المقارن، والوعي العميق بالسياق. نجحت صاحبته الدكتورة المؤرخة “نادين بيكودو” باقتدار، في نقد وتجاوز الفهم الثقافوي الماهوي للإسلام، وفي بلورة وبناء معمار علمي اعتبره “جون فراسوا بايار” (Jean-François Bayart)، بحق، بمثابة بيان مناهض للاستشراق[1].

وهو كتاب من القطع الكبير (308 صفحة)، صادر عن دار جاليمار، في طبعته الأولى سنة 2010. ينقسم إلى ثلاثة أقسام واثنا عشر فصلا؛ القسم الأول؛ “قول الإسلام”، (Dire L’islam)، والقسم الثاني “الحكم بواسطة الإسلام” (Gouverner par L’islam)، والقسم الثالث؛ “التعبئة باسم الإسلام”، (Mobiliser au non de L’Islam).

لقد سبق لكاتب هذه السطور أن نشر دراسة في أواسط التسعينيات من القرن الماضي في الملحق الأسبوعي للفكر الإسلامي لجريدة “العلم” المغربية، بعنوان: “إشكالية العلاقة بين الديني والإيديولوجي: هل الإسلام أيديولوجيا؟”، وقد أعيد نشرها في مجلة “العالم” اللندنية بعد ذلك.

ورغم أن هذه المقالة كانت محكومة بنزعة سجالية دفاعية عن الإسلام؛ جهد صاحبها على عدم إلصاق صفة الإيديولوجيا بالإسلام، انطلاقا من مقاربة مفهومية مقارنة؛ حاولت أن تجرد الخصائص والتحديدات الكبرى لمفهوم الإيديولوجيا، لتنظر، تبعا لذلك، إلى مدى اتفاقها أو اختلافها مع مفهوم الإسلام. ومن ضمن الحيثيات والدفوع العديدة التي أوردتها لتحقيق هذا المقصد، اضطررت إلى أن أورد عنصرا أساسيا واحدا من عناصر التقاطع بين الإسلام والإيديولوجيا. والذي مفاده أن الإيديولوجيا تحيل إلى جماع الأفكار، والتصورات، والمعايير، والقيم، والمثل التي تعتنقها وتؤمن بها جماعة من الجماعات، أو أمة من الأمم، بحيث تسعفها في تحديد رؤيتها لذاتها، وللواقع الاجتماعي والتاريخي، والحضاري من حولها. وبمقتضى هذا التحديد فإن الإيديولوجيا تغدو بمثابة “رؤية للعالم”، والإسلام، كما هو معلوم، يقدم لمعتنقيه رؤية للعالم.

ومع أن المؤرخة “نادين بيكودو”، لم تكلف نفسها عناء التحديد الإصلاحي والمفاهيمي لكل من الإيديولوجيا، والحداثة[2]، رغم مركزيتهما في بناء أطروحة، أو الأحرى؛ أطروحات كتابها، إلا أنها اعتمدت عمليا، أي تطبيقيا، مفهوما قريبا من المفهوم أعلاه، مضيفة إليه؛ ربط الإيديولوجيا بفكرة المشروع التاريخي الذي تتبناه جماعة من الجماعات، بناء على رؤيتها للعالم، وتسعى جاهدة لتنزيله في خضم التدافع التاريخي.

في مفهوم الإيديولوجيا

لم يبدأ مصطلح الإيديولوجيا بوصفه مصطلحا لصيقا بالاتهام، كما أنه، في الاستعمال المتداول، ينأى بعيدا عن أية مضامين أو تضمينات تفيد معنى التعريض أو الإدانة، فالمصطلح يعادل أو يقابل أية مجموعة مترابطة من المعتقدات المتسقة ذاتيا.

ولعل أول من وظف مفهوم “إيديولوجية” “Ideologie” بمعنى “علم الآراء” هو الفيلسوف الفرنسي ديستوت دو تراسى (ANTOINE Destut de Tracy) الذي كان ينتمي إلى وسط من المثقفين الفرنسيين ذوي النزعة الأنوارية، أي التي ترتبط بدراسة أصول الآراء وطبيعتها وتطورها، ثم استعمله بعد ذلك نابليون – لكن بشحنة قدحية هذه المرة، للحط من شأن هؤلاء المثقفين الأحرار أصدقاء (دو تراسى) أمثال الفيلسوف الحسى كونديلاك (Condillac) والطبيب كابانيس (Cabanis) (1808م) والأخلاقي فولنى (C.Volney)، وقد ارتبط معظم هؤلاء بالثورة الفرنسية، وتأثروا بالتقليد التجريبي في المعرفة، وبفلسفة الأنوار، وبمناهضة الفكر الميتافيزيقي الذي يمثل في نظرهم طفولة الإنسانية، وكانوا مولعين بتقدم العلوم الطبيعية، ومن الداعين لإقامة نظام سياسي تربوي جديد.

لكن، ومع الماركسية، أصبح ينظر إلى الإيديولوجيا انطلاقا من “الإيديولوجيا الألمانية” لماركس، وصولا إلى “الإيديولوجيا وأجهزة الدولة الإيديولوجية” لألتوسير ((Althusser بصفتها؛ الوعي الزائف أو المغلوط الذي يتكون للفعلة الاجتماعيين، تحت تأثير السيطرة الطبقية والنفوذ السياسي للذين يملكون الثروة والسلطة، فيبرر لهم الاندماج في النظام الاجتماعي أو القبول به أو التعايش معه. إنها تعادل الاستلاب، ويكون لها أثر في وعي الناس بحسبان البنية الفوقية ليست مجرد انعكاس للبنية التحتية. فالإيديولوجيا في الخطاب الماركسي مرتبطة بالذات الفردية الفاعلة.

لم يبدأ مصطلح الإيديولوجيا بوصفه مصطلحا لصيقا بالاتهام، كما أنه، في الاستعمال المتداول، ينأى بعيدا عن أية مضامين أو تضمينات تفيد معنى التعريض أو الإدانة، فالمصطلح يعادل أو يقابل أية مجموعة مترابطة من المعتقدات المتسقة ذاتيا.

 

وهو ما جعل ميشال فوكو (Michel Faucault) ينتقد ربط الإيديولوجيا بالذات الفردية الفاعلة والوعي، واعتبر النظر إليها بوصفها وعيا زائفا نظرا مثاليا ذا نزعة إنسانية، مادامت الإيديولوجيا بالنسبة له تنتمي إلى ميدان اللاوعي واللاشعور، أكثر مما تنتمي إلى ميدان الوعي والشعور، فهي مرتبطة ببنيات خارجية بالنسبة للذات والوعي، ومندرجة إنتاجا وتوزيعا في إطار مؤسسات وأجهزة اجتماعية تتولى تعهدها ورعايتها وتوزيعها على الأفراد.

أما مولينو (Molino) فيوجه بدوره نقدا لاذعا للتصور الماركسي للإيديولوجيا الذي يقوم حول مصادرة قوامها أن الرمز انعكاس، وهي المصادرة التي لم يستطع حتى ألتوسير تخطيها. إن الإيديولوجيا ليست محض انعكاس. إنها بلورة وإنشاء، وليست معطى جاهزا مباشرا بسيطا، ومن ثم يجب في نظر السيميولوجيين عموما طرح الإيديولوجيا في سياق تفكير عام حول الرمزي (Le symbolique) والخروج من الدراما الثلاثية: الواقع، العلم، الإيديولوجيا، بمواجهة ما يجمع ويوحد بين العلم والإيديولوجيا وهو طابعهما الرمزي، رغم أن الإيديولوجيا، في بعدها الإبستيمولوجي، تعد نقيض العلم، أو هي ما قبل العلم، كما يؤكد باشلار (Bachelard)، أو العلم في صورته الجنينية قبل أن يحقق قطيعته الإبستيمولوجية، ليصبح خطابا وصفيا، حياديا، كميا.

أما عالم الاجتماع “كارل مانهايم” فينطلق في تحليله للإيديولوجيا من التمييز بين مفهومين؛ مفهوم جزئى وآخر كلي: فالمفهوم الجزئي يشير إلى “ما يغمر قلوبنا من شكوك وريب، وما يعتور نفوسنا من تردد، إزاء الأفكار والتمثلات التي يقدمها خصمنا، حيث نعتبرها تزويرا، تزداد درجة الوعي به أو تقل، أما المفهوم الكلي الذي هو أكثر منه شمولا فيقصد به أيديولوجيا عصر أو جماعة تاريخية معينة، حيث تتجلى لنا مميزات البنية الكلية للفكر في ذلك العصر أو عند تلك الجماعة”.

ولعل أبرز العوائق التي تحول دون تحديد مفهوم جامع مانع، أو على الأقل متماسك وواضح لكلمة أيديولوجيا، هو مدلولها الواسع واستعمالاتها المتنوعة إلى حد التضارب، والالتباس الحاصل بينها وبين الكثير من المصطلحات التي تتصادى مضمونيا معه، فتوهمنا بأنها تحيل إليه، كالذهنية، والعقيدة، والمذهب، والرأي، والفكر، والمنظومة الفكرية، والسياسية، والثقافية، ورؤية العالم، والرؤية الكونية..

فضلا عن تراوح معنى الإيديولوجيا بين الدلالة المجردة الواسعة، التي تكاد ترادف مفهوم الثقافة بالمعنى الأنثروبولوجي الذي يشير إلى كل مظاهر النشاط والإنتاج الفكري والروحي في المجتمع، والمعنى الحصري الضيق، الذي يستعمل في إطار علم الاجتماع السياسي، أو في علم السياسة الذي يحيل إلى “مجموع حالات الشعور والوعي المرتبطة بالعمل السياسي”، أو هو جملة التمثلات المصاحبة للعمل السياسي في مجتمع معين، وهي الهادفة إلى الاستيلاء على السلطة أو الحفاظ عليها، فهي من ثم تشكيلة قولية سجالية وظيفتها تكريس ممارسة السلطة في المجتمع.

وفي هذا الإطار عمل ألتوسير (Althusser) على التمييز بين الإيديولوجيا (المعرفة بأل) والإيديولوجيات الجزئية، فالأولى أقرب ما تكون إلى الثقافة؛ أي الإطار الاعتقادي أو الفكري العام المؤطر للمجتمع، أما الثانية فتعني الإيديواوجيا الطبقية، أو الجزئية العاملة في المجال السياسي والثقافي، فالمفهوم العام للإيديولوجيا بوصفها ثقافة يماثل ما يدعوه “دوركهايم” الوعي الجماعيla collective conscience.

لكن تتبعنا لحصر التعاريف، مهما تعدد، لن يجدينا في شيء بخصوص تكوين مفهوم واضح محدد لمصطلح الإيديولوجيا وما يحيط به من غموض والتباس، وعليه سيكون لزاما علينا الاستعانة ببعض النماذج التنميطية التي تحاول التأليف والجمع بين الاستعمالات والتعاريف المتقاربة، سواء من حيث المعنى أو الهدف أو الوظيفة أو المجال التداولي.

لعل أبرز العوائق التي تحول دون تحديد مفهوم جامع مانع، أو على الأقل متماسك وواضح لكلمة أيديولوجيا، هو مدلولها الواسع واستعمالاتها المتنوعة إلى حد التضارب، والالتباس الحاصل بينها وبين الكثير من المصطلحات التي تتصادى مضمونيا معه

ذلك أن الإيديولوجيا ظاهرة كلية تتصل بمستويات الوجود الاجتماعي كافة: المستوى الاجتماعي، والمستوى السياسي، والمستوى السيكولوجي، والمستوى المنطقي. بحيث إن السوسيولوجي يمكنه أن يكشف عن الوظيفة الإدماجية للإيديولوجيا، وعالم السياسة، بمقدوره أن يحلل الوظائف الأساسية للإيديولوجيا، بوصفها مصدرا للمشروعية وإطارا مرجعيا توجيهيا للعمل السياسي، وعالم النفس يمكنه أن يحلل وظائفها السيكولوجية لدى الفرد، وارتباطها باستعاراته السيكولوجية الخاصة، أما المنطقي فبوسعه أن يحلل آليات التفكير الإيديولوجي في كل هذه المستويات الأساسية..

وفي هذا الإطار لا بأس من الاستئناس بالتمييز الذي أجراه عبد الله العروي في كتابه “مفهوم الإيديولوجيا” بين ثلاثة مجالات يوازيها ثلاثة معان كبرى للمفهوم تبعا لهذه المجالات، ففي مجال الصراع السياسي، تعني الإيديولوجيا كل تفكير خادع أو تضليلي، فالإيديولوجيا هاهنا تتخذ شكل قناع، وفي مجال الاجتماعيات، تحيل الإيديولوجيا إلى حصيلة الأفكار والقيم والمثل والتصورات التي تتبناها جماعة ما، وهي التي تحدد لها رؤيتها للواقع الاجتماعي وللتاريخ، فالإيديولوجيا هنا تعني رؤية كونية، أما في مجال الإبستيمولوجيا أو نظرية المعرفة فليست الإيديولوجيا سوى المعرفة الظاهرية السطحية، في حين أن العلم هو المعرفة الموضوعية العميقة بكنه الأشياء.

لقد تعرضت الإيديولوجيا لحملة عنيفة من النقد الإبستيمولوجي، انطلاقا من التعارض المطلق بينها وبين العلم، والنقد الفلسفي؛ الذي يرى في التفكير الإيديولوجي مجرد تفكير تبسيطي جاهز، ومن ثم فهو أقرب إلى طريقة التفكير الأسطوري حسب “كاسيرر”.

أما “كارل بوبر” فيرجع التفكير الإيديولوجي إلى أفلاطون، ويعتبره تفكيرا لا علاقة له بالواقع، وأنه نوع من الهرطقة التي تحل محل فهم الأحداث.

 

أما منظور “إيسيا برلين” (I. Berlin ( فينطلق من أن نجاح الإيديولوجيا، لا يرجع إلى كونها حقيقة صادقة، ولكن يرجع إلى بساطتها وسذاجتها فحسب، ولهذا تقوم الإيديولوجيا مقام التفكير بالنسبة للجماهير غير الواعية.

وبالنسبة “لهايدغر” (Heidegger) فإن الإيديولوجيا تفكير جاهز تمارسه الجماعة، ويعفي الفرد من عناء التحليل والتساؤل، فالذين ينخرطون في أيديولوجيا معينة بوصفها فكرا جاهزا يشعرون بفخر المعرفة وغبطة امتلاك الحقيقة، ويكتفون بترديد الصيغ الجاهزة[3].

أولا: من أجل مقاربة تاريخية سياقية مركبة للإسلام

تنطلق الأستاذة نادين بيكودو من أن النظر التاريخي يجعل المتابع يشعر كما لو أن التاريخ يعيد نفسه بعد مرور أكثر من قرن؛ بحيث أن الإسلام السياسي الراهن يحيلنا إلى الشبح القديم الذي عبرت عنه بـ (panislamisme) كما سبق أن عبّرت عنه أدبيات “الجامعة الإسلامية” بزعامة الشيخ جمال الدين الأفغاني، وما ارتبط بها من حركة سياسية وفقهية نشيطة لاستعادة الخلافة الإسلامية مباشرة بعد إعلان سقوطها من طرف كمال أتاتورك.

وهو ما أثار مخاوف حقيقية لدى القناصل الأوروبيين نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.حيث أخذت الرهانات الجيوسياسية شكل “مواجهة إيديولوجية وثقافية؛ بين الإسلام والحضارة بالأمس، وبين الإسلام والديمقراطية اليوم[4].”

لتستخلص أن التحليلات، في هذا الإطار، تتراوح بين منظورين؛ المنظور الأول ينطلق من كون الإسلام يمثل المحدد البنيوي للفعالية الاجتماعية، والمحرك الأهم للفعل الجماعي، ومصدر التفسير النهائي للأشياء. أما المنظور الثاني فينطلق من كون الإسلام دين، أهل للاحترام، تم اختطافه واستغلاله من قبل أقلية حركية نشيطة جردته من طبيعته ومغزاه الحقيقيين.

لقد تعرضت الإيديولوجيا لحملة عنيفة من النقد الإبستيمولوجي، انطلاقا من التعارض المطلق بينها وبين العلم، والنقد الفلسفي؛ الذي يرى في التفكير الإيديولوجي مجرد تفكير تبسيطي جاهز، ومن ثم فهو أقرب إلى طريقة التفكير الأسطوري حسب “كاسيرر”.

لا تتردد الكاتبة في الجزم بأن كلا المنظورين يحتاجان إلى نظر؛ منتقدة جعل الإسلام، رغم محوريته في بناء وتشكيل الأمة، العامل التفسيري الوحيد للسلوك الفردي والاجتماعي. داعية إلى النظر إلى المسلمين في سياقهم التاريخي، بواقعية وموضوعية ونسبية، بعيدا عن شتى البداهات واليقينيات والمصادرات والتعميمات والإسقاطات الخاطئة والمغلوطة.

فرغم مبالغتها في الجزم بأن إطلاق الإسلام، بشكل عام ومجرد، لا يكاد يفيد شيئا، إلا أن مقصدها من ذلك أن الإسلام إنما يستمد دلالته الفعلية والمركبة من تَنَزُّله في التاريخ، ومن تَمَثُّل الناس له وتفعيلهم لمنظومة قيمه، ومن السياق الحضاري الموضوعي العام الذي يحدده ويتحدد به.. ولذلك نجدها شديدة الحرص على إبراز الطبيعة التاريخية للإسلام، مؤكدة أن الدلالة التاريخية والحضارية للإسلام في القرن العشرين أو الواحد والعشرين، ليست هي دلالته في القرن السابع أو القرن الرابع عشر الميلادي.

وتكشف الكاتبة، في هذا السياق، أن إلغاء الطبيعة التاريخية للإسلام تغذيها وتتواطأ عليها العديد من المصادر والجهات؛ في مقدمتها الاستشراق الذي يمعن في تجريد ثقافة “الآخر” من أي كينونة موضوعية، وكذا الاستعمار الذي طالما اتخذ من الشعوب المستعمرة وتواريخها، موضوعا للسيطرة.. مع ما يرتبط بذلك من وصم مزدوج للإسلام، بكونه دين حرب، متردد في الفصل بين المجالين؛ الروحي والزمني.

وفي هذا الإطار عادة ما  تحضر المقارنة بين الإسلام والمسيحية؛ وكأن هذه الأخيرة، تؤكد المؤلفة، قد نشأت دينا هامشيا في كنف إمبراطورية قوية، ولم تشارك على امتداد قرون في الحروب الدينية باسم الرب، ولم تسهم بشكل مباشر في إضفاء الشرعية على النظام الإمبراطوري الروماني؟؟

غير أن “نادين بيكودو” توسع دائرة المساءلة؛ لتعتبر أن الخطاب الأصولي للفاعلين في دائرة الإسلام السياسي من خلال إضفائهم طابع القداسة على مرحلة صدر الإسلام، عملوا على تغذية وتعميق هذا النزوع للتفكير في الإسلام خارج أي سياق تاريخي[5]. وفي هذا الإطار تبرز، بالمقابل، كيف أن المقاربات الغربية للإسلام السياسي ترسخ “الأداتية السياسية للديني” (L’instrumentalisation politique du religieux).

بإمكان القارئ المسلم لهذا الكتاب أن يرد بأن الإسلام يعني أشياء كثيرة محددة، ومجمع عليها؛ فهو وحي من عند الله سبحانه وتعالى، وهو عقيدة وشريعة، وهو أحكام، وقيم، وفضائل، وأركان، وهو عدل وإحسان، وصلاة، وزكاة، وصوم، وحج، وأمر بالمعروف، ونهي عن المنكر، وهو إيمان بالله، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقضاء خيره وشره.. وهو حكمة وشريعة، وبرهان وعرفان.. كما أنه إيمان بالقلب وتصديق بالجوارح..

غير أن هذا الرد لا يغير في الأمر شيئا ذي بال، لأن “نادين بيكودو” لا تمانع ولا تعترض على جملة هذه التأكيدات الإيمانية، كما لا تشكك فيها. كل ما هنالك؛ أنها تعطي الأولوية لتاريخية التنزيل وسياقه. فالإسلام، منة وجهة نظرها، يحيل إلى موقف من الحقيقة الإلهية (une attitude à l’ égard du divin)، وإلى نظام، أو نسق ديني  (un système religieux)، وإلى ثقافة تاريخية (culture historique). ومع ذلك، فإن الإسلام يعاني من عبئ “الكليشيهات” المختزلة لحقيقته في المخيال الأوروبي (L’imaginaire européen). فهو رمز للعنف، والغزو والانغلاق..

ومع التسليم بالتمييز السالف الذكر؛ بين الإسلام، في نقائه الأول، باعتباره دينا سماويا متعاليا، وبين التوظيف الإيديولوجي، والاستغلال السياسي له، إلا أن الكاتبة تتساءل عن كيفية، وعن إمكانية عزل مجموعة من اليقينيات والمبادئ، والممارسات، وكذا عزل مركب متكامل من المعارف والتمثلات الراسخة على امتداد السنيين..؟ وعن كيفية رسم حدود واضحة المعالم؛ بين ما يتصل بالدين الخالص (pur)، وما يتصل باستعمالاته الاجتماعية؟  هل يمكننا تصور السجل الرمزي لدين من الأديان خارج وبمعزل عن أية دينامية وأية فاعلية وأية نجاعة اجتماعية؟

لا تتردد المؤلفة لحظة في الجزم بأن أطروحة استغلال السياسي للديني تفترض علاقة تخارجية (relation d’extériorité) بين الحقل الديني والحقل السياسي، بأن هذه الأطروحة ليست أكثر دقة من نقيضتها، التي تفترض وجود جوهر أو ماهية سياسية للإسلام.

وإذا كانت الاستعمالات والتوظيفات الإيديولوجية الراهنة للإسلام تصدم، في واقع الأمر، الوعي الأوروبي المعاصر، فإن تفسير ذلك، من وجهة نظر الكاتبة، يعود إلى صدور حاملي هذا الوعي عن خبرة أوروبية خاصة، وعن حقيقة أوروبية للحداثة السياسية (la vulgate européenne de la modernité politique) تقوم على نزع القداسة عن العالم، وإضفاء الطابع الدنيوي الدهري العلماني على العلاقات السياسية، وهي العلمنة التي تصل إلى حد نقل القداسة من الديني إلى السياسي. وهكذا فإن العلاقات الخاصة بين الدين والسياسة في الإسلام، تبدوا كما لو أنها تتحدى التحليلات الغربية الصادرة عن خلفية علمانية حصرية؛ غير واعية بتعدد واختلاف وتباين السياقات التاريخية والحضارية المحددة لتشكل العلاقة بين مجالي الدين والسياسة[6].

لا ريب أن مقاربة ظواهر التسييس المعاصرة للإسلام من منظور العلوم الاجتماعية، مهما كانت أهميتها، تهدد باختزال الدين إلى استعمالاته الاحتجاجية ضد الأنظمة السياسية القائمة بدعوى عدم مشروعيتها، وضد تفكيك المجتمعات، وضد التحديات المتعددة للمثاقفة، دون أن تفصح عما يمثل قوته، ودون أن تدلل على أن فاعليته تكمن في أنماط تمفصلها مع تقليد ديني و تحولاته.

وما يقلق الكاتبة أن الارتهان إلى التوظيف السياسي للدين، عادة ما يفضي للنظر إلى الديني باعتباره معطى ليس من المهم مساءلته. والحاصل أن هذه المساءلة على درجة بالغة من الأهمية للدين والسياسة معا.

 

تقر الكاتبة بصعوبة وضع تعريف جامع مانع متفق عليه للدين؛ ليس فقط لأن العناصر التي تكون النظام الديني؛ بنصوصه المرجعية، ومعاييره، وتطبيقاته، وبنية خطابه وقيمه، تندرج ضمن سياقات تاريخية مخصوصة، وإنما كذلك لأن هذه العناصر نفسها، سواء في علاقاتها الداخلية الجامعة أو في نمط تقاطعها بمختلف الأبعاد الإنسانية، تعد النتيجة الخاصة بزمن معين.

وبعد أن تؤكد أن الدين، باعتباره فعلا اجتماعيا وثقافيا، يعد قابلا لأن يرد في مجموعه إلى بعده التاريخاني، تشير إلى أن علم الاجتماع الديني  المعاصر، يعتبر أن تحديد ماهية الدين ترتبط، إلى حد كبير، بالحداثة الغربية؛ وتفسير ذلك أن التساؤل عن مفهوم الدين، والبحث عن المعايير التي تحدد ماهيته، يعود إلى التساؤل عن أصول وأسس الحداثة نفسها. ولذلك فإن مسار تطور الحداثة في القرن التاسع عشر هو الذي فتح المسألة الدينية باعتبارها ظاهرة خاصة.

ذلك أن سوسيولوجيا الأديان، ظلت في قلب “المشروع” السوسيولوجي الوليد، كما أن تصورنا للديني يبقى تابعا لإميل دوركايم، على الأقل من خلال مقترحين من مقترحاته: أولهما؛ يتعلق بوجود انشطار بين المقدس والمدنس، وثانيهما؛ تحديده للديني باعتباره أقنوما من أقانيم الحياة الجماعية.

وفي نفس الوقت، فإن الفلسفات التطورية للتاريخ والتحليل النفسي، أدت تارة إلى فرض مقاربات اختزالية للديني، منظورا إليه باعتباره متغيرا تابعا يفتقر إلى أية قوة رمزية، وتارة إلى إعلان الموت المبرمجة للديني من خلال طرح معادلة بسيطة بين الحداثة والدنيوية[7]. وفي كل الحالات، فإن الديني أصبح، على صعيد الثورات المعرفية للعصر الحديث، يمثل بعدا أصيلا من أبعاد الوجود الإنساني.

وفي هذا السياق، نجد الكاتبة تتساءل: كيف يتم، في لحظة معينة، التمفصل الخاص بأبعاد الوجود الإنساني وأنماطه الرمزية؟ وكيف يتحقق الانتقال من نمط للتمفصل إلى آخر؟

ضمن هذا المنظور، طرحت “نادين بيكودو”، فرضية وجود لحظة حديثة للإسلام، على امتدادها حدثت جملة من عمليات إعادة التشكل العميقة، فيما يتصل بكيفية ربط مختلف أبعاد الوجود الديني، والاجتماعي، والسياسي.

مبرزة كيف أن القطيعة الحديثة تطال الأبعاد الاجتماعية، والسياسية، والدينية، بالنظر إلى كونها تمثل وحدة مستقلة للفعل الإنساني، و أداة لفهم الواقع وتفسيره، وفك رموزه. يتعلق الأمر، ضمن هذا المنظور للتاريخ الاجتماعي للأفكار، بتعميق الخطابات الحديثة للإسلام، ووضعها في إطار الشروط التاريخية لإنتاجها. كما يتعلق الأمر، كذلك، بإبراز كيف يعاد تحديد الديني، في أبعاده الرمزية والحركية والدلالية، في تقاطعاته المستحدثة مع الاجتماعي والسياسي.

 

تسعى الأستاذة “نادين بيكودو” من خلال تأملاتها، النظر في منطق التشكلات والتحولات الحديثة للمرجع الديني، وتقترح تسليط بعض الإضاءات الإبستيمولوجية على العناصر التأسيسية والتكوينية للفكر الإسلامي، وبوجه خاص؛ التراث/التقليد، والقانون/الفقه والتشريع والاجتهاد، والأخلاق/الآداب والقيم، في صلتها بالجماعة، سعيا للإمساك بالتحولات والقطائع التي عرفتها، واستخلاص الرهانات المتصلة بها ضمن السياقات التاريخية الخاصة. مستعينة، على ذلك، برؤى كلاسيكية قديمة، وتأويلات وتفسيرات حديثة[8].

كما تسعى إلى اعتماد مقاربة منهجية كفيلة بتحقيق أعلى درجات الوضوح المفاهيمي، والدقة المصطلحية (rigueur terminologique)، من قبيل الحرص، مثلا، على عدم المماهاة بين الإلهي، والديني، والروحي، والكف عن الاستعمالات الساذجة والمحرفة للمفاهيم. وفي هذا الإطار، يكتسي تحليل التعبيرات الراهنة حول الإسلام أولوية لازمة للقضاء على التعميمات المختزلة الشائعة اليوم في الخطاب الغربي حول الإسلام، وكذلك في خطاب الإسلام السياسي نفسه.

إن الفلسفات التطورية للتاريخ والتحليل النفسي، أدت تارة إلى فرض مقاربات اختزالية للديني، منظورا إليه باعتباره متغيرا تابعا يفتقر إلى أية قوة رمزية، وتارة إلى إعلان الموت المبرمجة للديني من خلال طرح معادلة بسيطة بين الحداثة والدنيوية

وهي مقاربة منهجية ترنو إلى أن تكون أركيولوجية، حفرية أكثر من كونها جينيالوجية؛ اشتقاقية، تعاقبية، خطية، أحادية، وبسيطة. ولذلك فإن “نادين بيكودو” تنفي بشدة أن تكون الظواهر السياسية الإسلامية المعاصرة مشتقة، بشكل مباشر وخطي، من أصل قديم، بناء على سببية تاريخية بسيطة. (causalité historique simple). وعيا منها أن التاريخ غير قابل للاختزال بطريقة “دياكرونية”؛ تعاقبية، تنحصر في رصد تطور الوقائع في الزمان، بقدر ما يستدعي مقاربة “سانكرونية” موازية؛ تدرس الأحداث والوقائع التي جرت متزامنة في نفس الوقت، لكن في مجالات وأمكنة مختلفة ومتباينة[9].

خاصة في زمن عولمي شديد السرعة، والتداخل، والتفاعل والتدافع، والتلاقح بين الثقافات، والأفكار والمنظومات، والمعارف، والخبرات، والتجارب.. وهو ما رصدته الكاتبة، بشكل مبكر، من خلال السياق الدولي الذي أسفر عن سقوط الخلافة العثمانية، في مرحلة مابين الحربين العالميتين الأولى والثانية، وما أثاره هذا الحدث التاريخي الكبير من تفاعلات، وتناقضات، وردود أفعال متباينة، على المستوى الرسمي، كما على المستوى الشعبي، على المستوى الفكري، كما على المستوى السياسي والإيديولوجي..

تخلص الكاتبة، إلى أن اللحظة الحديثة التي يعيشها الإسلام، تتحدد بأيلولته إلى أيديولوجيا، بشكل سابق عن كل ما نشهده من تسييس. كما تخلص إلى أن أشكال التعبيرات عن الإسلام السياسي اليوم لا يمكن التفكير فيها بمعزل عن الثورة المعرفية المعاصرة، وبمعزل عن التشكلات والتحولات التي عرفتها المرجعية الإسلامية على امتداد هذه المرحلة[10].

تذكرنا الكاتبة، أنه بينما سعى البعض ليجعل من سقوط جدار برلين مناسبة سانحة لفتح “أفق يوتوبي لنهاية التاريخ”، وسيادة السلام العالمي، وانتصار القيم الإنسانية الخيرة، أمعن البعض الآخر في أن يجعل من حرب الحضارات (La guerre des civilisations) امتدادا للحرب الباردة، وتعميقا للصدام الثقافي على الصعيد الكوني، بناء على نزوعات دينية متنامية.

وفي هذا السياق تنتقد، بشدة، اتهام الإسلام، والنظر إليه كما لو أنه يحمل، دون غيره من الأديان، ويستبطن بذور التشدد، والتطرف، والظلامية، والانغلاق، والنزوع إلى الحرب والعدوان.. كاشفة كيف أدت هيمنة هذا الزعم بالعديد من المحللين إلى الاعتقاد بأن أكبر وأخطر تهديد يواجهه الغرب المعاصر، بعد سقوط المعسكر الشرقي بزعامة الاتحاد السوفياتي، يمثله الإسلام الذي لا يتحرجون من نعته بـ”الفاشية الخضراء” (le nouveau fascisme vert).

إن أكثر ما يقلق الكاتبة من هذا السجال، من وصم الإسلام بالتطرف، والعنف، والظلامية التي حلت محل البربرية التوتاليتارية للقرن العشرين الأوروبي، وهذا الاجتراء على اتهام الإسلام بالفاشية، يكمن في كونه يعيق الفهم، كما يلغي أسس النقاش، خاصة وأن هذه الرؤية الإيديولوجية تجد المجال مناسبا للتجدر في المخيال الأوروبي القديم، الذي يجسد الإسلام، بالنسبة إليه، نموذجا للغيرية الجذرية، التي تعززها الخبرة التاريخية المطبوعة بالحروب الصليبية، والحروب الاستعمارية، وما يتصل بها من سياسات للسيطرة والهيمنة، في تجاهل لكثافة المبادلات وتعقد التفاعلات.

ولذلك نلفي “نادين بيكودو” لا تتردد في الجزم بأن النظر إلى البحر الأبيض المتوسط باعتباره فاصلا وحدا حضاريا، يأتي ليعمق ما عبرت عنه بـ”الانكسار أو التمزق المخيالي” (Fracture imaginaire).

ثانيا: الإسلام وجدلية الحداثة والتراث

تنطلق “بيكودو” من فرضية أساسية مفادها أن إسلام اليوم يعد ابن الحداثة، وفي هذا الإطار تقول:

(Nous faisons ici l’hypothèse que l’islam d’aujourd’hui est fis de la modernité)؛ من منطلق أن هذه الأخيرة قد قلبت العلاقة بين الدنيوي/الأرضي والسماوي رأسا على عقب، وفرضت رؤية جديدة للمصير التاريخي (une vision nouvelle du devenir historique)، وأسهمت في جعل الألوهية محايثة وموضوعية بعدما كانت مفارقة[11].

 

بطبيعة الحال، فالكاتبة لا تقصد الإسلام المتجسد في النصوص التأسيسة كتابا وسنة، وإنما تأويلاته من طرف المسلمين، في سياقات تاريخية محددة، وتفعيلهم له في الواقع الموضوعي. ولذلك فهي تعنى بالإسلام كمعطى موضوعي؛ تاريخي وحضاري يجد تفسيره في سياق التحولات المعاصرة، وما يكتنفها من تحديات وإكراهات وممكنات.. وعيا منها أن كل منظومة نظرية تخضع للتجديدات الناتجة عن عمليات التأويل.

كما انطلقت من أن العقل الإسلامي الحديث، يقوم في جانب منه، على إعادة تحديد للتراث، والقانون، والأخلاق، وهو ما يوازي إعادة تأسيس عصري للخطاب الإسلامي (refondation moderne du discours de L’islam). وفي هذا الإطار نجدها تثير قضايا دقيقة لا تخلوا من جدل وتوثر من قبيل؛ العلاقة بين العقل والنقل، بين السلفية الوهابية والتصوف، بين البرهان والعرفان، بين المعتزلة والأشاعرة، بين الجبرية والقدرية، بين الحكمة والشريعة، بين السياسة والدين.. كما تفصح عن معرفة واسعة بتشكل مصادر التشريع الإسلامي، من الوجهة الفقهية والتاريخية؛ من كتاب وسنة وقياس وإجماع.. وغيرها.

لتبرز بعد ذلك، كيف أن الحداثة الغربية، خلافا للقراءات السجالية المتسرعة، لم تتأسس على أنقاض التراث، وإنما بالبناء عليه. أكثر من ذلك، فخصوصيتها وميزتها، تكمن في قدرتها للعودة النقدية إلى الماضي، وفي قدرتها على إقامة قراءات متعددة ومتواصلة لتراثها. وفي هذا الإطار تتحدد الحداثة باعتبارها انفتاحا للمعنى، وقطيعة مع مبدأ الانغلاق والدوغمائية.

أبعد من ذلك، فإن العودة للمنابع والأصول النصية ضمن تراث ديني تبدو بمثابة موجه للحداثة. وتفسير ذلك، أننا حينما نكون بصدد الظواهر المتصلة بالذاكرة، فإن الحاضر هو الذي يستدعي الماضي تبعا لانشغالاته وأولوياته ومستوى تطوره..

ولذلك، فإن الرهان الأكبر للحداثة الإسلامية، يتمثل في العمل على تحديد، ورصد، واستخراج نواة كونية من خلال ذاكرة الجماعة المستهدية بهدي القرآن والسنة، تعد بمثابة الضامن لملاءمتها وصلاحيتها لعصرنا الراهن..

يتحدد المشروع الإصلاحي من منظور الباحثة بمحورين رئيسين: يتمثل أولهما؛ في إعادة قراءة السنة بما يؤسس للسلطة المتجددة للهدي النبوي في حياة الأمة وواقع الناس، وثانيهما؛ في تأكيد انسجام وتناغم وعقلانية الرسالة الإلهية المنزلة[12]. الأمر الذي يفسر مركزية التوفيق بين الحقيقية الدينية والحقيقة العلمية، بين الدين والعلم وبين الوحي والعقل، في خطاب الإصلاحية الإسلامية.

 

وفي هذا السياق، أبرزت مدى تأثير العلوم الطبيعية على الإصلاحيين، ودور هذا التأثير في إحداث نوع من القطيعة مع التقليد الأشعري. وبمقتضى ذلك أمسى النظام الطبيعي يمثل المجال الحقيقي للقول الإلهي. وهو ما يفسر التنامي المتزايد للتمييز بين الكتاب المسطور والكتاب المنظور. ومع ذلك، وقفت الكاتبة على حدود العقلانية الإصلاحية، ولم تتردد في نعتها بالطبيعة الأداتية؛ حيث لم ترق، من وجهة نظرها، إلى مستوى الصدور عن “رؤية عقلانية للعالم[13].”

وغني عن البيان هنا، أن الباحثة تنتصر لنمط من العقلانية لا صلة له بسياق العقلانية الإسلامية المؤسسة على الوحي، باعتبارها اختيارا. ولذلك فإن نقدها هنا للعقلانية الإصلاحية، حتى يستقيم ويتسم بقدر من الموضوعية، يتعين أن يلتزم بمنطلقات، ومرجعية، ومقاصد هذه العقلانية، وعدم محاكمتها بعدة عقلانية برانية؛ لها منطلقاتها، وأسسها، ومرجعيتها، وسياقها. خاصة وأن الباحثة تتخذ من مسألة الوعي بالسياق شرطا واقفا لكل مقاربة علمية وموضوعية.

ولا شك، أن التزام الباحثة بهذا الوعي سوف يمكنها من استيعاب كيف أن الخطاب الإصلاحي الحديث قد استعاد في المجال الأخلاقي بعض مواقف المعتزلة، دون أن يعرض للعلاقة بين الحرية الإنسانية والإرادة الإلهية، ودون الخوض في الدقائق الثيولوجية التي ميزت الجدالات الكلاسيكية، وكيف أسس على ذلك، القول بأن الحرية مناط التكليف، وأن مسؤولية الإنسان هي التي تؤسس في نهاية المطاف لحريته، انطلاقا من البداهة السيكولوجية للشعور بالحرية، وانطلاقا من أن الخير والشر كامنين في طبيعة الأشياء[14].

لا يعد التراث الإسلامي، من وجهة نظر الكاتبة، متمنعا وعصيا عن التغيير، ما دامت قابليته وانفتاحه على التأويل رحيبة. وفي هذا الإطار عرضت للنقاش الذي أثير حول تأويل الحقيقة الدينية بين “أهل الحديث” و”أهل القرآن”، حيث وقفت على موقف سيد أحمد خان بالهند كنموذج لتوجه في الفكر الإسلامي الحديث، يعتقد ويدعوا إلى الاكتفاء بالمرجعية القرآنية؛ احتراما للمنطق الداخلي للنص القرآني وكفايته الذاتية (L’autosuffisance du coran).

اعتنت الكاتبة، أكثر ما اعتنت، بحضور الإسلام في الحياة الاجتماعية، انطلاقا من الاجتهادات النظرية للإصلاحية الإسلامية. كما اهتمت بما عبرت عنه بـ”الفعل الإلهي في العالم” الذي استوحته من مفهوم “سنة الله” كما تناولتها أدبيات “العروة الوثقى”، وبوجه خاص مع رشيد رضا، الذي عرض لـ”سنة الله”، وللإسلام باعتباره روحية أخلاقية، والتزاما اجتماعيا، بمقتضاه يغدو الإنسان كائنا متدينا، وكائنا اجتماعيا في آن.

إن العودة للمنابع والأصول النصية ضمن تراث ديني تبدو بمثابة موجه للحداثة. وتفسير ذلك، أننا حينما نكون بصدد الظواهر المتصلة بالذاكرة، فإن الحاضر هو الذي يستدعي الماضي تبعا لانشغالاته وأولوياته ومستوى تطوره.

كما دللت على أن الإسلام، خلافا للمسيحية، استوعب البعدين القانوني والأخلاقي؛ من منطلق أن القانون خارجي، له صلة برقابة المجتمع، من خلال مختلف مؤسساته وتنظيماته، والأخلاق داخلية، لها صلة برقابة الضمير، من خلال منظومة القيم الموجهة ذاتيا للإنسان. ومثلما أن مناط التكليف في الإسلام مبني على الحرية والعقل والاختيار، فإن مناط المشاركة في السياسة باعتبارها تدبيرا للشأن العام، والالتزام في القانون الإسلامي، مبني كذلك على الحرية والإرادة والاختيار والتعاقد[15].

وفي هذا السياق أشارت الكاتبة إلى أن الإصلاحيين استمدوا ابستيمولوجية جديدة للقانون انطلاقا من النظرية المقاصدية لأبي إسحاق الشاطبي[16]. أكثر من ذلك، فقد ذهبت الباحثة (Sandra Houot) إلى حد الاستخلاص، بأن الفضل يعود إلى نظرية المقاصد من خلال مفهوم المصلحة في تعزيز انخراط الدين في الحياة الاجتماعية، ورط القانون الإسلامي بالانشغالات والرهانات الاجتماعية[17].

كما وقفت على مركزية الاهتمام بالمسألة التعليمية والتربوية لدى الإصلاحيين، حيث نجد الأفغاني يدعو إلى إشاعة أنوار الفضيلة، من خلال التربية باعتبارها سلوكا اجتماعيا خاصا. كما وقفت على مركزية الاهتمام بمكانة المرأة، وضرورة تحريرها من كل الأغلال كشرط للتحرر الاجتماعي العام، وكشرط لتجاوز واقع التأخر التاريخي. وهو ما عبرت عنه بالانعتاق من خلال التربية. (L’émancipation par l’éducation)، لتخلص إلى أن الخطاب الإصلاحي، مع كل من محمد عبده والأفغاني ورشيد رضا وغيرهم، اعتبر أن الإسلام دين أخلاقي وعقلاني وحضاري[18].

وانسجاما مع ذلك، نجدها تعقد مقارنة دالة بين الإصلاح البروتستانتي ودوره في نجاح مشروع الحداثة الأوروبية، والإصلاح الديني الذي قادته الإصلاحية الإسلامية، وعيا منها أن الإسلام شكل ويشكل أهم إسمنت اجتماعي، وأهم أساس لوحدة الأمة، وأهم أداة للتعبئة والتحفيز على الفعل التاريخي[19].

كما وقفت على أهمية السنة النبوية باعتبارها مصدرا من مصادر المعرفة الإسلامية، وميزت بين كل من التأويل، والتفسير، والتقنين، وكذا بين السنة والبدعة. كما أبرزت دور التشكل التاريخي للعقل السني أو المعرفة السنية من خلال أهل السنة والجماعة في فهم الإصلاحية السلفية الحديثة مع كل من رشيد رضا، ومحمد عبده، وجمال الدين الأفغاني، وشكيب أرسلان، وعبد الرحمان الكواكبي..

كما رصدت دور الزوايا في الدفاع عن الإسلام، مبرزة أن نشأت الزوايا في العالم الإسلامي بدأت نخبوية تم توسع تأثيرها ونفوذها وتأثيرها لتغدو شعبية تطال مختلف الشرائح الاجتماعية، وبوجه خاص في المغرب، وآسيا الوسطى، والهند، ومصر بتأثير قوي من المغرب.

 

كما ذكرت بمختلف الأدوار الروحية التربوية، والاجتماعية، والاقتصادية، والأمنية للزوايا، وكذا دورها التحكيمي، بحيث مثلت الزوايا “شبكات قوية للرقابة والضبط الاجتماعي والسياسي”. وإلى جانب هذه الأبعاد نلمس لدى الحريصين الكاتبة معرفة دقيقة بالبعد الفلسفي والعرفاني للتصوف، حيث نجدها تتحدث عن الفناء، والحلول، ووحدة الشهود، ووحدة الوجود، كما نلفيها تستحضر الحلاج، وابن العربي..

أكثر من ذلك، فقد وقفت على موقف رموز الإصلاحية الإسلامية من التصوف، وأبرزت التأثير القوي للتصوف على محمد ابن عبد الوهاب مؤسس الحركة الوهابية.. كما نجد لديها مطارحات رصينة حول الاجتهاد والتقليد، ومفهوم التوحيد..

أوردت كل ذلك في سبيل الخلوص إلى أن الانعتاق من التقليد شكل رهانا أساسيا من رهانات الخطاب الإصلاحي، وشرطا من الشروط الذاتية للحداثة. ولذلك ما انفك هذا الخطاب ينفي وجود طبقة ملهمة معصومة تملك لوحدها القدرة على الوصول إلى حقيقة التنزيل، مبرزة كذلك، كيف أن الأتباع الحرفيون للمدارس الفقهية لم يعملوا إلا على تحجر الفكر الديني، وتغذية التفرقة بين المسلمين المنغلقين ضمن دوائر اتباعية ضيقة[20].

كما أشارت، على لسان مالكوم كير(Malkom Kerr)، إلى أن الإجماع يتعين النظر إليه بمثابة إجراء لإضفاء المشروعية الذاتية للعلماء، كما أوضحت أن رهان المعركة الإصلاحية يتصل بأنماط انتقال المعرفة الدينية الممأسسة من خلال إصلاح التعليم الديني، وما تعكسه، النقاشات المتلاحقة حول مشروع إصلاح الأزهر، على سبيل المثال، ما بين (1895-1911) سعيا للانتقال به من النموذج التقليدي للمدرسة الدينية، إلى نموذج الجامعة العصرية. لكن في تغاض تام عن التحولات الجديدة التي شهدها التعليم التقليدي في الجامعات العريقة بوجه خاص.

ذلك أن النزعة النقدية للكتاب، والتزامه المنهجي بفترة زمنية محددة للدراسة تمتد من سنة 1860 إلى 1930، جعلت “نادين بيكودو” تغفل عنصر الاستمرارية في نظام التعليم الإسلامي، وبوجه خاص في المؤسسات العلمية الكبرى، كالقرويين، والزيتونة، والأزهر..فمع أن العلاقة المباشرة المشخصة بين الأستاذ والمتعلم تراجعت لمصلحة علاقة نظامية مؤسسية تقوم على توحيد معايير التدريس والامتحان، واعتماد نظام الشواهد، ومع أن حلقات العلم حول سواري المساجد قد تراجعت لتحل محلها تدريجيا حجرات الدرس العصرية، إلا أن هذه الحلقات، وهذا النظام التقليدي للتدريس لا زال قائما في معظم مساجد العالم الإسلامي، لاسيما العتيقة منها.

 

وقد ارتبط بذلك، ظهور نموذج العالم المثقف، الذي يجمع بين التكوين الشرعي والتكوين العلمي الحديث، ومكتسبات الثقافة العصرية. وكذا التمايز بين نظامين للحقيقة؛ نظام العلم الديني، ونظام إجرائي للتبادل والنقاش العمومي. ولذلك فإن إعادة توزيع الحدود بين التخصصات تجد تعبيرها في أشكال التداخل بين؛ المحاضرة، والخطبة، والمقال الصحفي، والمقال النقدي..

غير أن الحركة الإصلاحية لتجديد البرامج والبنيات المؤسسية للمؤسسات التعليمية التقليدية العريقة، وجدت معارضة من قبل العلماء المحافظين، الحريصيين على الدفاع على وضعهم الاجتماعي المهدد بفعل الإصلاح، وهو ما يفسر أن العديد من التنظيمات الجديدة التي اعتمدت في إطار العديد من البرامج الإصلاحية بالأزهر قد تأخر دخولها إلى حيز التنفيذ.

وقفت الكاتبة بوجه خاص، على الدور الإصلاحي الذي نهض به كل من محمد عبده وجمال الدين الأفغاني ورشيد رضا من خلال “العروة الوثقى”، وغيرها من المشاريع والفعاليات الإصلاحية، حيث أسهموا في يقظة الوعي لدى نخبة إسلامية مثقفة، وعملوا على تحديد الأدواء، والاختلالات التي تعاني منها المجتمعات العربية الإسلامية، وصاغوا تصورات وبرامج أيديولوجية للوعي بها في سبيل تجاوزها.

وأوضحت أن ثنائية التقدم والتخلف شكلت الإطار المرجعي الذي غالبا ما تمت تغذيته بفرضيات الازدواجية الثقافية، فرضيات تعالج الديناميات الاجتماعية على ضوء جدلية بسيطة تضع التقليد في مقابل الحداثة، وتتصور هذين المفهومين في نفس الآن باعتبارهما تعبيرا عن وضعية اجتماعية وثقافية قائمة.

ذلك أن التحولات التي شهدها، على وجه الخصوص، الشرق الإسلامي في القرن التاسع عشر، والحداثة المؤسساتية التي عرفتها الإمبراطورية العثمانية في عصر التنظيمات، قد عملت على تغذية خط انشطار وانكسار عميق في قلب المجتمعات العربية الإسلامية بين نظامين قانونيين (الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي)، ونظاميين تعليميين (تقليدي وعصري)، وبين منظومتين مرجعيتين، ورؤيتين للعالم[21].

وقد عبر الفكر الإصلاحي عن إرادة لا تلين لتجاوز حالة الانشطار هاته. منتصرا لمشروع أيديولوجي يدعوا للنهضة والتقدم انطلاقا من الذات، وبناء على مقوماتها وثوابتها. وفي هذا السياق، وبمناسبة افتتاح كلية “دار العلوم” بالقاهرة، ألقى جمال الدين الأفغاني محاضرة انتقد فيها الأوضاع في المجتمعات العربية الإسلامية، ودعا المسلمين إلى عدم الركون إلى النظام التعليمي البالي كسبيل للخروج من الهامشية والعطالة التاريخية[22].

 

مع إصلاحيي القرنين التاسع عشر والعشرين الحضريين اشتد جدل التقليد والاجتهاد؛ كتعبير عن المنافسة لاكتساب مشروعية النطق باسم الإسلام، وقد أعيد طرح هذا الجدل من خلال ثنائيات غير مسبوقة: جمود/تطور، تخلف/تقدم،  نكوص/نهضة وذلك بفعل التفاعل الثقافي مع أوروبا.

تؤكد المؤلفة أن تاريخ العلاقة بين الشرق والغرب لا يمكن اختزاله إلى علاقة أحادية الجانب، ينطلق التأثير فيها من القطب الأوروبي القوي والمهيمن، في اتجاه التلقي من قبل الشرق الساهي والمسترخي. فمع أن اللحظة الحديثة كانت لحظة استعمار؛ لم تكف عن الإلقاء بظلالها وثقلها على مصير المجتمعات العربية الإسلامية في تفاعلهم مع الحضارة الغربية الحديثة، إلا أن “بيكودو” تعتبر أن الأشكال المعقدة للتفاعل الثقافي بين الشرق والغرب، لا يمكن النظر إليها باعتبارها مجرد إطار لإنتاج الخطابات الأحادية والموجهة حول الإسلام، بدليل أن الاستشراق العلمي يندرج ضمن البناء التاريخي للغرب نفسه كرمز للحداثة[23].

إن معيارية النموذج الأوروبي تتحدد بمفهوم الحضارة الذي ظل يمثل الباراديغم المركزي للفكر الغربي، كما تمثل الأسطورة الأولى للحداثة، كما سوف تتحدد، بعد الحرب العالمية الثانية، من خلال مفهوم التنمية، وكما تتحدد حاليا من خلال مفهوم الديمقراطية..

فالحضارة، والتنمية، والديمقراطية، فضلا عن كونها مظاهر متتالية للعقل التاريخي الأوروبي، أمست المقياس الوحيد للتطورات التي سيشهدها العالم. ففكرة الحضارة مدينة، كما هو معلوم، لفكر الأنوار الفرنسي على امتداد القرن الثامن عشر، وتستمد تميزها عن باقي الفعاليات الإنسانية من خلال إعطائها الأسبقية والأولوية لمفهوم المدنية والفعل المدني. كما تجد فكرة الحضارة تميزها في العلاقة الوثيقة التي تقيمها بين الرخاء المادي والنجاعة الأخلاقية[24]. غير أن مفهوم الحضارة سرعان ما بدأ يتراجع إلى ثقافات تعددية بعد أن كان يتم النظر إليه باعتبارها معيارية وأفق للكونية أو العالمية.

حديث الكاتبة عن الحضارة لا يتم بصيغة المفرد فحسب، وإنما بصيغة الجمع كذلك، لدى العديد من الفلاسفة الأخلاقيين والمؤرخين، وحديثها عن الدورة الحضارية كأحد المقومات النظرية لمختلف الإيديولوجيات التغييرية التي عرفها الفكر العربي الإسلامي الحديث، جعلها تقف وقفة خاصة على الخلدونية، ملاحظة حضورها المركزي في سائر الخطابات الإصلاحية والنهضوية الحديثة والمعاصرة.

غير أن الأمر لا يتعلق بإعادة اكتشاف للخلدونية، فالخلدونية، من وجهة نظر الباحثة، ظلت حاضرة في تاريخ الفكر العربي الإسلامي الحديث، وإنما الأمر يتعلق بإعادة قراءة للمقدمة يبررها غناها المعرفي الملفت. وهو الغنى الذي تنبه إليه المستشرقون الذين عملوا على ترجمتها مبكرا بفرنسا سنة 1840، لتطبع، بعد ذلك، في القاهرة سنة 1958 بإيعاز من رفاعة رافع الطهطاوي، متأثرا بالاهتمام الذي حضيت به في أوروبا العالمة[25]. فما يعني الكاتبة، بشكل أساسي، هو مغزى إعادة القراءة التي حضيت بها المقدمة.

من الأفكار التي يتعين التحفظ عليها في هذا الكتاب الهام؛ الإمعان في إقامة مفاضلة معيارية عنصرية بين الإسلام العربي والإسلام العثماني لمصلحة الإسلام العربي. وهي فكرة نجد عرضا وافيا لها في كتابي “ضحى الإسلام” و”ظهر الإسلام” لأحمد أمين؛ حيث نجده يقيم مفاضلة بين الإسلام العربي والتركي والفارسي..كما نجد استعادة لها في كتابات محمد جابر الأنصاري من المعاصرين.

حينما أخلت الدولة السلطانية المكان للدولة الحديثة في معظم العالم الإسلامي، باستثناء المغرب الذي مثل نموذجا لاستمرارية فريدة وغنية، أخذ الإسلام موقعه ضمن ترتيبات جديدة للحكم؛ ففي الوقت الذي اعتبرت فيه الدولة الحديثة أنها الفاعل الرئيسي فيما يتصل بتدبير الشأن العام والخير المشترك، وسعت للارتباط مع جماعة سياسية تستمد منها مشروعيتها، أخذ القانون الإسلامي، حسب الكاتبة، يكتسب معيارية غير مسبوقة؛ بحيث لم يعد مجرد أفق للعدالة، وإنما أمسى يسهم في تحديد السيادة والمشروعية المحايثة لتشكل الدولة الحديثة، من خلال عمليات تأصيل وتأويل وتبيئة منتظمة.

غير أن “نادين بيكودو”، مع ذلك، تسجل أن تزامن اللحظة الحديثة مع اللحظة الكولونيالية، أحدث انزلاقا مزدوجا للفكر الإسلامي الحديث من البارديغم الاجتماعي (paradigme du social)، إلى البارديغم الوطني ( paradigme du national)، ومن العقل الحضاري (La raison civilisatrice) الذي حدد الإسلام بأخلاقية اجتماعية، إلى العقل التاريخي (La raison historique)، الذي نزع إلى تحديده بشخصية ثقافية أصيلة، مهددة دوما بالتزييف والتشويه[26].

وفي إطار هذا التحول من الإصلاح الديني النازع نحو بناء أخلاقي للمجتمع، إلى التعبئة السياسية ضد الخطر الخارجي، تبرز الكاتبة كيف تم اختزال المرجعية الإسلامية إلى مجرد أداة للفعل الجماعي دفاعا عن الذات..علما أنها تتحدث عن الإسلام بصيغة الجمع لا المفرد، ومن خلال تجلياته التاريخية، وليس من خلال حقيقته المعيارية الذاتية (النصية).

من الخلاصات الهامة التي توصلت إليها الكاتبة؛ اعتبارها أن النقد التاريخي للعقل الديني من الصعب تصوره في المجتمعات التي لا تتحكم في مصيرها. كما خلصت إلى أن الظواهر المعاصرة لتسييس الإسلام تطرح بعمق مسألة الدولة وضعف تجدرها؛ بحيث لم تنجح في فرض نفسها كمرجعية تحوز على مشروعية عليا للجماعة، وتعبر عن  تعاقد جماعي.

كما اعتبرت أن أدلجة الدين، أو إضفاء الطابع الإيديولوجي عليه في المجتمعات العربية الإسلامية، لا يعود إلى التوترات والتشنجات الهوياتية، وإنما يرجع إلى التفاوتات والاختلالات البنيوية التي طالت التطور التاريخي لهذه المجتمعات[27].

إن الحركة الإصلاحية لتجديد البرامج والبنيات المؤسسية للمؤسسات التعليمية التقليدية العريقة، وجدت معارضة من قبل العلماء المحافظين، الحريصيين على الدفاع على وضعهم الاجتماعي المهدد بفعل الإصلاح

ثالثا: الأمة والدولة وسلطة الجماعة

في الفصل الموسوم “التحول العثماني: بين الدولة الإمبراطورية والدولة الحديثة”، نجد لدى الكاتبة إلماما عميقا ومستوعبا لإشكالية السلطة، وقضايا الدولة، والاجتماع السياسي الإسلامي على مستوى التوجهات النظرية، كما على مستوى التجسيدات التنظيمية، والقانونية، والمؤسسية. كما نجد لديها استيعابا مقارنا لأهم أدبيات السياسة الشرعية، والفقه السياسي الإسلامي، والآداب السلطانية.

سوف لن نستغرق في إيراد الأفكار الفرعية، ونسعى، بدلا من ذلك، للوقوف على القضايا الكبرى التي أثارتها. فبعد أن خاضت في المحددات النظرية والتاريخية التي حكمت العلاقة بين الدين والسياسة في التجربة التاريخية الإسلامية، خلصت إلى أن هذه التجربة قد أفضت إلى فشل مشروع ابن المقفع ونجاح مشروع الفقهاء.

لكن مع تسليمها للفقهاء بهذا النجاح، أبرزت كيف أنه بمجرد ما طرحت مسألة ضرورة تنصيب الخليفة باعتبارها واجبا شرعيا، شرع الفقهاء في التفكير في المعايير والشروط الواجب توافرها لاختيار الخليفة؛ فركزوا على فضائل الخليفة، بدل التركيز على آلية وإجراءات انتقال الحكم وطريقة اختيار الخليفة..كما شددوا على ضرورة احترام حقوق الله التي تتحدد بالمصالح الجماعية للأمة..

ترصد الكاتبة التلازم التاريخي العميق بين مختلف أنماط الاجتماع السياسي الإسلامي من جهة، والشريعة الإسلامية من جهة أخرى، مبرزة اتساع دائرة الاجتهاد، والأخذ بالمصالح المرسلة في تدبير الشأن العام للأمة. مؤكدة أن الشريعة باعتبارها منظومة معيارية موجهة وحاكمة لتدبير الشأن العام للجماعة، تكمن في أصل الفعل السياسي، في سعيه لتحقيق المصلحة العامة والمشتركة.

وخلافا للقراءات الاستشراقية المتحيّزة، ذهبت إلى أن التحديث القانوني والمؤسسي الذي عرفته الدولة العثمانية لا يعود إلى التأثيرات الغربية فحسب، وإنما إلى طبيعة التحولات التاريخية الذاتية للمجتمع الإسلامي، ولطبيعة الشريعة التي غالبا ما اتسم تطبيقها بالمرونة، والمقاصدية، والتدرج، ومراعاة أعراف مختلف مكونات الإمبراطورية العثمانية الممتدة. فضلا عن توافر مصادر متعددة للقانون إلى جانب الشريعة؛ من قبيل العرف، والقانون السلطاني..كما أن المحاكم الشرعية كانت تنظر في كافة القضايا؛ المدنية، والتجارية، والعقارية، وتلك المتصلة بالأسرة[28].

 

رغم محاولة الحد من دور الفقهاء في مجال العدالة، والتعليم، ومراقبة وتدبير شؤون الأوقاف، إلا أنهم ظلوا يعبرون عن وضعية قائمة على إنتاج و إعادة إنتاج المعرفة الدينية. وبغض النظر عن بعض النزوعات التي عملت على تكريس التعارض بين المحاكم الشرعية، والمحاكم النظامية العصرية، إلا أن الكاتبة أوضحت أن العلماء كانوا حاضرين في كلا النظامين من المحاكم[29].

فالأمر لم يكن يتعلق باستبعاد العلماء، وإنما باستيعاب الإسلام لمنطق العصر، من خلال العمل على مأسسة الديني (institutionnaliser le religieux). ولذلك، فإن التنظيمات الجديدة التي تم تجريبها في عصر الإصلاحات عملت، بشكل عام، على دمج العلماء في مختلف بنيات الدولة، ولم تعمل على تهميشهم. غير أن هذا التوجه بعيد المدى لم يطل جميع هيئة العلماء، ولم يحل دون حدوث استقطاب داخلي بين أنصار الإصلاح ومعارضيه[30].

ومثلما وقفت على رواد الفكر الإصلاحي، استحضرت الكاتبة جهود الليبراليين المسلمين الذين اعتبروا أن الحقوق الفردية هبة إلهية. ونظرا لعدم تمثل الكاتبة لمحورية قيمة العدالة، ومفهوم الجماعة، فقد آخذت على الليبراليين المسلمين تفكيرهم في المجتمع أكثر من الأفراد، وتفكيرهم في الحريات بشكل وظيفي دون أن يكونوا ليبراليين بالمعنى الفلسفي.

لكن مع ذلك، أقرت لهم بدورهم في تطوير مفهوم البيعة، وارتقائهم بها من مجرد مبايعة عرفية إلى اتفاق قانوني يكرس سيادة الأمة. وكذا خلوصهم إلى أن القانون الطبيعي ليس شيئا آخر غير العدالة الإلهية كما حدد أسسها القرآن المجيد[31].

لم يمنع الباحثة انتماؤها من التأكيد أن الاستعمار الفرنسي عمل على تكريس التمييز في الوضعيات القانونية والحقوقية بين الجماعات، في الوقت الذي عملت فيه الدولة العثمانية على إلغائها. غير أنها اعتبرت، مع ذلك، أن اعتماد الدولة العثمانية لدستور حديث جاء استجابة للضغوط الأوروبية، وملجأ يحميها من الاختراقات الأجنبية، ومظهر من مظاهر الحداثة، وأداة لازمة من شأن اعتمادها ضمان دخول الدولة العثمانية إلى نادي الأمم المتمدنة، والوسيلة الأنجع لتجدد الإمبراطورية وانبعاثها. خاصة وأن المذكرات المصاحبة للوثيقة الدستورية تؤكد أن المؤسسات الجديدة مدعوة لكي تؤسس وترسي، إلى الأبد، سيادة الحرية، والعدالة، والمساواة كشرط لتحقق الحضارة.

كما أن الرهان الأساسي لإقرار الدستور العثماني لسنة 1876، لا يكمن في الاعتراف بالحقوق الفردية، وإنما يكمن في العمل على الإدماج الكلي لغير المسلمين في المؤسسات الوطنية، وقطع الطريق على كل الصيغ التفضيلية التي كان يكرسها نظام الحماية للقوى الأوروبية، وبوجه خاص للأقليات.

 

في فصل موح يحمل عنوان: “من الدولة المسلمة إلى الدولة الإسلامية؟”، تُنبئُنا الكاتبة أن ما كان يحدث في ظل الإمبراطورية العثمانية المتأخرة يتمثل في تبلور هوية سياسية حديثة مترسخة في المرجعية الإسلامية. حيث كانت الدولة العثمانية، إلى ذلك الحين، “دولة مسلمة” بالمعنى التقليدي للكلمة؛ أي دولة تقودها وتتزعمها أسرة مسلمة، تعتمد رسميا سياسة تتوافق وتلتزم بالشريعة، دون أن يمنعها ذلك من اجتراح ممارسات يمليها داعي المصلحة العامة العليا أكثر من المعيارية الإسلامية[32].

فالإسلام الذي يندرج ضمن مكونات هوية الدولة العثمانية، يتحدد، لدى الكاتبة، بإحالته إلى مجموع المرجعيات الثقافية المشتركة التي تساهم في تحقيق الخير المشترك، دون أن يمثل، مع ذلك، بعدها الحاسم أو المحدد. لقد كان الإسلام يمثل رمز سيادة الإمبراطورية العثمانية دون أن يتم اختزاله إلى محض رؤية إيديولوجية.

غير أن الكاتبة تكشف أن اللحظة الحميدية جاءت حاملة لشكل غير مسبوق من أدلجة الإسلام، وهذا التحول هو ما يسعى تمييزها بين “دولة مسلمة”، و”دولة إسلامية” إلى تفسيره. وعلى خلاف الدولة السلطانية، تتجدر الدولة الحديثة في جماعة سياسية تستمد منها سلطتها الشرعية. حيث تم الانتقال من السياسة باعتبارها وظيفة تختص بها جماعة لها وضعية خاصة، إلى السياسة باعتبارها واجبا ومسؤولية عمومية.

وهكذا حصل توسع للسلطة العمومية، وحصل انزياح مواز من البيعة إلى التمثيل. وقد ترتب عن فكرة التمثيل نوع من التطابق بين الدولة والمجتمع، وهو ما مثل التحدي الأكبر للإمبراطورية العثمانية. كما بدأ الإسلام باعتباره “دينا للدولة” يحل محل الإسلام باعتباره دينا للأمة، حيث جرى استعمال مصطلحي دين ووطنية في الوثائق الرسمية بطريقة تبادلية.

وهنا ترصد “نادين بيكودو” مفارقة واضحة: فبينما تتحدد الرابطة الوطنية كشكل من أشكال الدنيوية (sécularisation) للعلاقات الاجتماعية، وكتحول من أخوة بين المتدينين إلى تضامن بين المواطنين، وهو ما يحيل إلى مفهوم الأمة؛ جماعة المؤمنين، باعتبارها وحدة مجردة متعدية للتاريخ ومعيارية، تكتسب بشكل تدريجي طبيعتها التاريخية، وتعيد تحديد نفسها باعتبارها “جماعة سياسية” ذات وجود عيني[33]. مع اعتراف الكاتبة بالدور الذي لعبه كتاب عبد الرحمان الكواكبي “طبائع الاستبداد” في تأكيد حرية، وسلطة الجماعة، إلا أنها اتهمته بانتحاله عن الكاتب الإيطالي  (Piémontais Vittore Alfieri) الذي ألفه حولي 1777م.

 

تزعم الباحثة أن تردد المعجم الإصلاحي بين الأمة، والشعب، والجماعة يشير إلى هجانة في الثقافة السياسية، كما يكشف رهان العلماء الإصلاحيين على استعادة مكانتهم في الإسهام في تدبير شؤون الجماعة، من خلال عملهم على أسلمة مبادئ الحداثة السياسية، وتخليصها من شبهة التغريب.

والواقع أن هذا الزعم ينبع من عدم تمكن “نادين بيكودو” من استيعاب عنصر الاستمرارية في تاريخ المجتمعات العربية والإسلامية الراهنة، وإن بدرجات متفاوتة، على مستوى البنيات التنظيمية والمؤسسية، وعلى مستوى منظومة المفاهيم والقيم، وهذه الاستمرارية هي التي تجعل المسلم المعاصر يستوعب الأمة في دلالتها السياسية، كما حددتها صحيفة المدينة، باعتبارها أول وثيقة دستورية للدولة في الإسلام، وبين الأمة في بعدها العقائدي، أي أمة المسلمين، وبين الجماعة أو الجماعات المشكلة للأمة الجامعة، سواء بشكل فعلي كما حصل تاريخيا، أو على مستوى الوعي الرمزي والشعوري بالانتماء إلى أمة إسلامية واحدة، رغم تعدد جماعاتها وشعوبها على شكل أوطان ودول.

كما أن ما عبرت عنه الباحثة بأسلمة قيم ومبادئ الحداثة، لا يعبر عن أية رهانات شخصية أو فئوية تهم العلماء كشريحة اجتماعية لها مصالح في إطار النظام القائم، وإنما يعبر عن رد فعل تاريخي وحضاري طبيعي لدى سائر الشعوب والأمم المعتزة بثقافتها وتراثها وقيمها، والمجبرة، في نفس الوقت، على تجديد نظمها وأطرها الاجتماعية، وسائر منظوماتها العلمية والإنتاجية، تحث سطوة النموذج الحضاري السائد[34].

وفي هذا الإطار أوضحت الكاتبة كيف أعاد رشيد رضا وغيره من الإصلاحيين التفكير في الخلافة من خلال الفعالية التشريعية أو الاشتراعية؛ فالاشتراع يقتضي، من وجهة نظر محمد عبده، وضع القوانين والتشريعات التي تحتاجها الحكومة من أجل احترام العدالة، وحماية البلاد، وضمان مصالح الأمة، والحد من انتشار الشرور والمفاسد..

وهذه القوانين تتغير تبعا لتغير الزمان والمكان، والحالة الدينية والزمنية للشعوب. فأية حكومة متحضرة لا يمكن أن توجد بمعزل عن وجود منظومة تشريعية، كما لا يمكن لأية أمة أن تسير في ركب التقدم بدون حكومة ترتكز على جملة من القوانين العادلة المعبّرة عن تجربتها؛ بحيث أن لكل أمة المنظومة القانونية والتشريعية التي تناسب شخصيتها التاريخية والحضارية.

ففي الوقت الذي عانت فيه الخلافة التاريخية من أزمة عميقة، انطرحت مسألة الخلافة كطوبى لسلطة إسلامية مثالية. وقد كشفت الكاتبة كيف أن سقوط الخلافة العثمانية قد أثارت التنازع حول الخلافة بين مصر والحجاز. كما أثارت جدلا فقهيا وسياسيا محتدما حول طبيعة الخلافة وأساسها الديني، وعن شروط استعادتها في صيغة منظمة عصرية تضمن تعددية وسيادة الدول الوطنية في كنف وحدة الأمة..

ومن هنا انبثقت الفكرة الجنينية لمنظمة المؤتمر الإسلامي، من طرف الفقيه القانوني عبد الرزاق السنهوري في أطروحته الجامعية بفرنسا حول “فقه الخلافة وتطورها لتصبح عصبة أمم شرقية” كرد على أطروحة علي عبد الرازق الذي أتى على الخلافة من أساسها. وبمقتضى هذه الأطروحة فإن “الخلافة” عند السنهوري لا تحيل إلى دولة بعينها، ولا إلى نظام حكم معين، وإنما تحيل إلى مبدأ وحدة الأمة واستقلالها وتحررها من السيطرة الأجنبية التي فرضة واقع التجزئة على العالم العربي الإسلامي[35].

تعتبر الكاتبة أن ثنائية دار الحرب ودار الإسلام، غريبة عن منظومة القيم القرآنية باعتباره رسالة موجهة للعالمين، وهي مشتقة من التقاطب الذي يقيمه القرآن الكريم بين المؤمنين والكافرين. فنحن إذن بصدد ثنائية سياسية اشتقت من ثنائية دينية.

تخبرنا الكاتبة أن علماء فاس في فتاويهم للأمير عبد القادر الجزائري اعتبروا أن الردة لا تكمن في إنكار الدين، وإنما في خيانة الجماعة والتواطؤ مع العدو[36]..  كما أبرزت كيف أن الدعم المغربي للجزائر في مواجهة الاستعمار الفرنسي، تنزيلا لمبدأ الجهاد والنصرة والموالاة، أسفر عن مواجهة عسكرية مباشرة مع فرنسا، أدت إلى هزيمة الجيش المغربي في معركة إيسلي.. كما أبرزت السلطة المرجعية التي كان يمثلها المغرب بالنسبة للجزائريين خاصة في المنطقة الغربية، من خلال عقد البيعة، ومن خلال فتاوى علماء فاس[37] التي لم يكف عبد القادر الجزائري عن طلبها.

على سبيل الختم

بالإمكان أن نخلص، إلى أننا بصدد مؤلف يحوز على قيمة مرجعية تاريخية؛ معرفية، وسوسيولوجية لا غبار عليها. وبصدد كاتبة تحوز على معرفة وثيقة بالتاريخ الفكري والسياسي والاجتماعي العربي الإسلامي، وهي معرفة سلحتها بوعي تاريخي بالتغييرات العميقة في منطق الإصلاح على مستوى المفهوم، والرؤية، والمنهاج.. غير أن مبالغتها في المقاربة التاريخية السياقية، قد تعتم على الحقيقة الجوهرية والذاتية/الداخلية للإسلام كما تمثلها المرجعية القرآنية.

المصدر: موقع مجلة إحياء

الهوامش

[1]. Jean-François Bayart, Lecture critique du livre” :L’islam entre religion et idéologie..” de Nadine Picaudou, revue: Sociétés Politique Comparées, N: 27, Septembre, 2010.

[2] .  تميز الأدبيات الفكرية المعاصرة بوضوح متزايد بين الحداثة والتحديث؛ من منطلق أن ما عرفته المجتمعات العربية منذ صدمة الحداثة واحتكاك العرب بالغرب سواء بفعل الحملة الفرنسية، أو الظاهرة الاستعمارية، لا يعدو أن يكون عمليات تحديث شكلية لم تمس جوهر وعمق الحداثة. فبينما يحيل مفهوم الحداثة إلى التمييز بين حقبتين مختلفتين من مراحل الحضارة الإنسانية، أو قل بين نمطين متباينين من التنظيم والتفكير الإنساني؛ تباينا يصل إلى درجة القطيعة التاريخية في النظم المجتمعية، فإن مفهوم التحديث يشير إلى مجموعة العمليات التاريخية التي تنهض بها جماعات وفئات وسلطات متعددة، في سياقات تاريخية مختلفة، ولأهداف ومقاصد مختلفة، وتحث ضغط مصالح متناقضة أحيانا.

وبينما تحيل الحداثة إلى مرحلة تاريخية يجري تميزها عن سابقاتها، فإن التحديث يحيل إلى سياسات وممارسات طبقت من قبل فئات اجتماعية، وإلى استراتيجيات خاصة للوصول إلى الحداثة كما تمثلتها هذه الفئات. وهي استراتيجيات تترجم المصالح المتباينة للجماعات التي بلورتها وطبقتها. وبشكل عام، فكل تحديث يعبر عن محاولة لاستيعاب المكتسبات التقنية، والعلمية، والإدارية الجديدة. كما أن استراتيجيات التحديث لا تفهم ولا ينبغي أن تفهم إلا من حيث هي استخدام الحداثة ومنجزاتها من قبل فئات اجتماعية، واستثمارها من أجل تحقيق مصالحها الخاصة.. ولذلك إذا كانت الحداثة مرتبطة بالتاريخ فالتحديث مرتبط بالسياسات المجتمعية. ومع ذلك، فالتحديث يمثل أصل كل حداثة، وهو ليس مفهوما سلبيا بالضرورة. لكن مع ذلك فعلى أهمية عملية التحديث، إلا أنها لا تؤدي بالضرورة إلى خلق مجتمع حديث يخضع في أنماط إنتاجه وتنظيمه وتفكيره لقواعد ومنطق النظام الحديث أو الحداثة.

 

[3] . عبد السلام طويل، “البعد الإيديولوجي للعولمة”، ضمن كتاب: “رؤية الشباب العربي للعولمة”، تحرير د. نيفين مسعد، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، القاهرة: معهد البحوث والدراسات العربية، ط1، 2000، ص21-25.

[4]. Nadine Picaudou, L’islam entre religion et idéologie.Essai sur la modernité musulmane, Paris, Gallimard, 2010, P: 11.”une prétendue confrontation idéologique et culturelle, entre islam et civilisation hier, entre islam et démocratie aujourd’hui”

[5]. Ipid, P: 13.

[6]. Ipid.

[7]. Ipid, P: 15.

[8]. Ipid, P: 16.

[9]. Ipid, P: 17.

[10]. Ipid, P: 19-18.

[11]. Ipid, P: 23.

[12]. Ipid,P: 75-74.

[13]. Ipid,P: 81-80.(La raison des réformistes n’est ni la raison comme Logos posant la rationalité du réel et son adéquation avec un discours cohérent et universellement valide, ni même la raison comme ratio, comme faculté de comprendre et d’ordonner, si l’on entend par là un moyen autonome d’accéder à l’intelligibilité du réel hors du secours de la révélation. Ainsi, le discours moderne de l’islam se réclame t-il d’une raison instrumentale, sans adhérer à une vision rationaliste du monde.)

 

[14]. Ipid, P: 82-81.

[15]. Ipid, P:89-88.

[16]. Ipid, P: 94.

[17]. Sandra Houot, Nadine Picaudou, L’islam entre religion et idéologie.Essai sur la modernité musulmane, Archives de science sociales des religions(En ligne), Octobere-Décembre, 2010. http ://assr.revues.org/ 22514.

[18]. Nadine Picaudou, L’islam entre religion et idéologie.Essai sur la modernité musulmane, op.cit, P: 104.

[19]. Ipid, P: 221-220.

[20]. Ipid,P: 54.

[21].  لأخذ فكرة وافية عن محددات وأبعاد ومخاطر هذا الانشطار من المفيد الرجوع إلى: طارق البشري، الوضع القانوني المعاصر بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي، القاهرة: دار الشروق، 1996.

[22]. Nadine Picaudou, L’islam entre religion et idéologie.Essai sur la modernité musulmane, op.cit, P: 58.

[23]. Ipid, P: 60.

[24]. Ipid,P: 62.

[25]. Ipid,P: 64.

[26]. Ipid,P: 253.

[27]. Ipid,P: 255-254.

[28]. Ipid, P: 124.

[29]. Ipid, P:129-128.

[30]. Ipid, P: 131-130.

[31]. Ipid, P: 133-132.

[32]. Ipid, P: 151.

[33]. Ipid, P: 152-154.

[34].  في هذا السياق تحضر بقوة المقولة الخلدونية القاضية بولع المغلوب بتقليد الغالب حضاريا..

[35]. عبد الرزاق السنهوري، “فقه الخلافة وتطورها لتصبح عصبة أمم شرقية”، ترجمة، نادية عبد الرزاق السنهوري، مراجعة وتقديم، توفيق محمد، الشاوي، القاهرة: الهيئة المصرية للكتاب، 1993، ص14.

[36]. Nadine Picaudou, L’islam entre religion et idéologie.Essai sur la modernité musulmane, op.cit, P: 217-216.

[37]. Ipid, P: 200-201.