ابن زهر.. الطبيب الإكلينكي ورائد علم الأورام

هو أبو مروان عبد الملك بن أبي العلاء بن زُهر، ولد بـ”أشبيلية” في زمن تقدره دائرة المعارف الإسلامية بأنه بين عامي (484-487هـ). تلقى علوم الأدب والفقه والشريعة وبلغ فيها منزلة عالية، ثم علمه أبوه الطب، ولم يمر وقت طويل حتى بز أستاذه في الطب وفاقه في كثير من مسائله الدقيقة. ثم ساعدت ميوله العلمية على النبوغ السريع في الطب، فكان أمهر أطباء أسرة زُهر، ومن نُطُس أطباء العرب، وكان أيضًا أديبًا وشاعرًا. وقد خدم الخليفة الموحدي عبد المؤمن بن علي، ونال الحظوة لديه وألف له كتابًا عن “الأغذية”، كما ألف كتبًا أخرى أهمها كتاب “التيسير في المداواة والتدبير” الذي أهداه إلى صديقه وتلميذه ابن رشد، وقد تمت ترجمته إلى اللاتينية عام 1280م، وتتجلى في هذا الكتاب شخصية ابن زهر بشكل واضح.

كانت له تجارب مبتكرة في إعداد الأدوية ومعالجة المرضى. بدأ حياته العلمية بخدمة المرابطين كما كان أبوه من قبل، وبعد انتهاء عهد المرابطين التحق بخدمة الموحدين. كان ابن رشد الفيلسوف الأندلسي حينئذ، يحتل مركزًا ساميًا في العلوم والفلسفة، فتعرف بالطبيب الناشئ، وقامت بينهما صلة قوية توطدت عُراها على مر الأيام… وكان ابن رشد يقدّر أبا مروان بن زهر، ويقدر نبوغه وعبقريته في صناعة الطب، ولا يفتأ يتحدث عنه في المحافل العامة، ونقل عنه أنه قال فيه: “إنه أعظم الأطباء منذ عهد جالينوس”.

كانت وظيفة ابن زهر كمدير للمستشفى، قد أتاحت له فرصة العثور على كثير من جثث الموتى لتشريحها، وقد تمكن من فصل طب العيون عن الطب العام في هذا الوقت المبكر. كان يجري كثيرًا من الجراحات الهامة، إلا أنه كان يأنف من إجراء عمليات الفصد، واستخراج الحصى من المثانة (Talla)، ومع ذلك فقد قام بكثير من العمليات الهامة والناجحة.

ومن ثم يتبيّن لنا تلك التقاليد العلمية التي سادت بعض الأسر النبيلة في الحضارة العربية الإسلامية؛ هؤلاء الذين ثبت عندهم أن يتعلم الأبناء على الآباء والأجداد… وكما سلكت الأجيال السابقة هذا المسلك، نراه هو الآخر يتعلم عن أبيه الصناعة بشقيها النظري والعملي. وبعد طول الممارسة، وصل الحفيد بصواب الرأي وحسن المعالجة وجودة التدبير، تلك التي تميز بها نتيجة اهتمامه بالتجربة في إثبات صحة الدواء وفعالية المعالجة.

وليس أدل على كثرة دربته (تجربته) من أنه أعاد تركيب دواء مركب كان والده قد ركبه للملك، وأمر الوالد بصحة تركيبه… ومثل هذه الحالة تدلنا على الجانب النقدي لدى أطباء بني زهر، وأن التلميذ لا ينبغي أن يكون نسخة طبق الأصل من الأستاذ حتى ولو كان والده، إذ لو تمسك التلاميذ بكل ما لدى الأساتذة، لما تقدمت العلوم وتطورت. ولذلك يقول الباحث “خالد حربي” في مقال له عن أسرة بني زهر الطبية: “وقد قادني البحث إلى الوقوف على جانب هام من جوانب فكره، وهو ممارسته للعمل العلمي الجماعي. فلقد استطاع ذلك الحفيد أن يكوّن جماعة علمية ممتازة ومتعاونة ضمت إلى جانبه أخته وبنت أخته… فكما تعلم هو على أبيه وأسلافه، تعلم ابنه أبو محمد عليه، فأوقفه على كثير من أسرار الصناعة وعملها، من خلال القراءة النظرية لأمهات الكتب الطبية إلى جانب الممارسة العملية”.

مؤلفات ابن زهر

جميع مؤلفات ابن زهر تقع في مجال العلوم الطبية، وأسلوب بن زهر في كتاباته أسلوب علمي تعليمي من الدرجة الأولى، وهو ثري بمصطلحاته العلمية المتميزة المختارة بدقة بالغة، والتي تدل على سعة الاطلاع وعمق الخبرة العلمية، وهو أسلوب محبب لأنه مرصع ببعض الطرائف الشائقة، والتعليقات الظريفة التي يسوقها بن زهر من واقع خبراته الشخصية وذكرياته في مهنة الطب.

وعلى الرغم من أنه وضع كتبًا كثيرة في الطب، إلا أنه لم يشتهر منها إلا كتابان؛ كتاب “الاقتصاد وإصلاح الأنفس والأجساد”، وقد شجعه على تأليفه -كما يرى- الأمير إبراهيم بن يوسف. والثاني كتاب”التيسير في المداواة والتدبير”، وقد وضعه بإشارة من صديقه ابن رشد الفيلسوف المشهور. وكان أبو مروان يؤمن بنظرية الأمزجة التي وضعها جالينوس من الناحية النظرية، ولكنه من الناحية العملية كان يؤمن إيمانًا قويًّا بالتجربة وأثرها؛ إذ كان يرى أن التجربة خير مرشد. وله في هذا الكتاب ابتكارات طبية تقوم على التجارب الصحيحة والملاحظات الدقيقة… وبذلك أضاف إلى علوم الطب ثروة علمية جديدة.

وقد كان لابن زهر مؤلفات أخرى مهمة، إلا أنها لم تشتهر مثل هذين الكتابين، وهي كتاب “الترياق السبعيني” ومختصره، وكتاب “الأغذية”، ورسالة كتب فيها إلى بعض الأطباء بأشبيلية في علمي “البرص” و”البهق”، ومقال في “علل الكلى”. وله أيضًا كتاب “التذكرة” وضعه لولده في معالجة الأمراض، وفيه نصائح تتصل بالأحوال الجوية وصلتها بالأمراض المألوفة في مدينة مراكش وملاحظات شخصية تستحق الذكر، منها قوله: “إن أحسن علاج للحمى في الأعضاء هي غمس المحموم في الماء البارد”. وقد انتقد بشدة تهافت الأطباء على استعمال المسهلات وبيّن أضرارها، فإنما هي سموم يجب تجنّبها. وله أيضًا كتاب “التعليق في الطب”؛ وهو كتاب في الإرشادات الطبية، ومخطوطه محفوظ في مكتبة “تشستربتي” بمدينة “دبلن” عاصمة “إيرلندا”.

ابن زهر وكتاب التيسير

أما أهم كتب ابن زهر وأشهرها هو “التيسير في المداواة والتدبير”، ألفه لصديقه الفيلسوف ابن رشد صاحب كتاب “الكليات في الطب” ليكون الكتابان متممين أحدهما للآخر. وقد ذكر ابن زهر نفسه أنه مأمور في تأليفه (على ما يوضحه الجغرافي والمؤرخ التركي “حاجي خليفة” في كتابه “كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون”). ويرى المؤرخون أن هذا الكتاب قد اشتهر شهرة كبيرة، فـ”المقري” في “نفح الطيب” مثلاً يقول: “وأما كتب الطب، فالمشهور بأيدي الناس الآن في المغرب، وقد سار أيضًا في المشرق لنبله كتاب “التيسير” لعبد الملك بن مروان العلاء بن زهر”. وقد ترجم هذا الكتاب إلى اللاتينية بعنوان “Theisir”.

والكتاب يتألف من ثلاثة أقسام، في كل قسم عدد من الرسائل، تختص كل رسالة منها بعدد من الأمراض. ويميل ابن زهر في هذا الكتاب إلى الاقتصاد والوضوح؛ عالج فيه مختلف الأمراض الباطنية والجلدية بالإضافة إلى الجراحة. فقد بحث فيه قروح الرأس وأمراضه وما يعرض له من الخراجات، وأمراض الأذنين والأنف والفم والشفاه والأسنان والعيون، وأمراض الرقبة والرئة والقلب والنقرس، والحميات والأمراض الوبائية.

ووصف فضلاً عن ذلك، خراج الحيزوم وصفًا دقيقًا لأنه كان مصابًا به، كما وصف التهاب غشاء القلب وفرّق بينه وبين التهاب الرئة، وناقش فيه كتاب “القانون” لابن سينا، والكتاب “الملكي” أو كما يسمى أيضًا كتاب”كامل الصناعة” للمجوسي، واتهمهما بالإطالة. كما كان له اهتمام كبير ببيان فضل التغذية الصناعية، وشرح طريقتها بدقة ومهارة فائقة سواء أكانت بطريق الحلقوم أم بطريق الشرج.

ولا شك أن تأليف ابن زهر مثل هذا الكتاب في ذلك العصر، عمل أصيل دعاه إلى إنجازه ابن رشد. ويذكر ابن زهر في مقدمة الكتاب، أنه ما أقدم على تأليفه إلا بسبب نقص الكتب الطبية وإلحاح الإخوان عليه في تأليفه. وقارئ هذا الكتاب يعجب باستقلال صاحبه بآرائه وبجرأته على نقد الخاطئ من آراء المتقدمين السابقين، وهو فضلاً عن ذلك، كتاب عامر بالملاحظات الشخصية والأفكار الخاصة والنصائح الطبية الثمينة. وقد ألحق ابن زهر بهذا الكتاب مقالة أطلق عليها اسم “الجامع في الأشربة والمعجونات”، وهي عبارة عن مجموعة من وصفات الأدوية والعقاقير والترياقات، وطرق تركيبها ووجوه استعمالها. ويلاحظ أن وضع العلاج في متناول غير المتخصصين أمر معروف في تلك العصور، كما أن وصفات الأدوية المركبة التي أثبتها المؤلف تزيد على الخمسين، وفيها بيان تحضير الأشربة والمراهم والمعاجين. ويعدّ ابن زهر بسبب هذا الكتاب أعظم أطباء الأندلس.

إنجازات ابن زهر الطبية

نجح ابن زهر في علاج “شلل البلعوم” (Pharyngoplegia) بثلاث طرق مختلفة أخذ بها الأطباء من بعده، ومنها تغذية المصاب صناعيًّا بأنبوب من الفضة ينقل الغذاء من البلعوم إلى المعدة.

كان ابن زهر من أوائل الأطباء الذين وصفوا خراج الحيزوم، والتهاب التامور (التهاب غشاء القلب) اليابس والانسكابي، وميز بينه وبين “التهاب غشاء الرئة” (Plura).

تصدى باقتدار وبُعد نظر، لدراسة الأمراض النفسية، واعتبرها حاصلة عن عوامل عديدة منها الصدمات المتوالية التي يتعرض لها الإنسان وصحة الجسم. ونصح بحسن معاملة المريض وإعطائه العقاقير المهدئة، وإسماعه الموسيقى، ونصح -كذلك- الطبيبَ المعالج بمعرفة حالة مريضه، لأن ذلك يساعد على الشفاء.

كان رائدًا في مجال التخدير، إذ كان يخدر مرضاه بطريقة الاستنشاق بالإسفنج المنوّم؛ وهو إسفنج طبيعي يغمر في مزيج من المواد المنوّمة والمواد العطرية كالأفيون والسيكران والزوان والشيلم، ثم يجفف ويحفظ، وعند الاستعمال يبلل بالماء فيصبح مشبعًا بالمحلول المخدر، ويستخدم في التخدير بوضعه على أنف وفم المريض أثناء الجراحة.

اتخذ ابن زهر موقفًا حازمًا ضد استخدام المسهلات، وهاجم تهافت الأطباء على استعمالها قائلاً: “ما سقيت مسهلا قط كدواء إلا واشتغل بالي قبله بأيام وبعده بأيام، فإنما هي المسهلات سموم”. وأوصى الأطباء بالتلطف في أدويتهم ومراقبة تأثير الدواء مدة ثلاثة أيام، فإذا أفاد أمكنهم زيادة الجرعة.

وصف ابن زهر طفيل الجرب (وهو في حقيقة الأمر نوع من مفصليات الأرجل) الصغيرة الشبيهة بالعناكب، والتي تسمى “الحلم” (Mites)، وقد أشار إليه باسم “قمل الجرب”. لكن تبين أن الطبيب “علي بن ربن الطبري” قد سبقه إلى وصف ذلك الطفيل في القرن العاشر الميلادي.

وتعرض ابن زهر في حياته العملية الطبية لجراحات المخ والقلب والكبد والمعدة والصدر، وكتب عنها في مؤلفاته.

لابن زهر إنجازات رائدة باهرة في مجال أمراض الحلق والحنجرة، إذ نجده في كتابه “التيسير” يشرح كيف يمكن تشخيص الكثير من هذه الأمراض، بطرق بسيطة مبتكرة تعتمد على مقدرة الطبيب وقوة ملاحظته وفرط إحساسه. وهذه تعتمد على الفحص بالعينين المجردتين، وتحسس الحلق والحنجرة والأحبال الصوتية بالأصابع، ورصد أية تغيرات تطرأ على ملمس هذه الأعضاء، وعلى تكوين سطحها وعلى كيفية حركة أجزائها. وفي كتاب “التيسير” أيضًا، نجد ابن زهر يشرح كيف يمكن بالنظر واللمس بالأصابع، تشخيص الكثير من الأمراض التي تصيب هذه الأعضاء، بما في ذلك الأمراض النادرة الحدوث، مثل الأورام الحميدة أو الخبيثة وشلل الأحبال الصوتية.

لقد كانت معالجات ابن زهر مختارة، وتدل على قوته في صناعة الطب، وله نوادر في تشخيص الأمراض، ومعرفة آلام المرضى دون أن يسألهم عن أوجاعهم، إذ كان يقتصر أحيانًا على فحص أحداق عيونهم، أو على جس نبضهم، أو على النظر إلى قواريرهم (قناني البول).

وتدل آثاره التي وصلت إلينا، على أنه كان جيد الاستقصاء في الأدوية المفردة والمركبة، حسَن المعالجة، له ابتكارات -استحدثها هو- لم يصل إليها أحد في الإسلام أو قبل الإسلام. إنه طبيب إكلينكي، يعتمد على الملاحظات السريرية، ومعرفة أعراض المرض، واستقصاء أسبابه وعلله من أجل علاج الأسباب، لتختفي الأعراض. ولذلك فقد توصل بفضل قياساته الطبية والتجريبية الشخصية إلى الكشف عن أمراض جديدة لم تدرس من قبل. فقد اهتم بالأمراض الرئوية، وأجرى عملية القصبة المؤدية إلى الرئة، وتمكن هو بعد ذلك من تشريح القصبة في مرض الذبحة، واستعمل أنبوبة مجوفة من القصدير لتغذية المصابين بعسر البلع، واستعمل الحقن المغذية، واكتشف طفيلية الجرب وسماها “صؤابة”، كما بسّط طرق العلاج القديمة، وأوضح أن الطبيعة تكفي وحدها في الغالب لعلاج الأوجاع والأورام (الاعتماد على مناعة الجسم الطبيعية). وقد توصل إلى دراسات وتشخيصات سريرية (إكلينكية) لأول مرة لمرض السرطان والأورام الخبيثة. وهو لذلك أول من أشار بالوصف الدقيق إلى الورم الذي يحدث في الصدر، وفي الغشاء الذي يقسم الصدر بالطول، ويسمى حديثًا بـ”التهاب المنصف”.

وقد عالج ابن زهر “الخثر” وهو جرب العين عند العرب، والرمد الحبيبي حديثًا، بواسطة الجراحة بشق شريان الخثر. وقد نادى بالطب الوقائي في مقدمة كتابه “التيسير في المداواة والتدبير”، حيث قدم أكثر من عشرين نصيحة تتعلق بحفظ الصحة، وقال إنها تهدف إلى “إدامة أسباب الصحة ودفع أسباب الأسقام”. وهو أول من وصف التهاب غشاء القلب الرطب والناشف، وفرّق بينه وبين أمراض الرئة.

ولابن زهر كلمات طبية رائعة مثل قوله: “الخبرة وحدها هي المرشد، ومحك الممارسة المعقولة لتبرئة ساحة الأطباء أو إدانتهم يوم القيامة”، وقوله: “ليس صحيحًا تفوق بعض الأعضاء على بعض، ولا تفوق القلب والمخ على ما عداهما، إنما الكل في ارتباط وانسجام تام”، وقوله: “وأنبل الحواس العين”.

ومن هنا لا يكون غريبًا أن نجد المستشرقة الألمانية “زيغريد هونكة” في كتابها “شمس العرب تسطع على الغرب” أن تقول: “إن الطبيب الإشبيلي ابن زهر، المتحدر من عائلة عريقة في الطب تمتد فروعها حتى تصل إلى جذورها العربية الأصيلة، قد وضع كتابه “التيسير في المداواة والتدبير” وهو موسوعة طبية يظهر فيها تضلع ابن زهر من الطب وموهبته فيه.

لقد أضاف ابن زهر كثيرًا من الاكتشافات العلمية، وأتقن كثيرًا من الممارسات الطبية العملية التي جعلت من صاحبها أشهر وأكبر أعلام الطب العربي والإسلامي في الأندلس، وعملت على تطور وتقدم علم الطب في العصور اللاحقة حتى وصلت إلى الغرب الذي عرفه باسم (Avenzoar).