أسرار التحنيط بين وادي الموت.. ووادي الملوك

في اكتشاف أثري مثير بمنطقة “وادي الموت” في تنزانيا بأفريقيا، عثرت بعثة الآثار الفرنسية المتخصصة أثناء تنقيبها عن الآثار في تلك المنطقة على ما يشبه قبرًا يضم رفات عائلات بأكملها، بلغ عدد أفرادها ستون شخصًا، ويبدو أنهم ماتوا نتيجة تفشي وباء ما. أو كانوا ضحايا مجزرة أو حرب بين قبيلتهم وقبيلة أخرى، ويعكف العلماء الفرنسيون – حيث تم نقل تلك المومياوات إلى أحد المعاهد الفرنسية المتخصصة عــلى فحص أسباب الوفاة بالأشعة السينية، والكشف عن الظروف التي عاشوها في ذلك العصـــر الذي يعود على نحو مائة عام قبل الميلاد، وبالتالي التوصل إلى المستوى المعيشي الذي ســـــاد تلك الفترة، وقد أثبتت الاكتشافات أن غرفة قبر المومياوات تشبه في هيكلها قبر الملك “تـــوت عنخ آمون” أحد ملوك مصر القديمة… فهل وصلت الحضارة المصرية القديمة إلى أعماق القارة الأفريقية؟

حقًّا إنها تجربة مثيرة أن تجد نفسك فجأة داخل كهف في أعماق الأرض.. وفي مواجهة مع مجموعة من الموتى بلا أكفان، مضى على رحيلهم عن عالمنا أكثر من ألفي عام خلت من عمر هذا الزمان! لكن أجسادهم مازالت كما هي لم تتحلل. حتى أن الشعر فوق رؤوسهم لم يتساقط ولم يمح.

ليس هذا سيناريو لفيلم من أفلام الرعب، لكنه حقيقة ثابتة تم الكشف عنها في تنزانيا، وقد أثبت الاكتشاف أن معظم المومياوات كانت لنساء توفين في سن متقدمة. لذا فإنه في هذا الملف التاريخي هناك شيء علينا قراءته بتمعن، لنقف وجهًا لوجه أمام تلك المومياوات لهؤلاء النسوة والأطفال، حيث وجد أن أصحابها كانوا جميعهم من منطقة الساحل، وعلى ما يبدو أنهم كانوا أقل حظًّا من الآخرين أي قدماء المصريين في تلك الحقبة من الزمن، حيث لم تعثر البعثة الأثرية المكتشفة إلا على بعض القطع الذهبية المتواضعة، أي على العكس من أثرياء تلك الفترة.

تقول باحثة الآثار ” جيني لويس ” من المتحف الوطني التاريخي في باريس:” أن الحقائق ليست كما أوردها لنا المؤرخون والأثريون عن تلك الفترة أو الحقبة من الزمن، بل تكمن في هذه المومياوات المكتشفة في ” وادي الموت “، بينما يقول ” روجر برج ” مسؤول الفريق العلمي:” لقد كان هدفنا أن نحصل على الصورة الكاملة من تلك الحياة، وكشف النقاب عنها وعن أسلوب المعيشة قبل عشرين قرنًا من الزمان. وهل كان للحضارة المصرية القديمة آنذاك تواصل وانتشار في بقاع أخرى غير مصر أم لا؟

مازالت الحضارة المصرية القديمة وتاريخ ملوكها محط اهتمام العالم، وما زال كثير من علمـــاء المصريات في العالم يسعـون -جاهدين- لكشف طلاسم وألغاز هذه الحضارة على وجه العموم، ويحتل الفرعون الصغير”الملك توت عنخ آمون” النصيب الأكبر من هذا الاهتمام، لما يحمله تاريخه من غموض، ومن علامات استفهام كثيرة مازالت تنتظر الإجابة عنها.

وقد دلتنا بعض البرديات على أسرار تتعلق بهذا الملك الغامض، والبرديات هي نبات مقدس مثل زهرة اللوتس لدى المصريين القدماء وكان البردي يرمز إلى مصر العليا، ممثلة في الأقصـــــــــر وأسوان، واللوتس يرمز إلى مصر السفلى ممثلة في الدلتا فماذا نعرف عن تلك البرديات وأسرارها، وقيمتها عنـــــــد المصريين القدماء، وكيف كان يُصَنـع ورق البردي في العصور القديمة وكيف كان يتم تلوينه كما يريدون؟

وإذا كان التحنيـــط هو جوهر الحضارة المصرية القديمة فهو مرتبط بفكرة الحياة بعد الوفاة “البعث” ووجود المومياء في المعبد يعـد استمرارًا للحياة، ومن أجلها بنيت الأهرامات، ولا يوجد متحف في العالم كله اليوم لا يضم الأثاث الجنائزي المصاحب للمومياء وقد تنبه العالم إلى هذا الفهم، خاصة بعــــــد اكتشاف مومياء الفرعون الذهبي، الملك الشـاب “توت عنخ آمون”.

البردي النبات المعجزة

إذا كان التحنيط هو من أهم عناصر الحضارة المصرية القديمة، فإن نبات البردي وأسراره وقيمته المقدسة عند القدماء كانت من الرموز الدينية الهامة، فالبرديات هي نباتات مكونة من ساق طويلة متشعبة ورقيقة جدًّا تسمى نهايتها بالشعيرات، وبتعرض هذه الشعيرات للشمس أو الضوء نراها تشبه كثيرًا أشعة الشمس، وفي عصور الفراعنة كان المصريين يعبدون الإله “رع” إله الشمس.

والغريب أننا إذا قمنا بعمل مقطع أفقي في جذع نبات البردي فإنه يبدو في شكل هرمي أو مثلث، وهو رمز الإله “رع”، فقد كانوا يعتقدون أنه يرسل أشعة الشمس في شكل هرمي أو مثلث، وهذا يوضح تفسير اختيارهم لهذا الشكل في بناء الأهرامات. أما الجذع نفسه، فإنه طويل وسميك من أسفل ويصعد تدريجيًّا في سمك أقل حتى يصل إلى أرفع سمك له ثم تتفرع أوراقه إلى فرعين، تمامًا مثل النيل، فكل ورقتين متفرعتين يمثلان شكل دلتا النيل. والجزء المستخدم في صناعة ورق البردي هو الجذع فقط، وبالتحديد الجزء الداخلي فقط، حيث يتم ذلك بعد نزع القشرة الخارجية للجذع التي تتميز بأنها قوية جدًّا.

لذا كان قدماء المصريين يستخدمونها في صنع الحبال والسلال وحتى صنع الأحذية والصنادل التي كانوا يرتدونها في ذلك الوقت، ويتم قطع الجذع حسب الورقة المطلوبة وبعد ذلك يقطع الجزء الأبيض منه في شكل شرائح رقيقة جدًّا، وهو في هذا الوضع يصبح سهل الكسر، وبالتالي فإنه في هذه الحالة لا يصلح لتصنيع الورقة لأن نسبة الرطوبة فيه عالية جدًّا، وللتغلب على هذه المشكلة كان القدماء يستخدمون شاكوشًا خشبيًّا للدق عليه للتخلص من الماء والرطوبة من هذه الشريحة. أما الآن فتستخدم آلة تسمى ” النشابة ” بدلاً من الشاكوش لإخراج الماء والرطوبة من الشريحة.

بعد ذلك، كانت الشرائح توضع في الماء لمدة ستة أيام، لكي تقل نسبة الجلوكوز من الشريحة، من 90% إلى 10 % ويتم تغيير الماء كل يوم لكي يساعد على تقليل نسبة الجلوكوز أو بالأحرى تخفيف نسبة تركيزه. وبعد مضي ستة أيام تخرج الشرائح من الماء فيتم تحضير شريحتين كمرشح (فلتر) مبطنتين بقطعة قماش قطنية، وتوضع الشرائح كلها في وضع أفقي، كل أول شريحة على نهاية الأخرى، ويتم نفس الوضع رأسيًّا، أي لا توضع الشرائح متداخلة مع بعضها، لأن ذلك يجعل عملية الكتابة على الورقة صعبة للغاية. بعد هذا الوضع توضع الشريحتان مع بعضها تحت “مكبس” حديد بقوة كبس عالية ج جدًّا.

هذا بالطبع ما يتم القيام به في العصر الحديث، أما عند القدماء فكانوا يضعون الشرائح تحت حجر الجرانيت، ويستمر الأمر على هذا المنوال لمدة ستة أيام أخرى مع تغيير الشريحتين القماش كل خمس ساعات بصفة مستمرة لكي تمتصا نسبة الرطوبة تمامًا إلى أن تصل درجتها إلى نسبة صفر % فهذا يساعد على إطالة عمر الورقة، ثم بعد ذلك تخرج الورقة مصنعة وجاهزة للكتابة عليها.

وعن أوراق البردي هناك أشياء عديدة طريفة قد لا يعرفها الكثيرون منها:

– أن من أعاد اكتشاف عملية تصنيع ورقة البردي كما كان المصريون القدماء يستخدمونها هو الدكتور حسن رجب عام 1976، الذي أنشا معهده المعروف في القاهرة وقريته الشهيرة “قرية ومعهد حسن رجب لأوراق البردي”.

– أول لوحة عند قدماء المصريين استخدمت فيها الألوان هي لوحة “أوزات ميدوم” وهي عبارة عن ستة أوزات، ثلاثة منها ينظرن إلى اليمين وثلاثة ينظرن إلى اليسار، وهو ما يرمز إلى مصر العليا ومصر السفلى.

الألوان التي كان القدماء يستخدمونها عبارة عن الأبيض والأسود والأخضر والأزرق، والأصفر، والبني والأحمر. فكان اللون الأبيض يؤخذ من الحجر الجيري، والأسود من فحم الكوك، والأخضر والأزرق من أملاح كربونات النحاس، والأصفر والأحمر والبني من مادة حجرية تسمى “الأوكر” وكل الألوان كان يستخدم فيها “بياض” أو “زلال” البيض، الذي يساعد على عملية تثبيت الألوان، لكن الآن تستعمل أشياء مشابهة لهذه العملية. ويبقى البردي والتحنيط صنوان من مقدسات وأسرار إعجاز الحضارة المصرية القديمة.

التحنيط.. بين القديم والجديد

كان التحنيط دومًا أساس عقيدة البعث عند قدماء المصريين، لذلك فإن الحضارة المصرية القديمة مركزها هو “المومياء” التي حفرت من أجلها المقابر وشيدت من أجلها الأهرامات، وهي ناتج العقيدة المصرية التي كانت تمارس شعائرها في المعابد، ولا شك أن التقدم العلمي المذهل في علم الكيمياء كان من أهم ثماره اكتشاف التحنيط وأدواته والألوان الزاهية الثابتة إلى يومنا هذا، وكانت تستخدم في تلوين نقوش التوابيت التي كانت تحفظ بداخلها المومياوات الفرعونية، وقد قام “الفريد لوكاس” باكتشاف جانب كبير من أسرار التحنيط، ثم جاء د. زكي اسكندر، ليستكمل هذه البحوث، ويعلن أسراره الرئيسية.

ورغم الأهمية القصوى للمومياوات، لم نجد -ويا للأسف- أدنى اهتمام من أي باحث بها، وكان لا بد من حفظ ما تم الكشف عنه في بيئة علمية حقيقية، واستكمال البحوث الخاصة بذلك، لذا تم إنشاء متحف التحنيط بالأقصر الذي يحتوي على هذه المعلومات والمواد والأدوات والطقوس والرموز المصاحبة له والتي تم الكشف عن بعض المواد الأخرى المرتبطة به بعد نظرية د. زكي اسكندر.

ورغم أن التحنيط عند قدماء المصريين ما زال سرًّا غامضًا، غير أنه تم اكتشاف معظم الخطوات الرئيسة في عمليات التحنيط التي اختلفت من عصر إلى عصر، حيث وصلت أفضل صور التحنيط في الدولة الفرعونية الحديثة، وقد استمر التحنيط حتى العصر اليوناني والقبطي ثم اقتصر التحنيط على بعض القديسين وبعد ذلك توقف نهائيًّا.

وفي عام 1993 أجريت محاولات في كلية الطب بجامعة ميرلاند بولاية فلوريدا الأمريكية لوضع برنامج تحنيط مومياء بشرية، وتم نجاح تحنيطها وما زالت بحالة جيدة، كما يقول أحد الرموز العالمية في مجال التحنيط عند قدماء المصريين، الدكتور نصري اسكندر، الذي جذبه علم تحنيط المومياوات، فعلى مدى 30 عامًا أو يزيد، عاش من أجل كشف أسرار المومياوات.

إنه ساحر المومياوات، والخبير الأول المتخصص في مجال المومياوات في العالم، الذي قام بإعداد غرف المومياوات بالمتحف المصري، والعرض المتحفي بمتحف النوبة والتحنيط بأسوان والأقصر. وشارك في برنامج تحنيط مومياء بشرية بكلية طب جامعة ميرلاند الأمريكية، واستعانت به دول العالم في فحص المومياوات المصرية بها وعلاجها، منها أسبانيا، والبرازيل، والدنمارك، والهند، كما حصل على جائزة رولكس الدولية للتميز في النشر العلمي، وله عشرات الأبحاث والدراسات في مجال المومياوات والتحنيط.