في جنح الليل.. الناس نيام.. والصمت مخيِّم على كل مكان، لا صوت سوى صوت نفْسٍ متسائلة.. صوت يستدعي العقل ويعتصره ليخرج من مخزونه إجابة سؤال مُلِحّ لا يظهر إلا في لحظة الخلاء والتأمل والتدبر؛ هو “من أنا؟”.
النفس: أرجوك يا عقلي أجبني، من أنا؟ كل الكون يسير حولي بدقة فائقة وتناغم عجيب، ولا يشعر بالتيه غيري (أنا)؟
عقلي: لست وحدك أيتها النفس، بل كذلك “الإنسان”.
أنا: نعم نعم، أنا سأقوم بدور الإنسان وأتحدث بلسان كثير من الناس؛ أنا أعمل وأتكاسل، أحب وأكره، أخطئ وأصيب.. تلومني نفسي فأسمع لها أحيانًا وأُسكِت صوتها أحيانًا أخرى.. فهي تؤذيني، لكنها للأمانة تذكرني وتصارحني بـ”ألست من أصحاب المبادئ؟”.
أنا: نعم، ولكن تعوقني بعض مبادئي للوصول لما أريد، فأرجوك لا تلوميني يا نفسي.. ألم أفعل الخير وأعطف على الفقراء؟ ألم أرفض أكل الطعام غير الحلال؟ ألم أحافظ على صلواتي؟ ألم أتعب وأكدّ في عملي؟
نفسي: حسبك، لا تزكي حالك! فعلتِ الخير ولكن تباهيت أمام الآخرين بذلك؟ رفضتِ أكل الطعام غير الحلال ولكنك قمت بالغش في المنتجات التي تبيعينها للناس! صلّيتِ كثيرًا ولكن كنت مشغولة دائمًا في أمور الدنيا! وكان مظهرك أفضل من جوهرك.
أنا: كفى كفى.. فهمت ما تودين قوله. أما تعلمين أني مزيج من خير وشر.. كتلة من التناقضات تسير على الأرض.. إذ أرفض الظلم لنفسي وأوقعه على الآخرين.. أدفع أموالاً كثيرة من أجل الرفاهية وأدفع القليل لفقير محتاج! لا أحب أن يجرحني أحد أو يحرجني لكن قد أتسبب في ضيق للآخرين.. أكره النفاق لكني أستدعيه أحيانًا تحت مظلة المجاملة.
أنا: يا نفسي لقد وضعتني في مأزق.. كنت حادة وجادة.. تصارحيني بما لا أحب.. لهذا تكره نفوسنا نحن البشر مثل هذه الجلسات بدعوى أننا لا نحب جلد ذواتنا، وأننا ضحية لأكل العيش ولا بد من بعض التنازلات والتناقضات لأجل مستقبل أفضل.
أنا: الحقيقة أننا لا نحب اللوم والمعاتبة حتى لو لم تكن مسموعة للآخرين، حتى لو كانت نابعة من ضميرك الحي الناصح الأمين، الذي لا يفضحك على الملأ، لكن سرعان ما نَفْصل بطاريات هذا الضمير حتى يسكت ويكف عن اللوم.. ولكي لا نطيل، نهرب ونقدّم المبررات ونرتاح أو هكذا نبدو، بل والأسوء، السماع للنفس الأمارة بالسوء، فهي لا تلوم ولا تصارح لكنها تبرر وتبدو أكثر مرونة فلا تُعقِّد الأمور وتسير على أهوائنا.
أنا: المهم أن الحديث مع نفسي -وإن لم يكن بالشفاه- جعلني أتعب، لكن يبدو أني سأستمر في هذا الحوار لساعات أخرى.. يبدو أن خلوتي بنفسي وسط هذا الهدوء، سيحتم عليّ التفكير والمحاسبة بل والمكاشفة.. ماذا عندك؟ أراك تتأهبين لسؤالي.
نفسي: أنت أجبت عن سؤال “من أنا؟” باعتبارك عضوًا في أسرة وفي مجتمع، لكن هذا ليس كل شيء.. فمن أنت في هذا الكون الفسيح؟
أنا: كنت أهرب من تقويم نفسي بنفسي.. تقويم نفسي في دائرة صغيرة، لأفاجأ بسؤال فلسفي عميق..أنا والكون؟
هذا الكون، لست فيه وحدي، بل تشاركني فيه الطبيعة. فأستظل بسماء عالية، أسير على أرض راسية، عليها جبال راسخة، حولي بحار وأنهار، يتعاقب عليّ الليل والنهار، أتمتع بالمناظر الخلابة، أنعم بأكل النباتات والحيونات.
إنني فعلاً مرفهة منعمة؛ فالطبيعة كلها مسخّرة لخدمتي وراحتي، لكن لماذا أظل حائرة؟ لماذا تزيد من حولي الأمراض والسكتات الدماغية والقلبية؟ لماذا تكثر الصراعات من حولي؟
نفسي تقاطعني: لا تزكي نفسك، فأنت طرف من أطراف الصراع.
أنا: حسنا لن أنسى.. نحن (البشر) مَن ندخل في صراعات لا تنتهي، ونبرر لأنفسنا أننا ضحايا لقمة العيش.. لكن إذا كان الأمر كذلك، أليست الحيوانات التي يحكمها قانون الغابة أفضل حالاً مني؟ وتنعم بالصفاء أكثر مني؟
نفسي: رغم نعمة العقل التي كرَّمك الله بها، تعتقدين أن الحيوان أفضل من الإنسان.
أنا: أرجوك دعيني أركز وأستجمع أفكاري.. ليس هذا ما أقصده، إنما أقصد أننا لم نسمع يومًا عن بقرة أصيبت بحالة نفسية لأن الأكل المتبقي أمامها قد لا يكفيها لليوم المقبل! أو غزال أصيب بجزع لأن صغيره مرض أو مات! أو حتى لم نسمع عن انتحار ملك الغابة إذا فشل في ملاحقة فريسته.. بل يقوم ويحاول ويحاول.. فهل تكون عقولنا وبالاً علينا؟ كيف تكون عقولنا التي كرمنا الله بها مصدرًا للقلق والتوتر؟! فبدلاً من الخروج من دوائر الصراع، تجد أكثرنا يؤسس لهذه الصراعات! ثم نعود ونشتكي من الأمراض النفسية والعضوية.
أنا: مضى وقت طويل في التفكير.. والعصافير خرجت في سرب كبير في مشهد بالغ الدقة والنظام. أشعر وكأنها تناديني تدعوني لأتدبر في المنظومة التي تسير وفقها ولا تحيد عنها.. لهذا فهي مرتاحة وتطير بسعادة بالغة.. عصفورتي عضو في سرب صغير، وأنا أعيش في سرب أكبر، الكل فيه يسبح بحمد الله.
أنا في هذا الكون سيد وعبد في آن واحد.. سيد على هذا الكون، وعبد لله.. الآن فهمت من أنا؟ أنا خليفة الله في أرضه.
نفسي: لا تنس أن شرف الخلافة شرف عظيم لا يناله كل البشر.
أنا: لكن ما الدور المنوط بالإنسان الخليفة؟
نفسي: ألم تدركي منذ قليل أن الكون بكل ما فيه مسخر لخدمتك؟ هذا يعني أنك ستوكل لك مهمة باعتبارك خليفة.. وقبل أن تشرع في أداء أي مهمة عليك التعرف على الأدوات التي تعينك عليها.
أنا: ما دوري؟ وما الأدوات التي تلزمني؟
نفسي: الإنسان مأمور أن يستخدم كل ملكاته في التعرف على الله، وعليه أن يستثمر عقله في تحقيق خلافته في الأرض، فهو أعلى المخلوقات رتبة، فعليه أولاً أن يحقق العبودية لله ليستحق هذا الشرف، ومن ثم يصل إلى الله بقلبه وعقله وعمله؟ ويقوم بعمارة الأرض وإقامة الحق عليها.
أنا: وكيف ذلك؟ وما السبيل؟
نفسي: سأضرب لك مثلاً: ورث أخوان متدينان قطعة أرض كبيرة لكنها متهالكة، فقاما بتقسيمها وأراد كل واحد منهما استزراع نصيبه.. فقام الأول بالاستعانة بالمختصين في هذا المجال، واستعان بالعديد من وسائل العلم الحديثة والآلات لاستصلاح هذه الأرض، كما خصص جزءًا من الأرض -مختبرًا- للدراسة المعملية على ما سيتم إنتاجه.
بينما الأخ الثاني استعان بالفلاحين والفؤوس والبذور لاستصلاح هذه الأرض، وبرر ذلك بأن الرزق من عند الله.
نفسي: ولكن أيهما حقق مفهوم الخلافة بشكل أفضل برأيك؟
أنا: أعتقد أن الأول استثمر عقله وطلب العلم واستغل التكنولوجيا في التعرف على الله.
نفسي: أحسنت.. الأول سعيه عبادة وتفكيره عبادة وعلمه عبادة.. فهو يستخدم أهم أداة من أدوات الخلافة وهي “العلم النافع”.
بينما الثاني رغم طيب مقصده، لم يستغل عقله ولم يستثمر الأدوات المسخرة من حوله لعمارة الأرض والوصول، ربما لنتيجة علمية من تهجين لبعض الأسمدة أو حتى لم يصل إلى نتيجة كان يمكن الوصول إلى أفضل منها.. مثله كالشخص الفقير المتكاسل المتنطع الذي لا يسعى إلى التفكير والعمل بدلاً من التكاسل والجزع.
نفسي: عزيزتي! طالب العلم يربح الدنيا والآخرة معًا، والمؤمن مميز بالانتفاع من هذا العلم في الدنيا والآخرة.. في حين أن كثيرًا من غير المؤمنين يجيدون استخدام العلم، ويبرعون فيه بهدف دنيوي فقط.
كما يعتبر المسلم المتدين الجاهل مع سلامة صدره “شرًّا”؛ فالمتدين الحقيقي لا يفصل الدين عن العلم، فكلما طور الإنسان نفسه، أيقن أن بهذا العلم والعقل سيصل أكثر إلى الله، وساعتها سيتأكد أنه مهما أوتي من علم فهو أمام علم الله صغير.
أنا: لقد فهمت ما تريدين قوله جيدًا، الإنسان خليفة الله في أرضه عندما يعمل لدنياه كأنه يعيش أبدًا، وعندما يعمل لآخرته كأنه يموت غدًا.
حوار رائع جعلني أبحر داخل ذاتي.. أستخدم عقلي في التفكير.. حوار جعلني أبحث عن الذات بالذات..حوار أبطاله ضمير يقظ، وعقل متدبر، ونفس لوامة، تبحث عن الله في كل تصرفاتها أو هكذا تسعى.

(*) كاتبة وباحثة مهتمة بشؤون الطفل / مصر.