… وبينا أنا في الدعاء، إذا بصوت يجلجل ويصعد:
«يا رسول الله!».. أطلقَه لوعةً طيفٌ أسود،
وقَف على الأعتاب وأمسك بالستارة طيّاتٍ وأكواماً،
ثم تهاوى أمام «باب السلام»، فلم يطق قياماً،
وما زالت جلجلة صيحته في الفضاء البعيد،
حتى علا خارقاً الأبعادَ صوتُه من جديد.
وحين خَرَّ على أقدام روضة النبي صريعًا،
حَضَنَ حديدَ الحاجز المرتطم بصدره منيعًا،
وهمد مستغرقاً إزاء وجه الحبيب الغالي،
قائلاً في نشيج: «يا نبيُّ انظر إلى حالي!
كما يتلَظّى صدرُ الصحراء في هجير الظهر،
كذلك تلظّتْ روحي في جوى الهجر.
وما سكن قطُّ تَشَوُّفي إلى حرمك الطاهر، بروحي وبدَني،
ولكن تصدى لي أعواماً طويلةً موانعُ أهلي ووطني،
قالوا: «اصبر»، فقلت: «هل الصبرُ دهرٌ»؟
فلا بد من نهايةٍ ومهما يَطُل الصبر.
وذِكْرُ هذا التراب غدا ناراً مُتّقِداً في عيني، يَشويني كلّ آنٍ،
فما عاد يصُدُّني مِن بَعدُ عوائقُ الأهلِ والأوطان…
فاجتزتُ ديار السودان، وألقيتُ بالعوائق وراء ظهري ودُوني،
وقضيتُ ثلاثة أشهر في المسير، فيا «تِهامة» تَقطَّعي وهُوني.
ولولا أنْ أَدْرَكتَني يا رسول الله مَدَداً،
لاحترقتُ حتى نخاعي في الصحراء، وصرتُ بدداً؛
فأَنفاسك مسّت الرمال فغدت نسيمًا عليلاً،
وصوتك سال في كل وادٍ ماءً سلسبيلاً،
وما أن صارتْ إرادتك لِما أُريدُ مقصدًا ومراماً،
حتى غدا الهمودُ لحظةً في الدروب عليّ حراماً.
سَرَدْتُ على الخلائق طُرّاً الشَّجْوَ والأحوال،
وسكبتُ على الليالي أشجاني وأنْطَقتُ الجبال…
مضت شهورٌ لم تَغْمُض لي -في حرقتي- عَينٌ،
واسْألِ النجومَ إن شئتَ هل عرف النومَ لي جفنٌ؟
ثلاثةٌ وخمسون عاماً وأنا في عذاب الفراق هائم،
ثم يصدم جبهتي حائلاً هذا الستارُ الظالم؟!
هذي القلوب خلّفت فلذات أكبادٍ ضائقةَ الصدر،
هل من حقها الرحمةُ؟ أم أنْ تُجازى بالخُسر؟
فارفع عن مَزارك الطاهرِ حديدَ النقاب،
ولا تمنع روحي العليلَ من هذا التراب!
وما هذه الشعلة الوضّاءة؟ أهي نورك يا رسول الله؟»
ثم مرّ آنٌ في سكونٍ، ثم شَهقةُ «آه»..
ماذا أرى؟ امتد على الأرض هذا السوداني…
ويبكيه بدمعٍ ذارفٍ مسكينٌ سَيلاني…
ويُسْدِلُ بيده جفْنَ عينيه، ويُقبِّلُّهُ، ويُقَبِّلُ…
ثم نُقِل جثمانُه إلى حيث يُكفّن ويُغسّل…
ثم إلى «البقيع» رحل الشهيد ببدنه الفاني…
لكن روحه الخالدة بقيت في «الحرم»، لا تحيد عن هذا المكان.
_______________
الترجمة عن التركية: عوني عمر لطفي أوغلو.
(*) من أكبر شعراء الأدب التركي المعاصر. وقصيدته هذه عروضية وطويلة في أصلها. والقسم المنشور هنا من أواخر القصيدة، يُصور
فيها مشاعره حيال شوقِ رجلٍ سودانيٍّ رآه، تحَمَّل المشاق للوصول إلى المسجد النبوي وزيارة قبره صلى الله عليه وسلم ثم توفاه الله تعالى حين
الوصل.