ولأن التقوى من المفاهيم القرآنِيّة المُهمّة، وهي من ضِمن المعاني التي يصعب تحديد معناها بدقة، كما لا يمكن ضبط تعريفها لغويًّا واصطلاحيًّا، وما نجده من تعاريف لا يعدو أن يكون تقريبًا لمعناها أو بعض جوانبها، ولأن التقوى أول منازل العابدين ومنتهى الطالبين، تندرج ضمن المفاهيم القرآنية التي لها معنى محدود ومعنى غير محدود، فالمفهوم العام للتقوى أن يقي الإنسان نفسه من المكاره والشرور، ويقي الآخرين، وهذا هو الحد الأدنى للتقوى الذي يمكن أن يوفر أرضية مشتركة للتعايش بين الناس والقبول بالآخر، وحتى هذا الحد الأدنى والتي كانت تأتي الرسل بداية تطالب أقوامها به لا يمكن تحقيقه إلا إذا كانت النفس سوية، ثم يأتي تاليًا لها المعنى الغير محدود الذي يتوقف على درجة الإيمان والعمل الصالح، وذلك لأن المحصلة النهائية والكبيرة للتقوى تكون في الآخرة، وبالتالي لن يتمثل هذه الصفة إلا من كان مؤمنًا أو موقنًا بتحقق الثواب والعقاب في الآخرة، فهناك تقارب بين كل من مفهوم (التقوى والإيمان واليقين والإخلاص) وتارة ما يتم الخلط بين السَّبَبِ والمُسَبَّبِ أي النتيجة، ومع ذلك فإنَّ القرآن هو الوحيد الذي يمكن أن يعطينا مفهومًا مفيدًا ومعقولاً للتقوى من خلال الآيات التي تم التركيز عليها، ولكن هذا يحتاج إلى تأمل ومعرفة حقيقة هذه النفس البشرية التي هي سر من أسرار الوجود في علاقتها بربها، وعلاقتها بعدوها الشيطان فلديها ميل للتزكية، ولديها ميل للفجور – فواعجباه من صورة إنسان يوجد منها نَفَسُ الشيطان، وواعجباه من صورة إنسان يوجد منها نَفَسُ الرحمن – فهي نفسها يصدر منها التقوى ويصدر منها الفُجُور، ولذلك فأول شيء بعد خلق الإنسان هو التعرف على ذاته وما من إنسان إلا وينطبق عليه قوله تعالى: (وهديناه النجدين) فلديه ميلٌ للتّزكية وميلٌ لِلفجورِ وبعض الأوقات قد يُضَللَه غيرُه وقد يجهل الأمر فلا يستطيع أن يستلهم الحق ويهتدي للتقوى بسبب طغيانه وميله.

أولاً: النَّفسُ السَّوِيَّة

ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها” تبدأ التقوى بتعرف الإنسان على ذاته، وتقدير الذات هو الخطوة الثانية بعد خلقه (وخلق كل شيء قدره تقديرًا) وكانت الخطوة الثانية بعد خلق آدم أن عرفه الله على قدراته (وعلم آدم الأسماء كلها) ثم عرفه على نقط ضعفه حين دله الشيطان فأكل من الشجرة، هذه هي النفس السوية تتعرف على الفجور والتقوى من خلال طبيعتها الأصلية حتى ولو لم تسمع من رسول أو تقرأ من كتاب من كتب الله، فهي صالحة بطبيعتها وتقاوم أيَّ تلوث يُفرض عليها، وتحقيق ذلك قوله تعالى: “فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها“.

وتجربة آدم تتكرر مع كل شخص، فثَمن الله العلم، وثمن الشيطان الجهل، فالله يعطيك العلم والحقائق والمعرفة ويعرفك أين أنت دون تهويل وما الذي يفيدك والقرآن أكبر برهان، بينما الشيطان يعطيك الجهل والوهم والكذب، فلا أحد إلا وتناجيه القوة العقلية من جهة ربه قائمة في نفسه تأمره بالمعروف كله إلى نهاية أدنى جزء من أجزائه من مثقال حبة من خير، وتنهى عن المنكر كله إلى نهاية أدنى جزء من أجزائه من مثقال حبة من شر، وصفة الشيطان قائمة في النفس البشرية تنهاه عن كل ما أمر به الرحمن إلى نهاية آخر جزء منه، وتأمره بكل ما نهاه عنه إلى نهاية آخر كل جزء منه، فهذا ما دلت عليه دلائل قوله تعالى: “فألهمها فجورها وتقواها“، فتارة تستنير بنور عقلها فتظهر بوادر التقوى وتارة تنزوي وتقع في مصيدة الشيطان وأوليائه، فيقل مقاومتُها أمامَ دَسَائس الشيطان، وسطوة الشهوة وأمام القلة الفاسدة المحيطة بها، ولذلك قال الله لآدم: (قُلۡنَا ٱهۡبِطُوا۟ مِنۡهَا جَمِیعًاۖ فَإِمَّا یَأۡتِیَنَّكُم مِّنِّی هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَایَ فَلَا خَوۡفٌ عَلَیۡهِمۡ وَلَا هُمۡ یَحۡزَنُونَ) ليكون قدوة ﻷولاده من بعده بالتوبة والهداية والأعمال الصالحة، فمن غفل أو غوى فعليه أن يستيقظ، ومن نسي فليتذكر.

والكتب السماوية تؤكد هذه الحقيقة ورسل الله قاموا بهذه المهمة من إصلاح الناس ونصرهم الله ولو بعد حين وحتى تكون هناك تقوى فيشترط الحد الأدنى النفس السوية والنفس السوية هي التي تعرفت على نقط قوتها ونقط ضعفها فأدركت أن لديها نقائص ولديه فجور وكفر ولم تمارس الفساد وآمنت بأنه يمكنها أن تتجنب الفجور وقام في نفسها العزم أن تتخذ كل الوسائل المتاحة للتخلص من عيوبها ومقاومة الفجور والطغيان منها ومن غيرها.

ثانيًا: المفهوم العام للتقوى:

عرفنا أن الأرضية التي يُؤسَّس عليها المفهوم العام للتقوى هي النفس السَّويَّة التي تمارس العمل الصالح وكانت هذه هي المهمة الأولى للرسل أن يجنبوا قومهم المخاطر ويحلو المشاكل التي تواجههم قبل كل شيء، فيَقوا أنفسهم -أولاً- ما يكرهون من المخاطر والمهالك، ويجنبوا الأخرين شرهم – ثانيًا-، فلا يمارسون الظلم والطغيان فيما بينهم، ولا يسعون في الأرض فسادًا ويقبلون بمبدأ التعايش السلمي والحقوق الطبيعية لكل منهم، فنوح قال لهم: (أَوَعَجِبۡتُمۡ أَن جَاۤءَكُمۡ ذِكۡرٌ مِّن رَّبِّكُمۡ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنكُمۡ لِیُنذِرَكُمۡ وَلِتَتَّقُوا۟ وَلَعَلَّكُمۡ تُرۡحَمُونَ).

وهود المبعوث إلى عاد (وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمۡ هُودًاۚ قَالَ یَـٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُوا۟ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَـٰهٍ غَیۡرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ) وصالح وشعيب كذلك.

وهذه التقوى هي التي وصى بها الأولين والآخرين (وَلِلَّهِ مَا فِی السماوات وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِۗ وَلَقَدۡ وَصَّیۡنَا ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ الكتاب مِن قَبۡلِكُمۡ وَإِیَّاكُمۡ أَنِ ٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَۚ وَإِن تَكۡفُرُوا۟ فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِی السماوات وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ غَنِیًّا حَمِیدًا) [سورة النساء 131]

ثالثًا: المفهوم الخاص للتقوى:

وسميناه مفهوم غير محدود لأنه متسع، ولا يكون إلا لأهل القرآن بصورة أساسية، فإذا كان المفهوم المحدود هو اجتناب المخاطر والمهالك، فإن مفهوم التقوى غير المحدود له بعد أكبر يتسع إلى اتباع الأمر بعد اجتناب النهي، فيفعل الأمر للوقاية “اتقوا النار ولو بشق تمرة“.

إن المتأمل لبعض نصوص القرآن يدرك أن القول الواحد نفسه يمثل أغراضًا متعددة ومختلفة، وذلك يرجع إلى أمرين:

الأول: قوة الآيات القرآنية المتضمنة أبعادًا كثيرة ومختلفة، ومع ذلك فهي مفهومة

الثاني: فلأنَّ خطاب القرآن يستهدف الناس جميعًا بمختلف ثقافتهم، حيثما كانوا، ومتى كانوا، قد ينجز بمقاصد مختلفة ولا أدل من ذلك الآية “93” من سورة المائدة فلها أغراض متعددة، ولها مفهوم في مناسبة نزولها، كما لها مفهوم من عموم اللفظ كما سيتبين لك.

وليس أفضل من التمثيل له بآيات القرآن الكريم باعتبار أن منبع التقوى منه وصاحب الحجة ألحن بحجته من غيره، وبأحاديث الرسول الحكيم صلى الله عليه وسلم، من ذلك قصة ابني آدم وبقول المقتول لأخيه القاتل: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)؛ ثم كان برهان التقوى على أرض الواقع أن المتقي حجر نفسه ومنعها إباحة الاعتداء على أخيه بدليل قوله تعالى “لئن بسط إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين“.

ومن الآيات الجامعة لمفهوم التقوى العام والخاص، وتقاربها مع مفهوم الإيمان والعمل الصالح والإحسان قوله تعالى: (لَیۡسَ عَلَى ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّاٰلِحَاٰتِ جُنَاحٌ فِیمَا طَعِمُوۤا۟ إِذَا مَا ٱتَّقَوا۟ وَّءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ الصالحات ثُمَّ ٱتَّقَوا۟ وَّءَامَنُوا۟ ثُمَّ ٱتَّقَوا۟ وَّأَحۡسَنُوا۟ وَٱللَّهُ یُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِینَ) [سورة المائدة 93].

من الملاحظ أن لفظ الإيمان ورد ثلاث مرات وهو ليس تكرارًا وإنما في كل مرة له معنى، ووردت كلمة التقوى ثلاث مرات ونفس الشيء لها في كل مرة معنى مختلف:

في قوله تعالى “ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات” بينت الأساس الذي تقوم عليه التقوى بمفهومها العام والخاص فالإيمان هنا أنه آمن بقدرته التي منحه الله من العقل والعلم للتغلب على عيوب نفسه ومقاومة فجورها وكفرها وعمل الصالح أي لم يمارس الفساد ولا الطغيان.

فالأولى “إذا ما أتقوا” اجتبوا الحرام.

وآمنوا“ أي اعتقدوا العقاب على أكله وقبضه وهذا الإيمان غير مفهوم الإيمان الأول وقد وضحناه في المفهوم العام فلا حاجة لتكراره.

وعملوا الصالحات” أقاموا الصلاة والزكاة وأمروا بالمعروف وأتمروا، ونهوا عن المنكر وانتهوا، ومضمون العمل الصالح هنا غير مضمون العمل الصالح قبله الذي هو ممارسة النفس السوية لحقوقها الطبيعية واجتناب الفساد.

والثانية: (ثم اتقوا): الشبه بعد الحرام، فتركوا ما فيه بأس إلى ما لا بأس به.

(وآمنوا): اعتقدوا بالعقاب على قبضها وأكلها.

الثالثة: (ثم اتقوا): أي اتقوا الشح بما آتاهم االله من طيب الحلال، والإسراف والتبذير وهذه الدرجة العالية للتقوى، فيعطي الله المتقي فرقانًا يعرف به عيوبه فينتقل عما يريبه إلى ما لا يريبه.

– (وأحسنوا): وهذه منزلة اليقين، أي شكروا الله بألسنتهم وانفقوا في سبيل الله من فاضل ما رزقهم الله على الأقارب والفقراء والمحتاجين وأطـاعوا الله بجوارحهم.

هذه الآية تبين التقارب والفوارق الدقيقة بين مفهوم كل من “الإيمان، والعمل الصالح، والإحسان” كما ينبغي الإشارة إلى التقارب الوثيق بين المفاهيم الثلاثة “التقوى والإخلاص، واليقين”.

ومن الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم في بيان حدّ التقوى: “لا يبلغ العبدُ أن يكون من المتقين حتى يدَع ما لا بأس به حذرًا لما به بأسٌ” (رواه الترمذي).

وحديث قيل يا رسول الله: أي الناس أفضل قال: (كل مخموم القلب صدوق اللسان قالوا: ولكن ما مخموم القلب قال التقي النقي الذي لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد).

وعن حُذَيْفَةُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ).

والفتن لا تعد ولا تحصى وقد أمر الله ورسوله أن نتقي الفتن “واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة“.

عقد الحارث المحاسبي في كتابه “الرعاية لحقوق الله” فصلاً للتقوى، ومما جاء فيه: “التقوى أول منزلة العابدين، بها يدرِكون أعلاها، وبها تزكُو أعمالهم؛ لأن الله عز وجل لا يقبل عملاً إلا ما أريد به وجهُه، فوالله ما رضيَ كثيرٌ من المتقين بها لله تعالى وحدها حتى أعطوه المجهود من القلوب والأبدان، وبذلوا له المهج من الدماء والأموال. فانظر -رحمك الله- أين أنت منهم؟”.

ومن مفهوم قصة بني ابني آدم وآية “93” من سورة المائدة، وحديث رسول الله ومن تعريف الحارث المحاسبي، نستنبط مقاربة تعريفية للتقوى وهي:

– وقاية القلب من كل ما يغضب العليم من سوء الضمائر.

– وقاية اللسان من كل ما يغضب السميع من سوء البوادر.

– وقاية الأركان من كل ما يغضب البصير من الكبائر والصغائر.