إن التربية المحمدية ركزت على المبادئ التي تخدم وحدة المسلمين وتدفع عنهم التفرقة والاختلاف المذموم، وقد بدا ذلك جليًّا من خلال نصوص شرعية كثيرة، منها أن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: سمعت رجلاً قرأ آية، وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ خلافها، فجئت به النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فعرفت في وجهه الكراهية، وقال: “كلاكما محسن، ولا تختلفوا، فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا“(2) .
ولا شك أن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم تأثروا تأثرًا بالغًا بتلك المبادئ، فجعلوها نبراسهم، وسار مسارهم التابعون وتابعو التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ومن أبرزهم الأئمة الأعلام أمثال مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم، بحيث لم يتعصبوا لآرائهم، ولم يثبت عن أحدهم أنه كفر مخالفيه أو انتقص من شأنهم لأنهم لم يروا ما رأى، وبذلك ساهموا رضي الله عنهم سنين طويلة في استقرار المجتمع المسلم، وإبعاده من مغبة التناحر والتطاحن.
وهذه بعض آداب الاختلاف التي يمكن استنتاجها من بعض مواقفهم:
أساس اختلافهم مصوغات مقبولة:
من المعروف لدينا أن الاختلاف بين الفقهاء نتج عن أسباب علمية محمودة، ولم ينتج عن أسباب سياسية أو مصلحية ممقوتة، وما نتج عن ذلك لا يعتبر فقها، بل هو لغو وهراء ما أنزل الله به من سلطان.
وقد ألف البعض في موضوع الاختلاف الفقهي وأسبابه، أذكر منها:
ـ كتاب “الإنصاف في التنبيه على المعاني والأسباب التي أوجبت الاختلاف” لأبي محمد عبد الله بن محمد بن السيد البطليوسي المتوفى سنة 521هـ:
ـ كتاب “رفع الملام عن الأئمة الأعلام” لتقي الدين بن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي المتوفى سنة 728هـ:
ـ كتاب “الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف ” لأحمد بن عبد الرحيم المعروف بـ”الشاه ولي الله الدهلوي” المتوفى سنة 1176هـ:
اعتبار آرائهم مذهب فقهي غير لازم لكل الأمة:
إن العلماء مهما بلغت قدراتهم العلمية لم يكن أحدهم يعتبر نفسه مجتهد الأمة، بل اعتبروا اجتهاداتهم حقا يرونه، وفهمًا خاصًا لكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ليس من الواجب إلزام الناس به، وهذا أمر يتضح بشكل جلي من خلال مواقفهم.
فهذا الإمام مالك على جلالة علمه، ومعرفته بحديث المدنيين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلمه بالفتوى، يرفض اقتراح المنصور أن تنسخ كتبه وتوزع على كل الأمصار، ثم يؤمر الناس بالعمل بما فيها ولا يتجاوزوه إلى غيره، قال رضي الله عنه في رده على المنصور: “يا أمير المؤمنين لا تفعل هذا فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم، وأتوا به من اختلاف الناس، فدع الناس وما اختار أهل كل بلد منهم لأنفسهم”(3).
علق محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي على جواب مالك بقوله: ” فانظر اتساع مالك، ترك للناس حريتهم، ولم يجعل للسياسة دخلاً في كتابه، فأقبلوا عليه باختيارهم”(5).
وعلق طه جابر العلواني بقوله: ” فأي رجل هذا الإمام الجليل الذي يأبى أن يحمل الناس على الكتاب الذي أودع فيه أحسن ما سمع من السنة، وأقوى ما حفظ وأدرك من العلم الذي لا اختلاف فيه عند أهل المدينة وذلك الحشد من علماء عصره “(6).
دماثة أخلاقهم وتأدبهم مع مخالفيهم:
الشواهد على ذلك كثير يصعب حصرها، ولعل من أفضل وأحسن مثال على أدب الاختلاف، الرسالة الرائعة التي بعث بها الليث بن سعد إلى الإمام مالك، يعرض عليه فيها وجهة نظره في أدب جم رفيع حول كثير مما كان يذهب إليه الإمام مالك ويخالفه فيه.
وهذا بعض ما جاء فيها:
بدأ الليث هذه الرسالة بالسلام، وحمد الله تعالى، ثم سأل الله العافية، وحسن الباقية في الدنيا والآخرة، وعبر عن سروره لصلاح حال مالك والمسلمين بالمدينة…
وفي شأن اختلافه مع الإمام مالك وما يراه أهل المدينة، قال رحمه الله بأدب وحسن خلق: “وأنه بلغك أني أفتي بأشياء مخالفة لما عليه جماعة الناس عندكم، وأني يحق على الخوف على نفسي لاعتماد من قبلي على ما أفتيتهم به، وأن الناس تبع لأهل المدينة التي إليها كانت الهجرة وبها نزل القرآن، وقد أصبت بالذي كتب به من ذلك إن شاء الله تعالى، ووقع مني بالموقع الذي تحب، وما أجد أحدا ينسب إليه العلم أكره لشواذ الفتيا ولا أشد تفضيلا لعلماء أهل المدينة الذين مضوا ولا آخذ لفتياهم فيما اتفقوا عليه مني والحمد لله رب العالمين لا شريك له.
وأما ما ذكرت من مقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة ونزول القرآن بها عليه بين ظهري أصحابه وما علمهم الله منه وأن الناس صاروا به تبعا لهم فيه فكما ذكرت، وأما ما ذكرت من قول الله تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(التوبة:100)[8]
” فإن كثيرا من أولئك السابقين الأولين خرجوا إلى الجهاد في سبيل الله ابتغاء مرضاة الله فجندوا الأجناد واجتمع إليهم الناس فأظهروا بين ظهرانيهم كتاب الله وسنة نبيه ولم يكتموهم شيئا علموا” (7).
وختم رسالته بهذا الكلام الطيب الرائع: ” وأنا أحب توفيق الله إياك وطول بقائك؛ لما أرجو للناس في ذلك من المنفعة، وما أخاف من الضيعة إذا ذهب مثلك مع استئناسي بمكانك، وإن نأت الدار، فهذه منزلتك عندي ورأيي فيك فاستيقنه، ولا تترك الكتاب إلي بخبرك وحالك وحال ولدك وأهلك وحاجة إن كانت لك أو لأحد يوصل بك، فإني أسر بذلك، كتبت إليك ونحن صالحون معافون والحمد لله، نسأل الله أن يرزقنا وإياكم شكر ما أولانا وتمام ما أنعم به علينا، والسلام عليك ورحمة الله”(8).
اعترافهم بفضل أهل العلم المخالفين لهم:
من الأخطاء التي شاعت في فترات التخلف العلمي واستمرت إلى زماننا هذا، أنه بمجرد خطأ العالم خطأ ما، يحكم عليه بالجهل والفساد، وربما ما اعتبر خطأ لا يعد كذلك، بل قد تكون فتوى مؤسسة على قواعد، لكن قصور فهم الكثيرين بسبب ضحالة المستوى العلمي يجعلهم يسارعون إلى تخطئة غيرهم.
هذه السلوكيات لم تكن معروفة في القرون الخيرة، وفي فترات الازدهار العلمي للأمة، حيث كان العلماء في هذه الفترات لا ينتقصون من شأن مخالفيهم، بل يبجلونهم ويعترفون بمكانتهم العلمية، ومن الأمثلة على ذلك:
بين الإمام مالك والإمام أبي حنيفة رحمهما الله تعالى اختلاف كبير، لكن هذا لم يمنع أن يجل أحدهما الآخر ويعترف بعالميته، قال الليث بن سعد: لقيت مالكا في المدينة، فقلت له: إني أراك تمسح العرق عن جبينك، قال: عرقت مع أبي حنيفة، إنه لفقيه يا مصري. قال الليث: ثم لقيت أبا حنيفة، وقلت له: ما أحسن قول هذا الرجل فيك (أي الإمام مالك)، فقال أبو حنيفة: ما رأيت أسرع منه بجواب صادق، ونقد تام(9).
وقال محمد بن الحسن في حق الإمام الشافعي رحمهما الله تعالى: “إن كان أحد يخالفنا فيثبت خلافه علينا فالشافعي، فقيل له: فلم؟ قال: لبيانه وتثبته في السؤال والجواب والاستماع”.
نبذ ذكر مخالفيهم بسوء ودفاعهم عنهم:
لقد حرص هؤلاء الفضلاء على أن تكون مجالسهم مجالس خير، ولذلك فمن حاول تجاوز الآداب التي تجب مراعاتها مع أئمة هذه الأمة رد إلى الصواب، وحيل بينه وبين مس أحد بما يكره.
فهذا ابن المبارك رحمه الله تعالى كان يثني على أبي حنيفة، وكان يأخذ من قوله، ولا يسمح لأحد أن ينال منه في مسجده، وفي يوم حاول بعض جلسائه أن يغمز أبا حنيفة، فقال له: “اسكت، والله لو رأيت أبا حنيفة لرأيت عقلا ونبلا.
وهذا الإمام أحمد لما بلغه قول يحيى بن معين لابنه صالح: “أما يستحيي أبوك مما يفعل؟ رأيته مع الشافعي والشافعي راكب، وهو راجل آخذ بزمام دابته “. قال رحمه الله: ” إن لقيته فقل: يقول لك أبي: إذا أردت أن تتفقه فتعالى فخذ بركابه من الجانب الآخر“(10).
أخذ ما استحسنوه من مخالفيهم:
كان قصد علمائنا الأفاضل من الاجتهاد والفتوى بلوغ مراد الله تعالى، ولذلك إذا من الله تعالى على أحدهم بفهم حسن لا يترددون في قبوله والإفتاء به، وهذا إن دل على شيء فيدل على بعدهم عن العصبية الممقوتة، وقبولهم الحق أنا وجدوه.
فالإمام أحمد كان يقول: “إذا سئلت في مسألة لا أعرف فيها خبرا قلت فيها: يقول الشافعي، لأنه إمام عالم من قريش”(11).
والإمام الشافعي نفسه يستعين بالإمام أحمد في رواية الحديث، قال لأحمد يوما: “أما أنتم فأعلم بالحديث والرجال مني، فإذا كان الحديث صحيحا فأعلموني إن يكن كوفيا أو بصريا أو شاميا، أذهب إليه إذا كان صحيحا”(12).
هذه إذن بعض آداب الاختلاف عند علمائنا الربانيين، والتي تدل على كونهم مفخرة في حسن الخلق وتدبير الاختلاف، ذلك أنهم استوعبوا جيدا أن الخلاف المذموم المنطلق من التعصب والهوى والأنانية والمصالح الخاصة لا تكون عواقبه إلا كارثية على المجتمع المسلم، فتجنبوه حتى لا يتحملوا مسؤولية تشتت المجتمع وتشرذمه. فرضي الله عنهم وجعلنا خير خلف لخير سلف.
(1) ذكر الشيخ يوسف منها عددا في كتابه الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم، دار الصحوة، ط: 4، ص: 27.
(2) ج صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث الغار، رقم: 3476 ـ ص: 4/ 175.
(3) الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء لابن عبد البر ، دار الكتب العلمية، ص: 41.
(4) الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي للحجوي الثعالبي، دار الكتب العلمية، ط: 1، ص: 1/ 407.
(5) أدب الاختلاف في الإسلام، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ص: 118.
(6) إعلام الموقعين لابن قيم الجوزية، دار الكتب العلمية، ط: 1، ص: 3/70
(7) ترتيب المدارك للقاضي عياض، مطبعة فضالة، الطبعة الأولى، ص: 1/152.
(8) الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء لابن عبد البر، ص: 89.
(9) المصدر السابق، ص: 133.
(10) المصدر السابق، ص: 75.
(11) المبدع في شرح المقنع لبرهان الدين بن مفلح، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، ص: 8/ 168.
(12) الانتقاء لابن عبد البر، ص: 75.