عَرف الإنسان سائل الدم منذ قديم الزمان، وكثيراً ما جاء ذكره في كتابات الحضارات القديمة ونقوشاتها، واستمر وصفه عبر قرون طويلة مضت؛ نسج القوم خلالها وحاكوا الكثير من الروايات والنقولات التي ارتبط خلالها الدم بالأذهان، بالسائل المهيب ذي اللون الأحمر القاني الذي يحمل سر الحياة.
ثم اكتشف الإنسان الحديثُ جانباً من أسرار سائل الدم، وكان هذا نتيجة تطور الدراسات العلمية التي طال انتظارها، وجاءت بعد ترقب لينتج عنها فتح باب المعرفة الذي بقي موصداً أزماناً طويلة. وقد دعم ذلك تطورُ استخدام المجهر وتقدم علوم التشريح والأنسجة، مما كفل بسبر المزيد من أغوار الجسم وأسراره، والتعرف على البنية التشريحية الدقيقة لمكونات سائل الدم. وعليه فقد عُرف عن الدم الآن أنّه سائل الحياة الذي يجول في أجسامنا، ويجري ضمن أوعية خاصة تحمله فتتناقله فيما بينها خلايا أجسامنا المختلفة وتتبادله دون أدنى شعور منا أو إحساس.
إذن فما الدم؟ وما مكوناته؟ وما الدور الذي يقوم به داخل أجسامنا؟ وما الرسالة التي تحملها لنا عجائب الخلق في جسم الإنسان عبر هذا الدم؟..
مهمة الدم
يتكون الدم عموماً من عناصر صلبة تسبح ضمن سائل ذي لون شفاف، وتضم هذه العناصر خلايا الدم الحمراء وخلايا الدم البيضاء والصفائح الدموية، أما السائل الذي يحوي تلك الأجسام فيُعرف علمياً بـ”البلازما”، وتبلغ كمية دم جسم الإنسان البالغ، نحواً من خمس لترات.
والدم هو وسيلة النقل الكبرى في جسم الإنسان وأهمها على الإطلاق؛ إذ تكمن وظيفته الرئيسة في تزويد خلايا الجسم وأنسجته المختلفة بما تحتاج إليه من العناصر التي تعينها على القيام بوظائفها الفسيولوجية المختلفة. فالدم مثلاً يحمل ما يدخل إلى الجهاز الهضمي من المواد الغذائية ليوزّعها على خلايا الجسم أينما كانت، وفي الوقت نفسه يخلّص هذا الدم تلك الخلايا مما تنتجه من فضلات ومخلّفات، يتم توجيهها نحو الكلى لتمتزج مع غيرها من مخلفات الجسم التي سيتم طرحها مع سائل البول.
ومن جهة أخرى، ينقل الدم أيضاً غاز الأكسجين الذي يدخل الرئتين محمولاً مع هواء عملية الشهيق، ومن هناك يتجه هذا الغاز عبر الدم إلى جميع خلايا الجسم التي تحتاج إلى الأكسجين للقيام بعملياتها الحيوية المعقدة، وينشأ بالمقابل عن تلك العمليات غاز آخر هو ثاني أكسيد الكربون الذي سينقله الدم لاحقاً من الخلايا باتجاه الرئتين لينتهي إلى طرحه عبر هواء الزفير.
ويحمل الدم أيضاً ما تصنعه خلايا غدد الجسم من الهرمونات وغيرها من المفرَزات، فيقوم بتوجيهها نحو الأنسجة المستهدفة، مما ينتج عنه تحقيق الاستقرار الفسيولوجي والتوازن الحيوي لبيئة الجسم الداخلية.
أخيراً فإن للدم أيضاً دوراً في تنظيم درجة حرارة الجسم والتخفيف من حدّة الحمّى، وذلك عبر وسائط خاصة معقدة تعمل في طرد جزء من الحرارة والمساعدة في الاقتراب من حدّها الطبيعي. ويجدر بالذكر هنا أن درجة حرارة سائل الدم تماثل درجة حرارة الجسم الطبيعية وهي 37 درجة مئوية.
سائل البلازما
البلازما مادة سائلة شفافة يميل لونها إلى الاصفرار، وتمثّل نصف حجم الدم الكُلِّي تقريباً، ولها دور مهم في نقل الماء والأملاح والمواد الغذائية المختلفة؛ مثل السكريات والفيتامينات والهرومونات… وتوزيعِها إلى خلايا الجسم المختلفة.
يعدّ الماء المكوّنَ الرئيس لسائل البلازما، وتدخل عناصر ذائبة أخرى في تكوينه؛ كالأملاح المعدنية والسكريات والدهون والفيتامينات وبعض الغازات، بالإضافة إلى العديد من البروتينات؛ مثل الألبيومين والغلوبيولين والفيبرينوجين والأنزيمات والهرمونات، والكثير من المعادن كالكلور والفوسفات والكالسيوم والصوديوم والمغنيسيوم والبوتاسيوم، وبعض الأحماض.
ومن الضروري هنا أن نقول: إن جميع ما ذكر من عناصر البلازما محدد بنسب متناهية في الدقة، وأية زيادة أو نقصان طفيفَين في تلك النِسب، يحمل في طياته خطراً صحيًّا كبيراً. وبكلمات أخرى فإن أعراضاً مرضية كثيرة ستنشأ عن تغيّر نسبة أحد مكونات البلازما لأي سبب كان، وقد تَصل خطورة الموقف إلى مرحلة تهدد حياة المريض. فسبحان من خلق فسوى، وقدّر فهدى!
خلايا الدم البيضاء
تعدّ خلايا الدم البيضاء واحدة من أهم خطوط الدفاع التي أوجدها الخالق تعالى في أجسامنا بغية حمايتها ممّا قد يغزوها من الكائنات الحية المجهرية؛ مثل البكتريا والفيروسات. وتؤمّن الكريّات البيضاء هذه، خلايا مناعيةً بأشكال عديدة تقوم بتوفير الحماية للجسم من الأمراض المُعْدية والالتهابية التي تنشأ عن تلك الأحياء الدقيقة.
يتراوح عدد الخلايا البيضاء بين 7-8 آلاف خلية في كل ملليلتر مكعب من الدم، وهي بذلك أقل بكثير من خلايا الدم الحمراء، وتتفاوت أحجامها وأشكالها، إلا أنها ذات حجم أكبر من الخلايا الحمراء، كما أنها خلايا عديمة اللون، ويعود ذلك إلى خلوّها من صبغة الهيموجلوبين التي سنذكرها لاحقاً.
وتقوم الخلايا الجذعية في نخاع العظام بإنتاج 120 ألف خلية دم بيضاء في الثانية الواحدة. وتمتاز الخلايا المصنّعة هنا بنشاطها في الحركة، وتخالف بذلك مثيلاتها من الخلايا الحمراء التي تميل إلى عدم الحركة وتلزم جانب الهدوء.
تهاجر خلايا الدم البيضاء باتجاه ما يدخل الجسم من البكتريا والفيروسات المختلفة ويتضاعف عددها، وتبدأ في الساحة معركة ضارية، حيث تحيط الخلايا البيضاء بفريستها من كل مكان وتشلّ من حركتها وتمنعها من التكاثر وغزو خلايا الجسم السليمة، ويُؤمّن ذلك درع وقاية يحمي الجسم من هجوم تلك الكائنات.
أنواع خلايا الدم البيضاء
ثمة أنواع مختلفة من خلايا الدم البيضاء، وقد تم تصنيف تلك الأنواع اعتماداً على وجود ما يعرف بالحُـبَيبات، وهذا يعني تمايز الخلايا البيضاء إلى فئات محبّبة وأخرى غير محبّبة، وذلك بمعاينة الخلية تحت عدسات المجهر الضوئي.
تكمن وظيفة حُبيبات الخلايا البيضاء بهضم ما تبتلعه من الكائنات الحية الدقيقة. وهناك ثلاثة أنواع من هذه الكريات البيضاء المحبّبة، وهي الخلايا المتعادلة والحمضية والقاعدية، أما الخلايا غير المحبّبة فتمتاز بغياب الحُبيبات عنها، وتضم كلاً من خلايا اللمفاويات، ووحيدات النوى، والبالعات.
تعدّ الخلايا المتعادلة أكثر خلايا الدم البيضاء عدداً، ولها دور رئيس في الدفاع ضدّ العدوى البكتيرية أو الفطرية التي قد تصيب الجسم، وتُعرف مجهرياً بنواتها المفصّصة ذات الشكل المميز.
ويحدث في حالات إصابة الجسم بأمراض الحساسية -كما هو الحال في داء الربو مثلاً- أن تتكاثر أعداد الخلايا الحامضية التي تطلق مواد كيميائية مثل ما يعرف بالهستامين، ويؤدي ذلك إلى ظهور أعراض الحساسية المختلفة.
وتتعامل الخلايا القاعدية مع ما يصيب الجسم من العدوى الطفيلية، وتسهم في الحدّ من نشاطها في الجسم. وزيادةُ عدد هذه الخلايا في عيّنةِ سائل الدم مؤشرٌ هام للإصابة بتلك الطفيليات، ومثال ذلك الإصابة بالديدان المعوية وداء الملاريا.
تمتاز الخلايا اللمفاوية بنواة غامقة غير مركزية، وتنتج أجساماً مضادة متخصصة تهاجم بها الكائنات المجهرية التي تغزو خلايا الجسم، كما أن لها مقدرة على قتل الخلايا السرطانية والخلايا المصابة بالفيروسات.
وتمتلك الخلية الوحيدةُ النواةِ نواةً واحدة لها شكل الكُلْية، وتمتاز بعمرها الطويل مقارنة بسابقاتها من الخلايا، وتغادر هذه الخلية مجرى الدم إلى الأنسجة المجاورة، وتتحول هناك إلى خلايا بالعة لتزيل حطام الخلايا الميتة، فضلاً عن دورها الرئيس في مهاجمة الأحياء الدقيقة المسببة للكثير من الأمراض.
خلايا الدم الحمراء
هي خلايا دائرية الشكل ومقعرة وتشبه القرص، وتنشأ من أنسجة خاصة في نخاع العظام الكبيرة مثل عظام الجمجمة والحوض والفخذ، وتتجدد هذه الخلايا بالكامل خلال 120 يوماً، فتتكسّر القديمة منها تدريجياً في الكبد والطحال، ويتم بذلك تصفيتها وإزالتها من الدورة الدموية، ويحلّ مكانها خلايا وليدة يضخّها نخاع العظم في مجرى الدم. ومما يلفت النظر هنا تحطّم أكثر من 180 مليون خلية دم حمراء في الدقيقة الواحدة، وما يتم مقابل ذلك من تولّد عدد مماثل منها نحو دوران الدم، وبذلك لا ينقص عدد تلك الخلايا من دم الجسم. فسبحان من أحسن كل شيء خلقه.
ويتراوح عدد كريات الدم الحمراء في جسم الإنسان بين 4-5 ملايين خلية في الملليلتر المكعب الواحد من الدم، وهي بذلك تصبح أكثر مكونات سائل الدم عدداً. وتتحكم الكلى ببناء كُريّات الدم الحمراء الجديدة في جسم الإنسان، ويتم ذلك عن طريق هرمون خاص يدعى بـ”الإريثروبويتين”.
ويعدّ الطحال مخزناً لما يفيض في الدم من خلايا الدم الحمراء، إذ يقوم بمد الجسم بحاجته من هذه الخلايا وضخّها عند حاجته إليها، كما يحدث في حالات النزيف الشديد مثلاً.
ولخلايا الدم الحمراء مقدرة فائقة على حمل غازَي الأكسجين وثاني أكسيد الكربون، ويعود ذلك إلى وجود جزيئات الهيموجلوبين التي تتألّف من بروتين يدعى “الهيماتين” الذي يكسب الدم لونه الأحمر، وبروتين آخر يسمى “الجلوبين” بالإضافة إلى معدن الحديد. وتحتوي كل كرية حمراء على أكثر من 300 جزيئة من صبغة الهيموجلوبين تلك.
يتحد الهيموجلوبين في كريات الدم الحمراء مع غاز الأكسجين الذي يدخل الرئة محمولاً مع هواء الشهيق، ثم يحمل سائل الدم هذا الأكسجين إلى خلايا الجسم وأنسجته المختلفة، ويأخذ ما تراكم فيها من غاز ثاني أكسيد الكربون الذي سيتحد بالمقابل مع الهيموجلوبين وسينتقل باتجاه معاكس نحو الرئتين ليتحرر هناك، ولتطرحه الرئتان من الجسم أثناء عملية الزفير.
الصفائح الدموية
هي أجسام صغيرة ذات قوام شفاف، ويبلغ حجمها ثلث حجم خلايا الدم الحمراء تقريباً، ويعني ذلك أن قطرها يساوي ثلاثة نانومترات (النانومتر الواحد يساوي واحد على البليون من المتر) وليس لهذه الأجسام شكل منتظم في سائل الدم، كما تفتقر أجسامها إلى النواة التي يمتاز بها الكثير من خلايا الأنسجة الأخرى. ويتراوح عدد الصفيحات الدموية الطبيعي بين 150-400 ألف صفيحة في كل ملليلتر مكعب من الدم.
تقوم أنسجة نخاع العظم بإنتاج الصفائح الدموية، ويصل عدد الصفائح المنتَجة إلى 5 ملايين صفيحة في الثانية الواحدة، ويتراوح عمرها في المتوسط بين 7-10 أيام، إذ يقوم الكبد والطحال بتكسيرها أولاً بأول، ويعوّض في الوقت نفسه نخاع العظم ما فقده الجسم من تلك الصفيحات، وتستمر دورات متعاقبات من عمليتَي الهدم والبناء هاتين، ولا يتوقف ذلك إلا في حال إصابة الجسم ببعض الأمراض.
وظائف صفيحات الدم
تكمن الوظيفة الرئيسة لصفيحات الدم في تكوين نسيج متين من الخثرات التي تُوقف عملية النزيف وبسبب قدرة هذه الصفيحات على الالتصاق والترابط فيما بينها، فإنه ينتج عن ذلك تكوّن مادة ذات قوام صلب تعرف بـ”الفيـبرين”، تتجمّع حول النسيج المجروح وتسدّ فتحات أجزائه المتهتكة لتمنع خروج الدم من خلاله.
تُفرز الكبدُ ما يعرف بمادة الهيبارين التي لها دور هام في وقاية الدم من حدوث الجلطات، إذ إن لها تأثيراً مضاداً لعمل الصفائح الدموية، وهذا يفسّر عدم تجلط الدم داخل الأوعية الدموية الغنية بالصفيحات الدموية.
يؤدي نقص عدد الصفائح الدموية في جسم الإنسان إلى عدم قدرة الدم على التجلط عند حدوث أي جرح أو إصابة، وهذا يعني بالضرورة استمرار عملية النزيف وعدم توقفه، وبالتالي فَقْد كمية كبيرة من دم الجسم. وتحتاج الكثير من الحالات هنا إلى نقل صفائح دموية لذلك المصاب، حتى يصل معدلها في دمه إلى المستوى الطبيعي الذي يكفي للحدّ من عملية النزيف.
ختاماً، فإن في جسم الإنسان الكثير من الأسرار التي ما زالت بعدُ غامضةً ولم يَكشف عن نقابها العلمُ الحديث، وإن ما وصلت إليه العلوم حتى الآن من التعرف على أسرار النفس البشرية، ما هو إلا جزء يسير من نور الحقيقة الرباني، وما تزال الطريق طويلة أمامنا لسبر أغوار المزيد من خفايا الأمور وحقائقها.
وما أحرى المتأمل لحال سائل الدم وما حواه من مكونات -شأنه بذلك شأن غيره من أنسجة الجسم- أن يدرك عظمة خلق الخالق تبارك وتعالى، حين أوجد لنا في أجسامنا ما تحتاج إليه من دعائم ومقومات تكفل استمرار مسلسل الحياة، وهذا مما يدفع بالدارسين والمتأملين للمضي نحو جادة المزيد من الإيمان بالله وآياته العظيمة. فهو سبحانه الذي أحسن كلّ شيء خلقه، وهو القائل في محكم تنزيله: ﴿وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾(الجاثية:4).