تعتبر الجاذبية من أهم العوامل الفيزيائية تأثيرًا على الكائنات الحية منذ خلق الله السماوات والأرض. وهي مَعلَمة فيزيائية كالضوء والحرارة والرطوبة والضغط الخارجي والارتفاع فوق سطح البحر. وقد تكون هذه العوامل مجتمعة في تأثير واحد كما في قوله تعالى: “فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ”(الأنعام:125)، هنا يجمع الله تعالى بين معلمتين هما الارتفاع عن سطح الأرض، ونقص الأكسيجين في الهواء عبر الضغط الخارجي، وقد يضاف إليهما عامل الجاذبية.
والنباتات من بين مخلوقات الله التي تؤثر بكل هذه المعالم، ليس لها وسط داخلي (Milieu İntérieur) كالحيوانات، مما يجعل التأثير مباشرًا. وهذا الوسط النباتي هو وسط طبيعي خارجي يتقلّب بتقلبات الجو، ويخضع لمعاملات فيزيائية جِدُّ دقيقة ومتنوعة ومعقّدة في الزمان والموقع الجغرافي. وللجاذبية تأثير مذهل على النباتات، وقد منح الله هذه المخلوقات أعضاء يمكنها أن تحلل النظم الخارجية المحيطة بها بدقة عالية ومعجزة. إن الأعضاء الحساسة لعامل الجاذبية، قد ذكرت في الآية الكريمة: “أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ”(إبراهيم:24) أن الأصل ثابت وهي الجذوع والفروع في السماء. فهذان العضوان هما الأكثر تأثرًا بالجاذبية. والدارس لهذه الظاهرة يمكنه أن يسلط الضوء على عمل الخلايا الحساسة المكونة لهذه الأعضاء. فعندما يوضع جذر أفقيًّا في حقل الجاذبية الأرضية، فإن طرفه ينحني نحو الأسفل ليعود إلى اتجاه نموه الطبيعي. وهذا ما يدعى بـ”النمو الجاذبي”. وهذا النمو يتوقف إذا اجتث رأس الجذر حيث تتموضع الخلايا الحساسة للجاذبية. (الصورة رقم1)
وقد لاحظ بعض العلماء في القرن الماضي بعد حصيلة من التجارب في المحطة الفضائية السوفياتية سيوز، أن الخلايا الحساسة التي توجد برأس الجذع (Coiffe) هي التي توجّه جواب الجذوع لتأثير الجاذبية، خاصة بعد مقارنة بين تموضع الجذوع تحت تأثير الجاذبية وأخرى تحت ظروف انعدام الجاذبية، فتبين أن هناك ترسب عضويات (Amyloplastes) كبيرة في الخلايا الحساسة بفعل الجاذبية، وتبين أن النمو الجذري يكون أضعف في حال انعدام الجاذبية. وهذه النظرية تبين التأثر بالجاذبية من خلال تغير في قدرة التوجه، ونقل هذه المعلومات إلى منطقة يتم فيها الانحناء الجذري. ويتم ذلك عبر عدة مراحل، أولها إدراك الجذر لتغير اتجاه الجاذبية، ثم ترجمة الإشارة، أي تحويل الفعل الآلي إلى إنتاج وتوزيع كيميائي حيوي. وهنا يكون المزج المعجز بين نظامين متباعدين، الأول فيزيائي وهي الجاذبية، والثاني كميائي وهي مواد تفرز في النبات. وتنتقل الإشارة القادمة من رأس الجذر، حيث يتم الإدراك والترجمة إلى موقع التأثر الذي يبعد بمليمترين عن الرأس، ثم ينشأ الانحناء الجاذبي في نمو الأجزاء العليا (الصورة رقم2) والدنيا (الصورة رقم3)من الجذور، حيث يمكن ملاحظة طول الخلايا في المواضع القريبة من الرأس بواسطة المجهر.
وقد أثبتت بعض التجارب أن الانحناء الجاذبي يَنشطُ بانتقال كابح للنمو من رأس الجذر باتجاه منطقة الاستطالة والنمو. في هاته الحالة تكون العضويات الجاذبة -واسمها أميلوبلاست- متموضعة قرب الجدار الخلوي الأبعد عن النسيج الإنشائي في مؤخرة رأس الجذر (Coiffe) . وهكذا يفترض وجود ضغط على بنية حساسة على الجدار الطولي لخلايا مسؤولة عن تمثل الانحناء الجاذبي.
وتُبين الدراسات أن هناك آلية تحد من انحناء الجذور على الأرض، في حين أنها تتوقف عن العمل مع انعدام الجاذبية. وهذا يفترض أن درجة انحناء الجذور، هي نتيجة قوتين متعارضتين ومتتاليتين؛ إحداهما تحرض رد فعل الانحناء الجاذبي، والأخرى تعدمه. (الصورة رقم4)
أكد البحث أن هناك علاقة بين الجاذبية الأرضية والنباتات، يجعل لديها القدرة على الانتصاب في حالة ميلها بسبب الرياح والحوادث الأرضية الأخرى، حيث إن لديها تقبّلاً ذاتيًّا بالوضع والحركات والتوازن.
وقد أجريت تجارب مع فريق من الطلبة بجامعة محمد الأول، كلية العلوم، وجدة، المغرب، على عدة أنواع من النباتات؛ منها العدس، وعباد الشمس، والجلبان، فتبيّن من الحسابات أن النبات لديه الإحساس بالميل والانحناء، مما يجعله يرجع إلى الشكل والوضع الطبيعي مرة أخرى، وأن ذلك يمر من خلال الخلايا الموجودة في الكوع الخارجي للساق الذي يقوم بتصحيح وضعه، وفي حالة وجود ضعف في هذه الخلايا، يكون من الصعب على النبات الانتصاب مرة أخرى. وما زالت الأبحاث مستمرة لمعرفة المزيد من المعلومات.
عند وضع نبتة في وضع أفقي، يتجه الساق إلى أعلى والجذر إلى أسفل (الصورة رقم5). وتسمى عملية اتجاه الجذر إلى أسفل بـ”الانتحاء الأرضي” الذي يظهر حالما تبدأ عملية إنبات البذور. ويعود ذلك إلى وجود زيادة في تركيز الأكسين عند ذلك الطرف، ويمنع التركيز العالي للأكسين في الجانب الآخر المواجه للأول، مما يعطي استطالة الخلايا في الجذور، ويبطء النمو عند ذلك الجانب، ويزداد انقسام الخلايا على الجانب العلوي، مما يسبب انحناء النهائي للجذر.
الاستجابة لعامل الجاذبية
دلّت بعض التجارب أن الجذور جدُّ حساسة للجاذبية، وهي تؤثر على خلايا الرأس الموجودة في قمة الجُذيْر، بواسطة حبوب نشوية تتجمع ويسبب وزنها في أسفل الخلية بتصحيح وضعها وإدراك الوضع الطبيعي الذي ذكر في الآية الكريمة؛ “أَصْلُهَا ثَابِتٌ”، وتنمو في الاتجاه الصحيح نحو الأسفل في داخل الأرض.
تفرز جميع النباتات بعض المواد التي تنشّط نموَّها، ومن بينها الأوكسين (Acetic Indolyl Acid) وهي هرمونات نمو النباتات. فهي تؤثر في بعض أقسام النبتة، وتسبب الجاذبية تركيز الأوكسين فيها كما كانت الحال سابقًا في حبوب النشا. وتحتوي خلايا الساق الحديث العهد والتي تقع في الأسفل، على كمية أكبر من الأوكسين. فهي تنمو إذًا وتتكاثر بسرعة أكثر، ويكون رأس النبتة متجهًا نحو الأعلى. فالخلايا القريبة من الرأس، هي التي تحتوي على نسب مئوية مرتفعة جدًّا من الأوكسينات، وعندما تتواجد الأوكسينات بكثرة، تفقد فعاليتها ولا تعود تنشط النمو والتكاثر. وبالمقابل، تحتوي الخلايا الواقعة بعيدًا عن رأس الجذور كميات أقل من الاوكسينات، إلا أنها كافية لتوجيه الجذر نحو الأسفل.
استشعار الجاذبية يكمن عند النباتات في انحناء الجذور في اتجاه الأرض، وهذا بزاوية ميل مصححة بطريقة رياضية، تستعمل فيها النبتة عمليات حسابية معقدة لتبيان مكامن الخطأ الجاذبي وبالتالي تصحيحه. عندما نقوم بعمليات قِطَع أفقية لنسيج جذور وضعت في وسط اصطناعي أفقي (الأرض)، ونقارنها بجذور نباتات وضعت عموديًّا على الطريقة العادية، نجد فرقًا شاسعًا بين موضع بعض العضيات والجزيئات داخل السيتوبلازما عند الخلايا الجذرية للنباتات التي وضعت أفقيًّا، أي بدون جاذبية. (الصور رقم2 و3)
خلايا الجهة العلوية لجذور نباتات أفقية تنمو بطريقة سريعة مقارنةً مع نفس الخلايا السفلية، مما يعطي فرقًا شاسعًا بين النمو العلوي والسفلي، والنتيجة هي الميل إلى الأسفل في اتجاه الجاذبية الأرضية. من بين العوامل الكيميائية المصاحبة لتصحيح زاوية الميل عند النباتات بعد الاستشعار الجاذبي، يمكن أن نستدرج هرمون الأكسين، وهو الهرمون المسؤول كليًّا عن تكوين الجذور، وحتى طريقة الاتجاه نحو الأرض بالنسبة للجذور والاتجاه نحو السماء بالنسبة للجذوع، مما يمكن استحضاره من الآية القرآنية: “أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ”(إبراهيم:24).
هذا الهرمون هو المسؤول أيضًا عن النمو وتمدد الخلايا النباتية، وهذا عبر ثلاثة مراحل؛ هي التمدد فدخول الماء ثم النمو. هذه المراحل تتم بالتتابع، ولها خاصية أنها بدون رجعة. الرسم أسفله يبين هذه المراحل.
هذا الفرق في تركيز الأكسين بين الجهتين، مسؤول عن تمدد الخلايا العلوية بسرعة نمو كبيرة مقارنة للخلايا السفلية (Differential Growth) لتكوّن استجابة الخلايا للتعديل الجاذبي.
إن وجود استجابة الجاذبية عند النباتات، والتي تتطابق مع النمو الموجهة في بعض الأعضاء في اتجاه قوة الجاذبية، يفترض أن هناك نظامًا أو أنظمة يمكن أن تتجاوب بشكل فوري مع الجاذبية داخل النبات.
يبدو أن هناك ضغطًا كبيرًا بواسطة البروتوبلازما، وهو غير متساوٍ في جميع مناطق الخلية الحساسة. هذه الخاصية تجعل مجال الإدراك عند الجذور، قابلاً لإعطاء إشارة التصحيح، وتكون هذه الخاصية آلية أخرى للإدراك أقلّ أهمية من الترسيب المرتبطة بجزيئات النشا.
وجود الجاذبية أمر أساسي لبقاء الأصناف خلال الإنبات، والجاذبية تُقدِّم باستمرار عاملاً بيئيًّا، يبدو أن العديد من العمليات اكتُسبت أثناء التطور، مما أدى إلى وجود عدة نظم داخل الخلية نفسها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) جامعة محمد الأول، كلية العلوم – وجدة / المغرب. تم إعداد هذا البحث من قبل أ.د. عبد المجيد بلعابد، والطلبة: بوشفرة حنان، والجوهري يزيد، ومالكي حورية.