تُشكّل الحرف التقليدية جزءًا أساسيًّا من التراث الثقافي والاجتماعي لأي مجتمع، فهي ليست مجرد ممارسات مهنية، بل تجسيدٌ حيّ لهويته وتاريخه. ومن بين هذه الحرف، تبرز مهنة سنّ السكاكين كواحدة من أقدم وأهم الحِرف التي ارتبطت بحاجات الناس اليومية وفي المناسبات الدينية والاجتماعية، وخاصة في موسم عيد الأضحى المبارك. تحمل هذه الحرفة بين طيّاتها تاريخًا يمتدّ إلى العصور الفرعونية، وتمتد جذورها إلى مهنة الحدادة التي كان يُمارسها نبي الله داود عليه السلام، مما يمنحها بعدًا دينيًّا وروحيًّا يعزز قيمتها المجتمعية.
تُعبّر مهنة سنّ السكاكين عن مهارة تقليدية تتطلب دقة عالية وفهمًا متقنًا لأدوات الصقل والشحذ، وهي تمثل كذلك موروثًا شعبيًّا يعكس نمط حياة وتقاليد متوارثة عبر الأجيال. تهدف هذه الدراسة إلى تسليط الضوء على الأبعاد التاريخية واللغوية والاجتماعية لمهنة سنّ السكاكين، وتوضيح دورها كطقس تراثي قائم لا يزال يحتفظ بحضوره في المجتمعات المعاصرة، خاصة خلال فترة عيد الأضحى المبارك، حيث تتجدد فيه مظاهر الاحتفال والممارسات التقليدية.
أصل ونشأة سنّ السكاكين
تُعدّ مهنة سنّ السكاكين من الحِرَف التقليدية العريقة ذات الجذور التاريخية العميقة، إذ يُرجّح أن نشأتها تعود إلى العصور الفرعونية، حيث ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بمهنة الحدادة، التي عمل بها نبيّ الله داود عليه السلام، وكان بارعًا في صناعة الدروع والسيوف وصقلها. وقد شهدت هذه الحرفة ازدهارًا ملحوظًا خلال العصور الإسلامية، لتستمر كأحد الموروثات الحرفية التي حافظت على حضورها في الذاكرة الشعبية والممارسات المجتمعية، خاصة في المواسم الدينية مثل عيد الأضحى المبارك.
أما من الناحية اللغوية، فمصطلح “سَنّ” مشتق من الفعل “سَنَّ” (بفتح السين وتشديد النون)، ويعني الصقل والتزيين. فيُقال: سَنَّ الشيءَ يَسُنُّهُ سَنًّا، وسنّنه أي جعله حادًّا ومصقولاً ومزخرفًا. ويُستخدم أيضًا في تعبير “تسنين السكين”، أي شحذها وتنعيمها. أما “السِنّ” (بكسر السين) فيُقصد به حدّ السكين، و”سِنانُ الرُّمحِ” تعني حديدته، لما فيها من لمعان وحدة، ويقال “أسنتُ الرمح” أي جعلتُ له سنانًا.
آلية سنّ السكاكين قديمًا
كانت عملية سنّ السكاكين في الماضي تُنفّذ بالطريقة التقليدية باستخدام قرص حجري يُعرف بـ(الجَلْخ)، وهو دولاب من حجر خاص يُستخدم لصقل السكاكين والأدوات الحادة. تعود كلمة “جلخ” إلى أصل فارسي من كلمة (جَرخ) التي تعني “دولاب” أو أي جسم يدور حول محور. كان حجر السن يُدار قديمًا بواسطة محور مثبت على قرص متحرك، ويتم تشغيله بواسطة بدّال القدم، وذلك قبل ظهور المحركات الكهربائية التي غيّرت هذه الحرفة جذريًّا. كان السنّان يمسك بالسكاكين بين باطن يده والحجر الدائر أمامه، ويحرك السكين يمينًا ويسارًا حتى يصبح حدّه حادًّا، بينما يُشغّل الحجر بدفع القدم.
بعد إتمام عملية السنّ، تُغسل السكاكين وتُحك على السيراميك لإزالة أي شوائب أو زوائد من الصلب نتجت عن عملية السن، وذلك لضمان أمان استخدام السكاكين وسلامتها. كانت هذه الطريقة التقليدية تستغرق وقتًا وجهدًا إضافيين مقارنة بالطرق الحديثة. ومع دخول الوسائل الميكانيكية والكهربائية إلى المهنة، زادت سرعة الإنجاز بشكل كبير، إلا أن عملية السنّ على الحجر التقليدي تتميز بدقة أعلى مقارنة باستخدام ماكينات الجَلخ الكهربائية، حيث يضمن الحجر التقليدي حدًّا حادًّا دون انحراف أو اعوجاج في حد السكين. كما أن لكل نوع سكين طريقة سنّ خاصة تتناسب مع طبيعة الاستخدام الذي صُمم من أجله.
وهذه المهنة تحتاج إلى تركيزٍ شديد، وتتطلب انتباهًا ويقظة وثباتًا في اليد خاصة أثناء وضع السكين على الحجر، نظرًا لما يُحدثه الاحتكاك بين الحجر والسكين؛ مما ينتج عنه شرارات من النار قد تُصيب العامل في عينيه.
سنّ السكاكين وعيد الأضحى المبارك
تشهد مهنة سنّ السكاكين إقبالاً كبيرًا خلال فترة عيد الأضحى المبارك من قبل الجزارين، والأهالي، وربات البيوت، نظرًا لكثرة عمليات الذبح والسلخ وتقطيع لحوم الأضاحي في هذه المناسبة الدينية الهامة. فالناس يتقربون إلى الله تعالى بذبح الأضاحي، وهي من الشعائر الإسلامية المشروعة التي أكدها كتاب الله تعالى وسنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم. ونظرًا للحاجة إلى استخدام سكاكين حادة وسنينة لإنجاز عملية الذبح بكفاءة وسلامة، فإن السكاكين تتعرض للتلف والثلم نتيجة الاستعمال المتكرر، مما يدفع الناس إلى التوجه إلى الحرفيين المختصين في سنّ السكاكين والسواطير. كما يلجأ الجزارون إلى سنّ أدوات الجزارة الخاصة بهم بشكل دوري للحفاظ على جودة العمل وسرعته.
على المستوى العام، كانت هذه المهنة تحظى بطلب دائم من فئات متعددة، أهمها أصحاب محلات الجزارة والمسالخ الذين يعتمدون على السكاكين الحادة على مدار العام، بالإضافة إلى بائعي الأقمشة وأصحاب محلات الخياطة، الذين يحتاجون دائمًا إلى مقصات حادة. كما يحرص ربات المنازل على إرسال أدواتهن الحادة إلى أصحاب هذه الحرفة لتجديد حدتها. وتعكس هذه الممارسة الترابط الوثيق بين الموروث الحرفي والتقاليد الدينية والاجتماعية، ما يجعل مهنة سنّ السكاكين جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية والمناسبات الدينية في المجتمعات التي تحافظ على هذه الحرف العريقة.
الإسلام يدعو إلى سنّ السكاكين رأفةً بالحيوان
يحثّ الإسلام على سنّ السكاكين والعناية بها رأفةً ورحمةً بالحيوان أثناء الذبح، من منطلق آدابه الرفيعة في التعامل مع المخلوقات، والرحمة والرفق في الذبح الشرعي. فقد وردت في السنة النبوية أحاديث كثيرة تؤكد فضل الرحمة والإحسان إلى الحيوان، وتبين أن ذلك يعد سببًا في نيل رضا الله ودخول الجنة. ومن هذه الأحاديث ما جاء في صحيح مسلم؛ فعن أبي يعلى شداد بن أوس رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إنّ الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته”.
وفي هذا الحديث دعوة إلى الإحسان في كل شيء؛ والإحسان مصدر للفعل “أحسن يُحسن” ومعناه: أجاد وأتقن وأتى بالشيء على أحسن الوجوه وأكملها. ومن ضمن أشكال هذا الإحسان؛ الإحسان إلى الحيوان، ويشير الحديث إلى قضية الإحسان في ذبح الحيوان، فقوله صلى الله عليه وسلم: “إذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة”؛ دليل على إحسان هيئة الذبح وهيئة القتل سواء أكان ذلك في اختيار الآلة الحادة أو في صفة القتل وطريقته. كما يؤكد الحديث على ضرورة استخدام أداة حادة في الذبح بقوله: “وليحد أحدكم شفرته وليُرح ذبيحته”، حيث يشير إلى أن السنّ الحاد للشفرات يسرّع خروج الروح، مما يقلل من معاناة الذبيحة ويمنع تعذيبها لفترة طويلة. وقد اعتبر العلماء هذه النقطة شرطًا أساسيًا في أدوات الذبح الشرعية. وبناءً على هذه المبادئ، انتشرت مهنة سنّ السكاكين وتجهيز أدوات الذبح المختلفة، بما يضمن تحقيق هذه الغاية الإنسانية والشرعية في آنٍ واحد.
سنّ السكاكين: موروث حضاري يواجه خطر الاندثار
تشهد مهنة سنّ السكاكين في العصر الحديث تهديدًا جديًّا بالاندثار، حيث بات من يمارسونها يتركونها للعمل في نشاطات أخرى أكثر ربحية واستقرارًا ماليًّا. وللأسف، لم تعد هناك أجيال جديدة ترغب في مواصلة هذه المهنة التقليدية، إذ بات الأبناء يرفضون توريثها عن آبائهم بسبب قلة عائدها المادي وصعوبة استمرارها كمهنة مربحة. وقد أصبح تشغيل ورش سنّ السكاكين التقليدية محصورًا على قلة من الحرفيين الذين يسعون للاحتفاظ بهذا التراث المهني والحفاظ على مهنة آبائهم وأجدادهم رغم التحديات الاقتصادية والاجتماعية.
يُطلق على من يقوم بهذه المهنة اسم “السَنّان”، أو “سَنّان السكاكين والآلات الحادة”، وقد اشتهر هؤلاء في الماضي بأنهم كانوا يتقاضون أجورهم غالبًا على شكل كسرة خبز جاف أو بعض الحبوب، مما يعكس بساطة الحياة في تلك الفترة. وكان السنان يتجول في الشوارع وهو يحمل دولاب سنّ السكاكين الخاص به، مطلقًا شعاره الشهير: “أسن السكين؛ أسن المقص”، وقد أصبح هذا الشعار جزءًا لا يتجزأ من التراث والموروث الحضاري الشعبي. وقد أعرب المستشرقون والباحثون الغربيون عن إعجابهم بهذه المهنة، فقاموا بتوثيقها بدقة في كتاباتهم ورسوماتهم، حيث صوروا السنان في ورشهم وبين معداتهم التي يستخدمونها، معبرين عن واقعيتها وإتقانها، لتصبح هذه الرسومات سجلًّا بصريًّا هامًّا يخلد هذه المهنة التي تواجه خطر الاندثار.
وأخيرًا، تحتاج هذه المهنة للتوثيق العلمي الببليوغرافي ضمن توثيق الحرف والمِهن الشعبية بشتى الوسائل وبأعلى مستويات البحث العلمي والإخراج الفني حفاظًا على هذا المأثور الشعبي المهم خوفًا عليه من الضياع، باعتبار الحفاظ عليه هو حفاظٌ على الهوية؛ فهي جزء أصيل من التراث الحضاري والطبيعي. وتحتاج مثل هذه الحرف إلى اهتمام الحكومات بها وتفعيل أنشطة وبرامج معنية لحماية هذا التراث.
المصادر والمراجع:
- محمد بن مكرم بن علي، أبو الفضل، جمال الدين ابن منظور الأنصاري (ت711هـ)، لسان العرب، المجلد الثالث، دار صادر، بيروت، لبنان، ط3، 1414هـ/1993م، ص2123.
- عزالدين نجيب، موسوعة الحرف التقليدية بمدينة القاهرة التاريخية، جزءان، جمعية الأصالة لرعاية الفنون التراثية والمعاصرة، القاهرة، ط1، 2005م.
- سعدي الضناوي، المعجم المفصل في المعرب والدخيل، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ص157
- سعيد مغاوري محمد، الألقاب وأسماء الحرف والوظائف في ضوء البرديات العربية، مطبعة دار الكتب المصرية بالقاهرة، المجلد الأول، 1421هـ/2000م، ص346-347.
- https://www.saaid.net/Doat/binbulihed/67.htm
- https://www.alukah.net/sharia/0/99182/
- https://www.islamweb.net/media/index.php?page=article&lang=A&id=64670
- https://www.alukah.net/sharia/0/99182/#ixzz5tS26rUXm