الاستعانة بالله معناها: صلاح العبد في ركونه إلى الله تعالى واعتماده عليه وطلبه العون منه؛ فالمُلْكُ ملكه، والتدبيرُ تدبيره، ولا حول للعبد ولا قوة في شيء من أمره إلا بعونه سبحانه وتوفيقه؛ فاستعانة العبد بمولاه سبيلٌ لتحقيق ما يتمناه، ومن أعانه الله تعالى فهو السعيد الموفق، ومن خذله سبحانه فهو الشقي المخذول.
فالعبد محتاج إلى الاستعانة بالله في فعل المأمورات وترك المحظورات والصبر على المقدورات كلها، ولا يقدر على الإعانة على تلك الأمور إلا الله عز وجل، فمن حقق الاستعانة عليه في ذلك كله أعانه الله، ومن ترك الاستعانة بالله واستعان بغيره وكَلَه الله إلى من استعان به وتوكل عليه، فيصير حينئذٍ مخذولاً.
فمَهمَا يَكُنْ للعبد مِن استِعدَادٍ وَجدٍّ واجتهادٍ، فَإِنَّهُ لا غِنى عَن تَوفِيقِ اللهِ تعالى له؛ لأن الإنسان لا حياة له إلَّا بقيوميَّة الحق جل جلاله على هذه الحياة، ولا ذاتية له إلَّا بما كان مستمدًا من الله تعالى؛ قال سبحانه: [وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّـهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَـٰكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ]، وقال عزَّ وجلَّ: [وَلَـٰكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُم].
فما نريد أن نبينه هنا هو أن يعلمَ العبدُ أن الاجتهادَ من الله، والتوفيق من الله، والمداد من الله، والعون من الله:
إِذَا لم يَكُنْ عَونٌ مِنَ اللهِ لِلفَتى | فَأَوَّلُ مَا يَجنِي عَلَيهِ اجتِهَادُهُ |
وإن كان عونُ الله للعبدِ واصلا | تأَتَّى لهُ من كُلِّ شيءٍ مِدادُهُ |
فتوفيقِ الله عزَّ وجلَّ لا غنى عنه للعبد، والعبد هو من يختار وجهتَه ويحدد بُغيَته، إمَّا الهداية وإمَّا الغواية؛ [فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ]، أي: ييسره له ويعينه عليه؛ ثم تأتي ثمرة ذلك أن يعيش العبد في معيَّة ربه وفي كنفه وجاهه [أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ].
والعبد متقلبٌ في كل لحظة، فقد يرد عليه من الأحوال والأمور ما يصرفه عن الطاعة أو العبادة، ولذلك أُمِرَ العبدُ أن يسأل الله تعالى الهداية في كل ركعة يصليها، فيدعو بقوله [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] فيسأله الهداية والتوفيق والمداومة على الطاعة، وكان من دعاء أولي الألباب ما ذكره الله تعالى: [رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ] وقد قال رسولنا الكريم صلى الله عليه وآله وسلم لسيدنا معاذ بن جبل رضي الله عنه: يا معاذ إني لأحبك؛ فقال له معاذ: بأبي أنت وأمي يا رسول الله وأنا أُحبك، قال: أوصيك يا معاذ لا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول: “اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسنِ عبادتك“.
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكثر من دعاء: «اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك»، ولما سُئلَ صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك قال: «نعم، إن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء».
وطلب التوفيق من الله تعالى في العبادة هو دأب الأنبياء وعبادة الأولياء:
فمن دعاء سيدنا شُعَيبٍ عَلَيهِ السَّلامُ: [ومَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّـهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ].
وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وآله وَسَلَّمَ يعلم السيدة فَاطِمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهَا أَن تَقُولَ إِذَا أَصبَحَت وَإِذَا أَمسَت: «يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحمَتِكَ أَستَغِيثُ، وَأَصلِحْ لي شَأني كُلَّهُ، وَلا تَكِلْني إِلى نَفسِي طَرفَةَ عَينٍ أَبَدًا“.
وكما قال العلماء: أَجمَعَ العَارِفُونَ بِاللهِ أنَّ التَّوفِيقَ هُوَ أَلا يَكِلَكَ اللهُ إِلى نَفسِكَ، وَأَنَّ الخِذلانَ هُوَ أَن يُخَلِّيَ بَينَكَ وَبَينَ نَفسِكَ.
فالتوفيق للعبادة والاستعانة عليها هي من الأمور التي لا تُطْلَبُ إلا من الله سبحانه، إذ لا يقدر عليها إلا هو سبحانه وتعالى، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: «والله لولا الله ما اهتدينا، ولا صُمنا، ولا صَلينا».
قال سيدي ابن عطاء الله السكندري: (من علامة الاعتماد على العمل نقصان الرجاء عند وجود الزلل) أي: من علامات تعويل العامل على عمله أن ينقص رجاؤه في رحمة الله عند وجود زللٍ منه.
فالأعمال كلها من رب العالمين كما قال في كتابه المكنون: [وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ].
ومهما بلغ الإنسان من صفات الكمال لا بد له من الاستعانة بالله وطلب التوفيق منه، ومَنْ وَفَّقَهُ الله لتزكية نَفْسِه فَقَدْ أفلح وفاز، ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى﴾.
وهذا يتطلب من الإنسان أمرين:
الأول: ألَّا يرى نفسه في العبادة، العبد اللبيب الناصح لا يعتمد على سرابٍ، ولا يعول على وهمٍ، ولا يخدعه تزيين النفس وتلبيس الشيطان.. فقد روي أنّ عابدًا من بني إسرائيل عبدَ اللّه تعالى في سرب أربعين سنة، فكانت الملائكة ترفع عمله في السماء فلا يقبل، فقالت: ربنا وعزتك ما رفعنا إليك إلاّ حقًّا فقال عزّ وجلّ: صدقتم ملائكتي ولكنه يحبّ أن يعرف مكانه.
الثاني: أن يكون الاهتمام بقبول العمل أشد من الاهتمام بالعمل نفسه:
ولذلك كان اهتمام السلف الصالح بقبول العبادة أشد من اهتمامهم بأدائها؛ إذ لا يدري أقبلت منه أم لا؟ فيستولي هَمُّ القَبول على مجامع القلوب؛ مصداقًا لقول الله تبارك وتعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾ [المؤمنون: 60]؛ فعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: قلتُ: يا رسول الله! قولُ الله: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ﴾، أهو الرجل يسرق ويزني ويشرب الخمر وهو مع ذلك يخاف الله؟ قال: «لَا يا ابْنَة أبي بَكْرٍ -أو يَا ابْنَةَ الصّدِيقِ-، وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ يَصُومُ وَيُصَلِّي وَيَتَصَدَّقُ وَيخافُ أنْ لا يُقْبَل مِنْهُ».
وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجه: “كونوا لقَبول العمل أشدَّ همًّا منكم بالعمل؛ ألم تسمعوا الله يقول: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾.
وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول في آخر ليلة من رمضان: “مَن هذا المقبولُ منا فنهنيه؟ ومن هذا المحرومُ المردودُ فنعزيه؟ أيها المقبول هنيئًا هنيئًا! أيها المحرومُ المردودُ جبر الله مصيبتَك!”.
وقال عبد العزيزِ بنُ أبي روَّاد: “أدركتُهم يجتهدونَ في العملِ الصالح، فإذا فعلوه وقع عليهم الهمّ؛ أيقبلُ منهُم أم لا؟”.
وقال مالك بن دينار: الخوف على العمل ألَّا يُتقبل أشدُّ من العمل.
وهذا الهمُّ القلبي يُطلِقُ اللسانَ بطلب قبول العبادة من الله سبحانه وتعالى؛ فإنَّ اللسَانَ ترجمان الجَنَان؛ كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «فَإِنَّمَا يُعَبِّرُ عَنِ الْقَلْبِ اللِّسَانُ».
فيرجع الإنسان مرة أٌخرى إلى الاستعانة بمولاه، فيكون عمله دائرًا على الاستعانة بالله؛ ابتداءً في التوفيق والإمداد، وانتهاء برجاء القبول والاعتماد.
والله سبحانه وتعالى خير هاد، وصلى الله على خير العِباد وسَيِّد العُبَّاد سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم التناد.