ولقد علمت لتأتين منيتي | إن المنايا لا تطيش سهاما |
نستهل حديثنا بكلمات من الشعر الجاهلي، حيث نتمعّن في شعر لبيد بن ربيعة العامري، كغيره من الشعراء السابقين له والمتفقين معه، تناوله للعجز الإنساني عن فهم قضاء الموت أو التدخل فيه؛ وهو موضوع مهم ليس فقط للأدب وللفلسفة، ولكن للأديان كلها على مر التاريخ البشري.
وفي عصرنا الحالي، لا يتم تناول الموضوع بعمق من قبل الكثيرين، وغالبًا ما يتم التعرض له بشكل سطحي. ويعود ذلك إلى تطور الخدمات الصحية والتقنيات المتقدمة، الذي مكّن المؤسسات من العناية بالأشخاص وتقديم الرعاية الخاصة لهم، مما جعلهم يبتعدون أو يتجاهلون فكرة الموت كنهاية حتمية للحياة، ويخفون عن هؤلاء مرحلة مهمّة جدًّا كان الوسط الاجتماعي والعائلي يعيشها قديمًا، وهي فترة التحضير لهذه اللحظة النهائية الحتمية.
كم من المرات التي كرر فيها العلمانيون والملحدون ومن لا يعترفون بالأديان هذه العبارة بشكل هزلي: أن الله يحتاج إلى الموت وأن الموت لا يحتاج إلى الله. وعلى الرغم من ذلك، وإن كان هذا يخالف رأيي ولا اتفق معهم، إلا أنني مدين لهم بالشكر فقد دفعوني إلى التفكير مليًّا، ولولاهم ما توصلت إلى هذه التأملات وما خطر لي هذا على بال. في رأيي أنه قد كان لفكرتهم هذه دور لا يستهان به في أن يتقرب الناس أكثر إلى الايمان أو على أقل تقدير، في أن يزداد الرجاء في الآخرة عند كثير من المؤمنين.
ولكن يبدو هذا سطحيًّا، بل وتافهًا إذا تمعنْتَ فيه جيدًا، النهاية مثل البداية مثل أي شيء، فحياتنا كتبت بشكل يناسب مساحة الزمان والمكان اللذين نتواجد فيهما، وهذا حسنٌ كي يتواضع الجميع، وإلا فسيزداد الجنس البشري غرورًا. ولذلك لا بد لهم من معرفه الحقيقة، وأنه سيأتي يومٌ يتركون كل شيء. عليك أن تتخيل المساحة الزمنية المفتوحة أمامهم لو لم يكن هذا اليوم آتيًا. ورغم أن هذا التعبير الأخلاقي لا يروق لي، فالكتاب المقدس في سفر الإنشاد، يؤكد أن “المحبة قوية كالموت، والغيرة قاسية كالهاوية، لهيبها لهيب نار لظى الرب”.
الموت يرعبُنا كنهاية لكل شيء، لأنه محمل بالقلق واليأس والتخوف من عدم رؤية أشخاص قد يكونون غاليين علينا أكثر من أنفسنا. ولكن كيف من الممكن أن يكون الحب قويًّا مثل الموت؟
أعتقد أن الحب يفاجئنا ويخيفنا أكثر، بينما الموت ينهينا بالكامل.
الحب هو الشي الوحيد القادر على تغييرنا، الشيء الذي يحتاج فعلاً إلى الاهتمام والجهد، مؤلم أكثر من غيره ولكنه الأجمل ثمرًا على الإطلاق.
لهذا نرى الشاعر “إليوت” يكتب ويقول: “أبريل هو الشهر الأكثر ألمًا”؛ حتى أن استيقاظ الطبيعة في فصل الربيع يأتي بألم الصمت الشديد. أيضًا الحب يستمر مهما يستمر ولا ينطفئ أبدًا، بل إنه في أغلب الأحيان ينتقل من العفوية إلى الفعل الاختياري، آخذًا على عاتقه مسؤولية التحرّر التي تستمر حتى آخر مدى.
قد يمكننا أن نحكم على الأمور قبل تجربتها، ولكن ذلك سيكون دربًا من دروب عدم النضج والبرود وانغلاق العقل، وستنقص القدرة على شرح المنطق أو الذهاب به إلى مدى أوسع مثل احتواء الشريك والأشياء الصغيرة وليس لوقت قصير، بل من عمق التاريخ البشري للاحتفاظ بالجنس البشري. كل هذا لا بد له من حدود جيدة للفهم، وفهم الاختلاف بيننا وبين المخلوقات الأخرى، نحن لا نأكل، ولكننا نتقوت ونتفاعل ليس بحدود المعرفة فقط، ولكن هو فن المعايشة.
نحن لا نولد لنتزاوج ونموت فقط.. وهذه التحولات في موقفنا تأتي في شكل طقوس مصحوبة بإشارات واحتفالات ومشاركات جماعية، وللأسف تختفي أمام موقفهم الاستهلاكي التكنولوجي حتى الاختفاء في حدود الأحداث المعاشة يوميًّا ويجعلهم أيضًا أكثر عزلة، مصابين بالنقص، محملين بالخوف والعشوائية.
للأصدقاء الذين يخبرونني أن الله يحتاج إلى الموت ليخيفنا ويدفعنا إلى الإيمان به، أجيب أن الموت هو الذي يحتاج إلى الحياة، لأن كل نهاية تحتاج إلى بداية، وأنه كما يقولون: “في الطبيعة، المادة لا تفنى ولا تستحدث من العدم”. فربما يكون الموت بداية لشيء آخر.
الثنائية الغريبة
الحب والموت (آيروس وثاناتوس) هما دائمًا شريكان بشكل غير عشوائي منذ القدم، ثنائي محدد في جوهره رغم اختلاف المظهر والنهاية والأهداف، ولن نتطرق إلى طرقهما ومسلكهما، فأول كل شيء وآخره هو الله.
الموت يحتاج إلى الحياة، أو على أي حال يحتاج إلى شيء تنبض فيه روح حي كي ينهيه مثل النبات والحيوان، فالتكلم عن موت الجماد لا يكون إلا في مقام الاستعارة فقط.
ولذلك فإن تعريف دورة الحياة نفسها، يحتاج إلى الموت، وهو غير كامل بدون الموت، ويصبح بلا معنى إذا لم نعط المعنى الجوهري المحدد لماهيته. فمن الواضح أن الحياة لها نقطة بداية ولذلك لا تنهي نفسها، بل يأتي في الاعتبار أن ما ينهيها هو كبر السن (الشيخوخة)، أو المرض، أو اليأس.. فهذه الاختبارات ما زالت تأخذ جزءًا من واقع دورة الحياة بالرغم من سلبيتها أو عدم فاعليتها. فمن الممكن أن نؤخّر التقدم في العمر ونجعله مقبولاً. والمرض أيضًا لدينا الاستطاعة على علاجه والشفاء منه، واليائس أيضًا يتم علاجه ويمكن الأخذ بيده حتى عبور المواقف، بينما الموت وحده هو المنحنى الذي لا رجعة منه؛ تتغير الحالة ككل وبشكل نهائي، وعلى أقصى تقدير يمكن القول بأنه الأقل ألمًا حيث ينتهي طريق المعاناة في حالة من التحرر، وهنا تنتهي المعاناة ويأتي الشعور بالراحة الأولى التي كانت من قبل البداية.
العدو الحقيقي
وما زلت أكرر الشكر للذين طرحوا علي التساؤلات وفتحوا أبواب فكري في هذا الموضوع بجدية وعمق. واكتشفت أن الموت يوقف حركة الحياة المستمرة نحو القيامة ونحو إعادة التحرك كما قال بعض الفلاسفة والمفكرين منذ القدم: إن الله هو الحي، و{كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}. وعندما ننظر إلى خلق الإنسان من علق ونفكر في أصل الكلمة، نكتشف أنها تشير إلى العلاقات لما لها من نفس الجذر وهي العلاقات الشخصية، وبالفعل فإن شخصيتنا تتكون وتتطور بفضل العلاقات مع الآخرين منذ بداية حياتنا إلى نهايتها، وستكون إعادة التحرك كما يرى بعض الفلاسفة والمفكرين منذ القدم.
كما يؤكد على ذلك “مار بولس” في قوله: “آخر عدو يبطل هو الموت” (1 كو 15:26)، وإن كان بكل تأكيد هذا القول ليس بجديد، بل هو يمثل العديد من وجهات النظر الفلسفية الدينية لمن قبله ومن بعده، لمن يسيرون على الايمان والرجاء، مما يخفف من الخوف الذي قد يتسرب إلى نفوسهم من فكرة بلوغ النهاية، من خلال خلق أمل في استمرارية وجودنا (أو على أقل تقدير جزء منه)، بعد اجتياز هذه المرحلة، وصولاً إلى التخيل الوصفي الدقيق لتلك الحياة الأخرى بتفاصيلها ذات القيمة الخالدة، التي لا تقارن بالوجود الأرضي الفاني والمحدود، التي وإن كانت مترتبة عليه ومرتبطة به ارتباطًا وثيقًا، إلا أن نتائج هذا الارتباط لا نهائية وسرمدية.
وأعود إلى التأكيد على الآيات الأولى التي نزلت على النبي محمد صلى الله عليه وسلم تقول: {خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ}، نجد هنا الحقيقة وهي أن الجنين يلتصق برحم أمه وتأتي هنا كلمة “علق” لتوقفنا عند الأبعاد الإلهية الكامنة في لفظ علاقة وهذا المعنى يعطينا تفسيرًا آخر لمدى علاقتنا بالخالق وعلاقتنا بأنفسنا والآخرين. وهناك مثال آخر: فيبدأ القرآن بكلمة “باسم الله” وينتهي بكلمة “الناس”، هنا لا أرى رسالة أكثر وضوحًا من هذا.
من الملاحظ أيضًا أن كلمة Anastasis، والتي تعني “قيامة” في اللغة اليونانية، تفسرها على أنها نهاية الركود الناجم عن الموت. وذلك لأن الحياة مستمرة وفي حركة دائمة، ونجد أيضًا على مستوى التفسير في مفهوم العالم الآخر بعض النظريات القديمة التي ترجع إلى التاريخ القديم، إلى جانب أن هناك كتابات تتحدّث عن الثواب أو العقاب في الأبدية، من بينهم لاهوتيون أرثوذكس. كما نلاحظ في مفهوم Tikkn Olam (إصلاح العالم) في اليهودية، أما في المسيحية فقد تحولت إلى فكرة Apocatastasis (إعادة الدمج) أو (الاستعادة إلى الحالة الأصلية أو الأولية)، بينما في الإسلام نجد مفهوم “فناء النار”، فنرى في تلك المفاهيم منظورًا أكثر جرأة وافتراضية نحو استعادة الانسجام البدائي أو حتى نهاية العقاب بشكل قاسٍ احترامًا للقدرة الإلهية على الرحمة. وأعتقد أن ذلك مهم أيضًا للتغلّب والانتصار بشكل نهائي على الشر.
وبالنظر إلى رأي الكثير من المفسرين على أساس الآيات الكثيرة التي نزلت لتوضح هذا، فإن معظم البشر سيكونون ضحية محكومًا عليهم نهائيًّا، وذلك بسبب استسلامهم لإغراءات العدو الأول وهو “الشيطان”.
(*) الجامعة الكاثوليكية بميلانو / إيطاليا.