مرحبًا يا من خلقه الله في أحسن تقويم. أنا الأخطبوط، جئتك من قيعان البحار لأحدثك عن نفسي وأقص عليك عجائب خلقي. أعرف أنك تستغرب من شكلي وتصميمي، ولكن لم أفهم حتى الآن، سبب خوفك مني واختراع القصص المرعبة حولي!؟ أنا في الحقيقة حيوان خجول جدًّا لا أحب إظهار نفسي كثيرًا، ولعل حرفتي في الاختباء جاءت من خجلي هذا. أحب العيش في قيعان البحار، وأفضّل في غالب الأحايين استيطان أخاديد الصخور والشعاب المرجانية في جميع المحيطات، حيث أتميز بالتكيّف والتأقلم السريع مع ظروف المياه الساخنة والباردة.
جسم بلا عظام
إن جسمي أملس ورخو للغاية، ورخاوته هذه تأتي من عدم وجود هيكل عظمي فيه ما عدا كبسولةِ غضروفٍ يحمي المركز العصبي في رأسي. يَنْسبني علماء البحار إلى عائلة الرخويّات (Mollusca)، أو إلى فصيلة الرأس قَدَميّات الرخويّة (Gastropoda)، وذلك لتمتّعي بأذرع عديدة تتصل برأسي. جميع الفقاريات تتحلّى بهيكل عظمي يسهّل لها الحركة ويحافظ على شكل أجسامها، أما اللافقاريات فتغطّى أجسامها بغطاء صلب يتكوّن من مركب “الكيتين”، وكوني من اللافقاريات، فجسمي بطبيعة الحال يخلو من الهيكل العظمي، ولكن هذا يوفر لي التحرّك السهل والسريع إلى حدٍّ كبير.
فكما أن الهيكل العظمي نعمة عظيمة ومزية كبرى لديكم أنتم البشر، فإن عدم وجوده لديّ نعمة ومزية كبرى أيضًا. لقد خلق لي ربي أعضاء متناسقة مكمِّلة لبعضها البعض لأتمكّن من البقاء على قيد الحياة وأواصل حياتي اليومية. إن عدم وجود الهيكل العظمي لديّ يجعل جسمي مرنًا للغاية، وهذا يساعدني بالدخول إلى تحت الصخور عبر شقوقها الصغيرة لإيجاد مسكن أسكن فيه، أو لإيجاد غذاء أقتات عليه.
أعضاء في كيس
عندما قام العلماء بتشريح جسمي، ذهلوا من تصميم أعضائي الداخلية؛ إذ وجدوا أن القلب والمعدة والكلية داخل جسمي المرن الشبيه بالكيس، قد وُضعتْ بعناية فائقة. إن قلبي يتكوّن من ثلاث غُرَيفات متصلة ببعضها البعض، كما أن دمي يجري باللون الأزرق، والسبب هو وجود الهيموسيانين المركب من الصباغ النحاسي بدلَ الصباغ الحديدي الكائن في الهيموغلوبين الذي يضخ الأكسجين داخل أجسامكم. أما الغدد اللعابية في القناة الهضمية مع المختبر الطويل الملتوي والمتكوّن من المعدة والكبد والمعي الأعور؛ يقومان بهضم ما تناولتُه من طعام، ثم ينتقيان منه المواد الغذائية ويتم إرسالها إلى دمي ومن ثم توزيعها إلى جميع أطراف جسمي. كما أن خياشيمي التي تضخ الأكسجين الذائب في الماء، متموضعة داخل جسمي أيضًا. بالإضافة إلى ذلك، إني أملك غدّتَين كليويَّتَين تقومان بطرح فضلات أيض النيتروجين إلى الخارج، ونتيجة لهذه العملية يتم تنقية دمي من المواد المضرة ومن ثم أحمي نفسي من التسمم. ولا بد أيضًا أن أذكر لك -عزيزي الإنسان- أن لساني مكسوّ بطبقة تشبه الجلد المدرَّع بالأسنان الصغيرة والحادة وهي التي تساعدني على تفتيت الطعام وتقطيعه.
كيفية التحرك لديّ
أستخدام التجويف داخل جسمي لامتصاص مياه البحر ثم ضخّه مرة أخرى إلى الخارج عبر قناة تسمى القمع، وذلك لأندفع بسرعة كبيرة بالاتجاه المعاكس، تمامًا مثل البالونة المنتفخة التي تندفع بالاتجاه الخلفي بقوة الهواء الذي يخرج من فوهتها. وأنتم البشر تطبّقون هذه الآلية على تقنية الطائرات الحربية التي ساهم في صناعتها مئات العاملين وعشرات المهندسين بعد خبرة سنين طويلة، ولكن ربي الذي أتقن كل شيء خلقه، أوجدني بـ”كُنْ” فقط، دون عي منه ولا تعب.
حرفة التمويه لديّ
إن بعض الباحثين يطلق عليّ اسم “حرباء البحر”، ولعلهم محقّون في ذلك؛ لأن أهمّ خصوصية أتحلّى بها هي تغيير لوني بشكل سريع للغاية، حيث أقوم -عند الاضطرار- بتغيير لوني وفق لونِ ونقوش المحيط الذي أحلّ فيه وبشكل أسرع من الحرباء البرية. علمًا بأن موهبة التمويه لديّ وتمتّعي بهذه الميزة البديعة لم تظهر فجأة نتيجة جهدٍ من مخلوق عاجز مثلي، بل إن صاحب القدرة الأزلية والرحمة الأبدية هو مَن وهبني هذه الميزة العجيبة، وهو -كذلك- العليم الخبير الذي جهّز جلدي بخلايا اللون وخلايا عاكسات الضوء، وربط حركتها بنظام الجهاز العصبي لدي لأغير لوني حسب ما أريد.
مَن يقول إني غير متطور؟
إني أستغرب كثيرًا من الذين يسعون -وبإلحاح- وراء نشر نظرية التطور التي تطلق ادعاءات باطلة؛ من قبيل أن الحيوانات اللافقاريات -مثلي- متخلِّفة أو غير قابلة للتطوّر. ولكن ينسون أن صفة البساطة والتخلّف وعدم القابلية للتطوّر هي تعابير نسبية تتبلور حسب رغبة الشخص ووجهة نظره. علمًا بأن كل حيوان يتميز بخصوصية أو يتحلى بعضو يتناغم وطبيعتَه يساعده على البقاء على قيد الحياة؛ كسمك القرش الذي يتميز بحاسّة الشمّ، والصقر الذي يتميز بحاسّة النظر، والخفافيش وسمك الدلفين اللذان يتميزان بحاستي السمع وإصدار الأصوات. لا سيما وإن هذه الحيوانات بهذه الخصوصيات التي مُنحتْ لها، تفوق الإنسان بكثير. وكذلك أنا -الأخطبوط- الذي أبدوا كائنًا بسيطًا من حيث الشكل الخالي من العظم، أتميز بخصوصية تغيير اللون بطريقة سريعة جدًّا. لذلك ينبغي أن تنظروا إلى خصوصية كل حيوان بعين الحكمة، وبقصد معرفة الخلقة المتناغمة مع طبيعة حياة ذلك الحيوان، وليس بعين التخلّف أو التقدم، النشوء أو الارتقاء.
يقولون عنّي “ذكي”
إن الذين اعتبروني كائنًا غير صالح للتطوّر والنشوء لكوني من اللافقاريات، أدركوا -فيما بعد- أنهم على خطأ عندما وجدوا بعد بحوثهم أني أتمتع بخصوصية تغيير اللون إثر التوتر أو الغضب، وأني أتميز بحركاتي الذكية وبقابليتي على التعلّم السريع. ولعلّي لا أبالغ إذا قلتُ لكم؛ إني أذكى حيوان بين اللافقاريات البحرية. ومما يجب الإشارة إليه أن العُقَد العصبية لمراكز الحواس في رأسي والقريبة من بعضها البعض، تشكّل نموذجَ دماغٍ معقّد للغاية لديّ. لا أدّعي -طبعًا- أني أذكى منكم أنتم البشر، ولكن هذه المقارنة بيني وبين شقيقاتي الحيوانات فقط. وعن طريق هذا الذكاء الذي وهبنيه الله لإدامة حياتي، أقوم بإنجاز أعمالي بشكل سهل ويسير. مثلاً، أقوم بوضع حجر صغير بين صدَفتي بلح البحر لأمنعه من الانغلاق، ثم أُدخل ذراعي من هذه الفتحة وأتناول ما في داخل هذا الكائن. ليس هذا فحسب، بل أستطيع أن أدوِّر غطاء الجرة حتى أُخرج القريدس الموجودة فيها أيضًا. ولكن أرجوكم، لا تُرجِعوا كل هذه الأفعال الذكية والمعقدة إليّ، إنما أنا فقط أتحرك بإلهام من ربٍّ عليم.
حدَقة مستطيلة
لقد اكتشف العلماء منذ سنوات عديدة التصميم المتميز لعيوني؛ اكتشفوا أن في عيوني عدسة كعدسة الفقاريات، وشبكة عين تحتوي على 20 مليون خلية تؤدي مهام استقبال الضوء، وحدَقة عيني مستطيلة تشبه الكاميرا الفوتغرافية والغرفة المظلمة للصور. إني أستطيع بعيوني هذه، أن أرصد كل ما يحيط بي في زاوية 180 درجة دون تحريك رأسي قيد أنملة. ولقد أخطأ مرة أخرى أصحابُ نظرية التطور الذين أسندوا كل ما في الطبيعة إلى الصدفة، عندما أسندوا هذه الصدفة أيضًا إلى عيوني؛ وذلك لأن عيوني جُهِّزتْ بآلية بديعة تقدر على رؤية الموجات الضوئية التي تهتز 70 مرة في الثانية الواحدة. أنشدكم الله أيها الناس، أيعقل أن توجد آلية بهذه الدقة صدفةً؟! إنها لعمري آلية لا يهبها لكائن ضعيف مثلي إلا خالق عليم خبير يسجد له كل مَن في السماوات والأرض.
إفرازاتي السامة
إن نوع الأخطبوط صاحب الحلقة الزرقاء، يتميز بإفرازه السمّ القاتل، إذ يستطيع قتل فريسته خلال دقائق بلسعة واحدة فقط. وفضلاً عن هذا النوع الخطير منّا، فهناك أنواع سامة أخرى ولكن غير مؤذية للإنسان. في الحقيقة لا أحد منّا يلسع إنسانًا لم يتحرّش به ولم يستفزّه. إني أستخدم عضلات فكّي الصلبة المصنوعة من الكيتين والشبيهة بالمنقار، عندما أصطاد الأسماك الصغيرة، وأصطاد القشريّات من السلطعون، وسرطان البحر، والقريدس.
التجدد السريع
إن أذرعي الثمانية المتصلة برأسي هي كل شيء بالنسبة لي، حيث أستخدمها في السباحة، والتسلق، وفي مواجهة العدو، والإطباق على الفريسة، وكذلك في بناء بيتي. كما أستطيع من خلال المِمَصّات في أذرعي، أن ألتصق بقوة بأجسام الحيوانات أو الكائنات الأخرى. هذا وقد يوجد في كل ذراع لي 240 مِمَصة، ومن خلال المستقبلات الكيميائية المتموضعة في أطراف هذه الممصات، أتمكّن من شمّ الكائنات وتذوّقها، ومن ثم أقرّر تناولها أو عدم تناولها. ولا بد من الإشارة إلى نقطة مهمة في هذا الصدد، وهي أني عندما أقوم أحيانًا بالهروب من ثعبان السمك، والدُّلْفين، وسمك القرش، وبعض ثدييات البحر، يُبتر ذراع من أذرعي الثمانية، ولكن أحمد الله تعالى أن زوّدني بنظام يُعيد لي الذراع المبتور خلال ستة أسابيع، فيخرج ذراع جديد مكانه يؤدي مهامه التي كان عليها سابقًا. فأحمدك اللهم على هذه النعمة العظيمة التي وهبتني إياها.
أما شَعري فيتراوح طوله ما بين 5 سم إلى 5 أمتار. حجم جسمنا صغير، ولكن طول الأذرع لدينا يصل إلى 5 أمتار، وهذا بطبيعة الحال يضخمنا في نظركم. إننا لا نقوم بأي فعل يؤذيكم أيها البشر، وإن التصقنا بأحدكم في البحر من دون شعور، فلا تخافوا ولا ترتبكوا، عليكم فقط أن تهدأوا قليلاً، لأن معظمنا لا يحب الكائنات الهادئة التي لا تتحرك، حيث يتركها ويبتعد عنها بعد فترة قصيرة من الزمن.
التوازن البيئي العجيب
تضع أنثانا ما يقارب الـ150 ألف بيضة، ثم تمكث لرعاية وحماية بيضها مدة تتراوح من شهر إلى شهرين؛ إذ تنظف البيض من الطحالب والبكتريا وتنفث عليه بين الحين والآخر المياه حتى يصل إليه أكبر قدر من الأكسجين، بالإضافة إلى إخفاء بيضها من العدو حتى تفقس. ولكن رغم ذلك، نفقد أكثر من ثلثي هذه الأفراخ كطعمٍ للأسماك. أما الأفراخ الباقية على قيد الحياة، تنمو للتكاثر وإدامة نسلنا. ولا شك أن هذه حكمة إلهية في إقامة التوازن البيئي لا يدركها إلا أولي النهى.
لا أريد أن أثقل عليك أيها الإنسان بالتفاصيل المملة، فأكتفي بهذا القدر من الحديث. أرجو أن أكون أفدتُّك بهذه المعلومات البسيطة التي تجلّتْ في جسمي وأزاحتْ الأستار عن القدرة الإلهية في هذا الكون الفسيح.
(*) جامعة 9 أيلول / تركيا. الترجمة عن التركية: نور الدين صواش.