التصفيق في العالم المعاصر أصبح ممارسة اجتماعية شائعة في معظم المجتمعات في القرن الحادي والعشرين حيث تستطيع رؤيته وسماع صداه في أسواق الصين، وفي الحفلات الشعبية على ضفــاف الأمازون، وفي المقاهي العربية وساحات اللعب الأوربية وفي قاعات الذكر التركية، ورقصات الأدغال الإفريقية وغيرها، وهذا الانتشــار الكوني ربما يكشف عن أن التصفيق أصبح ممارسة مشتركة بين أبناء البشرية على اختلاف ألوانهم وألسنتهم. ومن ثم فــإنه يوشك أن يكون سمة جوهرية للإنسان المعاصر.
بادئ ذي بدء، فإن فكرة التصفيق لإظهار التقدير هي سلوك مكتسب. ولا يعرف التصفيق قيود العمر أو النوع. فالأطفال الجالسون على مقاعد الدرس يتشوقون لتصفيق قرنائهم لهم، وينتشون به حين ينالونه. والشباب الملتفون في حلقة غناء تتجاوب أيديهم مع النغم تصفيقًا، وصفوة العلماء يُلهب التصفيق أيديهم احتفاءً بزميل أسدَى للعلم خدمة، أو أفنى في طلبه عمرًا. هذه السياقات لا ينفصل فيها رجل عن امرأة أو طفل عن طفلة، ونادرة هي السياقات التي يختص بها أحد النوعين بالتصفيق دون الآخر؛ وكأن التصفيق أصبح نشاطًا عامًّا لا يعرف التمييز على أساس النوع أو الجنس.
وأول الإشارات التي يتعلمها الطفل خلال اكتساب مهارات التواصل هو التصفيق، فكم تشعر العائلة بالسعادة حين يصفق طفلها لأول مرة، فتطلب منه مرارًا تكرار تلك الحركة وعادة يبدأ الأطفال بالتصفيق قبل بلوغهم عامًا واحدًا، ومن دون التشجيع من أولياء الأمور قد يميل هذا السلوك إن لم يتم استخدامه غالبًا إلى عدم الاهتمام، وبالتأكيد عدم إظهار التقدير.. وببساطة الطفل يستطيع اكتشاف أنه يمكن أن يسبب ضوضاء بيديه عند استخدامه التصفيق. من هنا، يبدأ الآباء عادة (سواء بوعي أم لا) بتعليمهم استخدام هذه الحركة والصوت لإظهار الحماس.
إن التصفيق هو الطريقة شبه الشاملة التي نعرض فيها تقديرنا لشيء ما، خاصةً عندما نكون في مجموعات كبيرة. لكن هل تساءلت يومًا عن السبب في أن الصفع بين أيدينا قد أصبح مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالموافقة وحيث نشأت هذه الممارسة؟ كما يستخدم التصفيق أيضًا للتعبير عن الرفض من خلال إبطاء الإيقاع وزيادة الفاصل الزمني بين كل تصفيقة وأخرى، وهو تصرف يشبه في رمزيته ما يلجأ إليه بعض الغاضبين عندما يضربون بكف يدهم على ركبهم إظهارا لما يعتريهم من غضب
إن التصفيق ممارسة ثقافية؛ لذا تختلف طريقة استخدامه ووظائفه وكيفية تأويله من ثقافة إلى أخرى ومن مجتمع إلى آخر. ومع ذلك فقد أدى كون التصفيق شعيرةً تواصلية في كثير من أشكال التواصل الجماهيري في الوقت الراهن إلى تحوله في بعض الأحيان إلى عرف مستقر، لا يختلف مداه الزمني أو مواقع حدوثه من ثقافة إلى أخرى.
مهارة تواصلية
وقد أدى هذا الطابع العرفي للتصفيق إلى تحوله في الوقت الراهن إلى مهارةٍ تواصلية، يُكتسب جزء منها من خلال الملاحظة والمحاكاة والتقليد، ويُكتسب جزء آخر بواسطة التوجيه والإرشاد، ويتم صقلها بواسطة الخبرة والممارسة. وكأي مهارة تواصلية فقد يبرع فيها البعض؛ فيعرفون أنسب وقت للتصفيق، وأفضل كيفية له.. إلخ، ويبادرون بقيادة بقية الجمهور، فيسيرون بسفينة التصفيق حتى تصل إلى بر الفعالية.
هذا لا ينتقل إلى الرئيسيات الأخرى. فمن المعروف أن أقرب أقاربنا في المملكة الحيوانية يصفقون في بعض الحالات حيث تستخدم بعض انواع الحيوانات التصفيق كلغة إشارات وتواصل فيما بينها، وهذا السلوك يستخدم للدلالة على الخوف أو جذب الانتباه إلى أنفسهم –وعادةً عندما يجدوا الطعام– وليس لغرض الموافقة.
لكن من كان أول من قرر هذا الصوت (التصفيق) الذي يمكننا صنعه بأيدينا والذي يجب أن يستخدم لإظهار الموافقة أو الحماس؟
هناك من يعتقد أن أصل التصفيق يعود إلى فجر الإنسانية، على سبيل المثال، يقول بعض المؤرخين أن التصفيق ظهر في بعض الحضارات القديمة، كحضارة قدماء المصريين، حيث عثر على كثير من النقوش القديمة تظهر المصريين وهم يصفقون، وقد كان التصفيق في مصر القديمة أداة الإيقاع الأساسية لديهم.
كما عرفت الحضارة اليونانية ثقافة التصفيق، وتذكر المصادر التاريخية الأخرى إن من طور هذا السلوك هو “نيرون” (37 ـ 68م) طاغية روما الشهير، حيث كان مولعًا بالتصفيق، وهو أول من أسس مدرسة للتصفيق في التاريخ، وأنه كان يأمر حوالي خمسة آلاف جندي وفارس من أفراد الجيش بحضور الحفلات الموسيقية التي كان يـُغني فيها وهو يعزف على القيثارة، ليصفقوا له بعد أن ينتهي من الغناء والعزف
وقد افترض البروفيسور بيلا إيتكن من مدرسة المسرح بجامعة ديبول أنه عندما كان يجلس حول حرائق المخيم يحكي القصص، إلى جانب الاحتفال “بالقرع والدوس للأقدام… فقد بدأ التصفيق هناك أيضًا.
خيالات من زمن فات
في سنوات الطفولة كنت أنتشي بتلك التصفيقة السحرية التي تُفتَح على إثرها بوابة مغارة علي بابا بكنوزها؛ كنت أتخيل “سمسم” حارس البوابة في صورة كائن عملاق لا يفهم إلا لغة التصفيق. وبالمثل كان جِنَّا مصباح علاء الدين قادرَين على تلبية أقصى الرغبات استحالة بمجرد تصفيقة من يديه العملاقتين.
هكذا ارتبط التصفيق في ذاكرتي بالقدرة السحرية على تحقيق الأحلام. لا يهم أن يكون تصفيق يد هزيلة أنهكها الشقاء مثل يد علي بابا في حكايته الشهيرة، أو يد ضخمة كسولة لعفريت استراح (في سجنه) ألف عام كما هو الحال في حكاية مصباح علاء الدين السحري. وسواء أكانت التصفيقة مصحوبة بجملة “افتح يا سمسم”، أو تابعة لعبارة “شبيك لبيك عبدك بين إيديك”، فإنها كانت قادرة دومًا على اختراق قوانين الواقع، وإلقائي مباشرة في قلب عالم السحر الأبيض وربما سأظل أحلم بواحدة من هذه التصفيقات القادرة على تحقيق أحد أحلامي بالعدل أو الحرية.
يبدو أن ارتباط التصفيق بإنجاز الأعمال السحرية موغل في القدم. فقد عرفت الكثير من الثقافات التصفيق المصاحب للأعمال السحرية وللتحول من كائن إلى كائن آخر. فقد كان الساحر يصفق بيديه فتنقلب الفتاة الحسناء إلى قطة أو عصفور، أو تتحول الساحرة الشريرة نفسها إلى بومة أو غراب. وهو ما يتم تفسيره بواسطة قدرة التصفيق على القيام بتكثيف قوى حيوية بشكل مفاجئ، وإطلاق هذه القوى. لهذا اعتاد السحرة أن يستحضروا الأرواح التي يتعاونون معها -طيبةً كانت أم شريرة- بواسطة التصفيق، وأن يصرفوها بواسطة التصفيق أيضًا.
ومنذ ذلك الوقت أصبح التصفيق هو البوابة السحرية للقيام بمهمة الاستحضار والصرف. وانتقلت قدرة التصفيق على الاستحضار من عالم السحر إلى عالم الآلهة. فصلوات الشانتو في الهند تبدأ بتصفيقة وتنتهي بتصفيقة أخرى ليصبح التصفيق علامة إيذان للبشر بالوقوف بين يدي الإله، وعلامة إيذان بانصرافهم أيضًا. فالتصفيق لدى الشانتو أشبه بكلمة سر تعلن انفتاح أبواب السماوات أو انغلاقها.
بعد زمن ليس بالقليل انتقلت وظيفة الاستحضار والصرف من عالم السحر والآلهة إلى عالم البشر، وبحدوث هذا الانتقال تغيرت الأشياء التي يستطيع التصفيق استحضارها، واختلفت من ثقافة إلى أخرى ومن عصر إلى آخر. ففي ساحات القصور الملكية كان التصفيق دومًا أبرز تجليات السلطة العارمة التي يمتلكها الملك أو الخليفة أو السلطان فتصفيقة الجالس على العرش ذات قوة استحضار سحرية، ربما لا تقل قدرة عن تصفيقة الساحر الفعلي. الملك يُصفق بيديه فتنشق الحجب والحوائط عن راقصة تتثنى تخطف الأبصار، أو عن موائد ممتدة تحفل بما لذ وطاب، أو عن سيف صارم يقطع الرقاب.
سحر التصفيق
إن ما وراء التصفيقة دومًا مجهول. لا عجب إذن أن يُصبح الفعل ذاته مثيرًا للترقب؛ إذ لا أحد يعلم إلا الخليفة ذاته إن كانت التصفيقة بُشرى متعة أو نذير عذاب.
وقد عرفت العروض الفنية سحر التصفيق فقد كان بعض الموسيقيين، أمثال موتسارت وبيتهوفين كانا يكرران بعض من مقطوعاتهما بناءً على التفاعل الإيجابي من قبل الجمهور. ففي رسالة أرسلها موتسارت إلى والده عام 1778 عبّر فيها عن بالغ سعادته عن اللحظات التي قاطع فيها الجمهور عرضه بالتصفيق، ثم جاء بعض الموسيقيين بتقديم مقطوعاتهم دون فواصل لعدم السماح للتصفيق، ويُعد المؤلف الموسيقي “ريتشارد فاجنر” أول من عمل على إيقاف التصفيق. في العروض الموسيقية الكلاسيكية، وذلك حين طلب من الجمهور مباشرة عدم التصفيق عند نهاية العرض، وذلك في أول عرض لأوبرا بارسيفال، إحدى أشهر روائعه الموسيقية عام 1882.
مثال آخر هو العروض الفنية الحية التي تتضمن أيضًا ما يكاد أن يكون بروتوكولاً للتصفيق. فما إن يقف الفنان موسيقيًّا كان أم مسرحيًّا أم مغنيًا أم شاعرًا أم قاصًّا.. إلخ- بين يدي الجمهور حتى يبدأ الجمهور بالتصفيق تحيةً له، وقد يتخلل ذلك تصفيق آخر لإظهار الإعجاب وتصفيق ثالث لإعلان الرغبة في إعادة مقطع أو كوبليه معين، وتصفيق رابع في الفواصل الصامتة.. إلخ، وفي نهاية العرض تأتي تصفيقة الوداع.
ومثل الملك المتوَّج كان الفلاح المصري يُصفق بيديه لاستحضار البشر. مع ذلك فإن ما يقدر الفلاح على استحضاره محدود بحدود سلطته على بعض أهله؛ خاصة من النساء وعلى بشر قليلين مثل عمال المقاهي.
البيت والمقهى كانا المكانين اللذين يمارس فيهما العربي دورًا في سلسلة القهر. في البيت يصفق الفلاح فتأتي الابنة أو الزوجة طوع البنان، وفي المقهى يُصفق فيحضر عامل المقهى بين يديه، فيمارس عليه تسيُّدًا عابرًا ويطلب منجعصًا شيشة وكوبًا من القهوة أو الشاي، في صيغة أمرية قاطعة ولهجة تحذيرية بألا يتأخر المطلوب، أو ألا يكون مطابقًا لما يريد.
وهكذا لعبت المقاهي العربية دورًا كبيرًا في تصريف فائض القهر الذي يشعر به العرب طوال تاريخهم، وساهمت في الحفاظ على توازنهم النفسي! وتلك وظيفة أخرى للتصفيق.
إن أكثر المواقف التي يتجلى في التصفيق بصفة خاصة الخطابات السياسة فيما يسمى بـ (التصفيق الحار) الذي يمارسه أعضاء البرلمانات خصوصًا من وضع الوقوف ولأطول مدة ممكنة، حيث يهب أعضاء الحزب أو التكتل السياسي الذي منه رئيس الدولة أو الوزارة لاستقباله، ثم يقاطعون خطابه بتصفيق حماسي لتحريك مشاعر الرأي العام أو لتضخيم الهالة من حول الزعيم أو القائد.
ففي سياق الخطب الرئاسية على سبيل المثال يلتزم الحضور بالتصفيق فور دخول الرئيس المكان، فإذا كان سيتم تقديمه للجمهور فإنهم سيصفقون مرة ثانية حين يقوم ليعتلي المنصة التي سيخطب من ورائها. وغالبًا ما يقوم الحضور بالتصفيق مرات عديدة أثناء الخطبة، قبل أن يأتي التصفيق الأخير بعد انتهاء الرئيس من إلقاء خطبته..
وفي أمريكا، تحول التصفيق إلى صناعة ومال، خاصة في برامج “التوك شو” حيث يقف شخص ليؤشر للجمهور كي يصفقوا في فقرات محددة، ثم تطور الأمر إلى لوحة تضيء بالأخضر يكتب عليها “تصفيق”، ثم تضيء بالأحمر مع كلمة “قف”.
بين الفائدة والضرر
ربما يرجع انتشار التصفيق في معظم أشكال التواصل الجماهيري في مجتمعات العالم المعاصر إلى التأثير الهائل الذي مارسته وسائل الإعلام في القرن الماضي. فقد أدى التوغل الطاغي لوسائل الإعلام في أطراف العالم قاطبة إلى توسيع دائرة انتشار بعض السلوكيات التواصلية، وتبنيها بوصفها سلوكيات عامة نموذجية، ومن بينها التصفيق. ولأن من يملكون وسائل الإعلام وأدواتها هم دائمًا الأقوى سياسيًّا وعسكريًّا، فإن انتشار التصفيق في الأرض من أقصاها إلى أقصاها يمكن أن يُنظر إليه على أنه علامة حية على التأثير الذي تُحدثه الهيمنة الثقافية والإعلامية في العالم المعاصر.
ومن هذه الزاوية يمكن النظر إلى أعراف التصفيق المتجاوزة للثقافات بوصفها تبنِّيًا كونيًّا لثقافة الغرب في التصفيق.
ورغم أن التصفيق يعتبر من العادات الحماسية والمرحة التي تنم عن كل إعجاب واحترام إلا أن جامعة بريطانية عريقة أوصت بمنع التصفيق داخل الحرم الجامعي أو أي من المناسبات كحفلات الاستقبال أو غيرها.
وزعمت أنه يتسبب في القلق والتوتر لبعض الناس الذين يعانون مشاكل حسية بهذا الخصوص.
وقد أصدر اتحاد جامعة مانشستر بيانًا بذلك، يحظر هذه الممارسة الاجتماعية وذلك لأول مرة في تاريخ المؤسسة الأكاديمية.
وسوف يكون البديل ما يعرف بـ “إيماءة الجاز” وهي لغة إشارة بريطانية يتم فيها رفع اليدين لأعلى وتحريكهما قليلاً بلا صوت، كنوع من الترحيب أو التعبير عن الابتهاج أو الانتصار.
وقال بيان الجامعة: إن التصفيق يصدر ضوضاء تثير إشكاليات لبعض الطلاب ممن يعانون من الأصوات العالية أو مشاكل نفسية معينة.
وترغب الإدارة في أن يكون هذا الإجراء أكثر شمولية بتشجيع مجموعات الطلاب على فعل الشيء نفسه في كافة المناسبات.
رغم أن هناك معارضة من البعض على القرار، فقد حصل على موافقة بنسبة 66 بالمئة، ما يعني العمل به.
وقد دفع إلى هذا القرار حماية حقوق الطلبة الذين يعانون من إشكاليات نفسية أو بعض الأمراض في هذا الخصوص، ما يوفر لهم جوًّا أكثر راحة.
من ناحية أخرى فإن بعض الدراسات الحديثة بينت أن للتصفيق فوائد كثيرة للصحة والجسم، ويؤكد الدكتور الكوري تشو يونج تشون الذي ظل يجري بحوثًا في الفوائد العلاجية للتصفيق خلال الثلاثين عامًا الماضية.
إن عملية التصفيق عملية كيميائية تنبه أعضاء الجسم، خاصة الأمعاء، من خلال الأوعية الدموية التي تتجمع في منطقة كف اليد ونهاية الأصابع. حيث إذا تم التصفيق بقوة وجدية فسيمتد تأثير التصفيق من الرأس حتى القدم، حيث نشعر كأننا نقوم بتمرين رياضي وتدليك لكل مناطق الجسم.