تعتبر الشاهدية الإلهية أس الأسس التي يقوم عليها النظر الائتماني، فهي “صفة الشهادة التي يتجلى بها الحق سبحانه وتعالى على عباده، شاهدًا لأفعالهم وأحوالهم، جلها ودقها، وشاهدًا عليها بالحسن أو السوء، تبعًا لموافقتها أو مخالفتها لشريعته؛ فالشهادة الإلهية، إذن، تجمع بين العلم والحكم أو قل المشاهدة الإلهية عبارة عن مراقبة ومحاكمة”، “ومقتضاها أن الأصل في صلة المخلوق بالخالق، سبحانه وتعالى، هي صلة المشهود بالشاهد الأعلى، وأن صلة المأمور بالآمر الأعلى تابعة لهذه الصلة، بمعنى أن الشاهدية الاتصالية تتقدم على الآمرية التشريعية”، فإذا كانت الفلسفة الائتمانية تَعتبر الآمرية الإلهية الأصل في وجود القواعد الأخلاقية، فإنها تعتبر الشاهدية الإلهية الأصل في عملية التخلق الإنساني، وعلى الرغم من أن الشاهدية الإلهية تزود المتخلق بفضلين: فضل النظر الإلهي، وفضل الحكم الإلهي، إلا أن الأوامر الإلهية التي هي القواعد المتبعة في عملية التخلق استأثرت باهتمام كبير، بينما ترك الاهتمام بالشهادة الإلهية التي هي السبب المباشر الموصّل إلى هذا التخلق، أي أن النظر في الآمرية الإلهية غلب على النظر في الشاهدية الإلهية.
فالشاهدية إذن هي أن الآمر الإلهي سبحانه يراقب بنفسه إقامة أوامره ونواهيه، فهو يأمر ويرى، أي أنه يشهد، وشهادته تكون على ظاهر الأعمال التي يأتيها المأمور وباطنها، فإما أن يحكم عليها بالصلاح ويقبلها، أو يحكم عليها بالفساد ويردها، وتَعتبر الفلسفة الائتمانية أن هذه الشهادة مهمة في تخليق الإنسان، إذ لولاها لما تحقق له تخلق، ناهيك عن كمال التخلق، وهكذا يتضح أن الشاهدية الإلهية تقتضي إثبات صفتين للإله هما المراقبة التي تفيد النظر في أعمال الإنسان، والمحاكمة التي تفي تقويم هذه الأعمال بتحسينها أو تقبيحها.
وإذا كان مفهوم موت الإله يدل على إنكار الآمرية الإلهية في الدهرانية، فإنه يدل فيما بعد الدهرانية على إنكار الشاهدية الإلهية، وفد أفضى ذلك إلى صرف الاعتقاد في وجود الإله وفتح الطريق لمقتضى الأنسنة، وقد اتخذ النقد الائتماني من قصة النهي الأولى التي عرفها الإنسان –أي قصة النهي عن الأكل من ثمر الشجرة- مرجعًا لنقد إنكار الشاهدية الإلهية، إذ يمكن اعتبارها أساس المنهيات الأخلاقية، لأن هذه المنهيات هي التي تضع الحدود للإنسان، وقد بني عليها النقد الائتماني نظرًا للأسباب الآتية:
– تعتبر هذه القصة الملكوتية قصة إنسانية كونية بامتياز، حيث ورد ذكرها في الكتب المنزلة، وصدق بها الكثيرون على اختلاف وجوه تصديقهم بها.
– تأثيرها في عموم الثقافات المصدقة بها، ونفاذها إلى عقولهم.
– إنزالها منزلة القصص الإنساني الجامع الذي لا غنى عنه في الوصول إلى تحديد الحقيقة الإنسانية (أو الأنتروبولوجية) للإنسان كما يفعل مع القصص اليوناني، حيث تم اتخاذه قاعدة لبناء معارف علمية صريحة على الرغم من يقينهم بأسطوريته، ومن ثم صار نقده الائتماني مبنيًّا على حقائق إنسانية كونية.
يفضي إنكار شاهدية الإله إلى إرجاع العنصر الإلهي في الإنسان إلى البهيمة إرجاع الإنسان إليها، وبذلك تزول الفروق بين المراتب الثلاث: الحيوان والإنسان والإله، فالوصول إلى الجانب الإلهي لا يتحقق إلا بتزايد القوة التي تنبثق من الطاقات الحيوانية الكامنة في باطنه، فيكون الارتقاء إلى الإنسان الفائق بطريق النزول إلى الحيوان، ومن ثم فإن التحول الذي يطلبه الإنسان الفائق لا يكون بالتعالي فوق القوى الحيوانية من الإنسان، وإنما على العكس من ذلك تمامًا، يكون بالتعالي إليها أو بالتعالي نحو الأسفل، وهذا يؤدي إلى “هتك الحجاب الذي بين الإنسان وبين العنصر الإلهي”.
كما يترتب عن هذا التصور الفاسد للألوهية نزع لباس الروح عن جسم الإنسان الفائق، مبرزًا بذلك سوءاته الباطنة، لأن الجسم بلا لباس الروح يظل سوءة، حتى ولو ستر ظاهره، شأنه في ذلك شأن سوأة الميت، فلا تنستر حتى يواريها التراب، إذ صار إنسانًا عاتيًا لا يطيق لباسًا، وهذا نتج عنه قلب القيم الأخلاقية إلى أضدادها، كحب القسوة بدل حب الرحمة.
وهكذا كشفت سوأة الإنسان الفائق عند “نيتشه” الذي تعدى الحدود أيما تعد، فبدأ بإعلان موت إلهه المزعوم، ثم نصب الإنسان الفائق شاهدًا مكان الإله، بعد أن تتلمذ على يد إله أسطوري وهو “ديونيزوس” “DIONYSOS“، وترتب عن هذا الادعاء مساوئ جمة، تتمثل في إرجاع الإنسان إلى رتبة البهيمية، بحيث صار قاسيًا لا رحمة معه، ومتوحشًا وشريرًا لا يخضع إلا لشهواته ورغباته، وقد أفضى هذا التعدي للحدود إلى جعل الحيوان والإنسان والإله في رتبة واحدة، بل جعل الوصول إلى الجانب الإلهي لا يتحقق إلا عن طريق الارتقاء بالإنسان إلى رتبة الحيوان، لأنه يعتبر الإنسان هو الحيوان الذي ابتعد ابتعادًا خطيرًا عن غرائزه، ومن ثم يكون تعالي الإنسان الفائق هو تعالٍ نحو الأسفل أي إلى درجة الحيوان، وقد أدى ذلك إلى هتك الحجاب الذي بين الإنسان وبين عنصره الإلهي.
ويظهر أيضًا أن “باطاي” نهل من معين “نيتشه” فقام بدوره بإنكار شاهدية الإله، ومن ثم فإن الإنسان السيد الذي دعا إلى إيجاده هو إنسان شارد بموجب إنكاره للشاهدية الإلهية، وقد ترتب عن ذلك نفس ما ترتب عند الإنسان الفائق حيث بلغ التعدي مداه عند الإنسان السيد، وقد أفضى ذلك إلى كشف سوأته إذ صار إنسانًا عاتيًا لا يطيق لباسًا، وهذا ما يجعل من الإنسان السيد ابنًا بارًّا للإنسان الفائق لطاعته له في عقوقه وإنكار شاهدية الإله وجودًا وماهية.
وتجدر الإشارة إلى أن أهل التحليل ينكرون ما يترتب على الآمرية الإلهية، أي الشاهدية، على الرغم من وجود اختلاف بينهم في طبيعة هذا الإنكار، فينظر “فرويد” إلى الألوهية من جهة الذات التي يختص بها الإله، لهذا فإنكاره للشاهدية هو عبارة عن إنكار كون الذات الإلهية تتصف بالشاهدية، على الرغم من إقراره باتصافها بالآمرية بعد موتها، بل لولا هذا الموت لما اضطلعت هذه الآمرية –حسب زعمه- بوظيفتها وبرزت بفاعليتها، أي أن اتصافها بالآمرية لا يتحقق إلا بالموت، وقد تقدم في عبارة الأرواح، أن هذه الأرواح لا تصبح مقدسة إلا بعد موتها، وهي نفس الفكرة التي قال بها فرويد، مما يدفعنا للشك حول تأثره بمقولات دين عبادة الأسلاف.
وينظر “لاكان” إلى الألوهية من جهة الاسم الذي يختص به الإله، لا من جهة الذات، وهنا يظهر الفرق بين المعلم الأول والمعلم الثاني في إنكارهما للشاهدية الإلهية، حيث إن إنكار “لاكان” للشاهدية ليس إنكارًا لاتصاف الذات الإلهية بالشاهدية، وإنما إنكار لاتصاف اسم الإله بها، مع إقراره بأن هذا الاسم يتصف بالآمرية كما يقر “فرويد” بكون الذات الإلهية تتصف بها، ويرجع السبب في تركه اعتبار الذات الإلهية إلى اعتبار الاسم الإلهي هو استناده إلى النظرية اللغوية التي بنى عليها فلسفته التحليلية النفسية.
وهنا يتبين أن أهل التحليل النفسي لا ينكرون الآمرية الإلهية كما ينكرها أهل الفلسفة من معاصريهم، وذلك بسبب اعتقادهم أنه لا يكون لهذه الآمرية أثرًا وفعلاً إلا بعد حصول موت الإله الأب، حتى وإن اختلفوا في تحديد نوع هذا الموت وزمن حدوثه، حيث ذهب “فرويد” إلى أن هذا الموت قد اتخذ صورة القتل الجماعي للأب البدائي في زمن غابر من التاريخ، بينما ذهب “لاكان” إلى أن هذا الموت وقع منذ الأزل وليس في زمن مخصوص.
وانطلاقًا مما تقدم يظهر أن الفلاسفة شبهوا الإنسان الفائق والإنسان السيد بآلهة الشرك على مقتضى التراث اليوناني، فحاولوا اقتباس بعض أوصافهم كالقسوة والتبذير والتدمير..، بينما شبه التحليليون هذا الإنسان الجديد بإله التوحيد على مقتضى التراث اليهودي المسيحي، منتحلين بعض أوصافه كالتشريع والتوجيه، ومن ثم فإن فئة ما بعد الدهرانيين الشاردة شاركت فئة الدهرانيين المارقة في الجهل بالقدر الإلهي، فكما تمادت الفئة الأولى في غيها وأسندت الألوهية إلى الإنسان من غير استحياء، فأنكرت بذلك آمرية الإله وجعلت مكانها آمرية الإنسان، تمادت كذلك الفئة الثانية في إغوائها، فأنكرت شاهدية الإله ونصبت مكاناها شاهدية الإنسان.
ينبغي التأكيد على أن صلة الآمرية ملازمة للخَلق بموجب الأمر الإلهي الأول “كن فيكون”، في حين أن صلة الشاهدية ملازمة للخُلق، بموجب “مبدأ الأمانة”، وبما أن الأمانة تقتضي وجود الاختيار لدى المأمور، فإن الإنسان يكون بين لحظة الأمر ولحظة الفعل يمارس حقه الائتماني الذي خوله له الآمر الأعلى جل جلاله، وفي هذه الفترة يراقب الإله المأمور، فيخرج من شأن الأمر إلى شأن المشاهدة، فإذا عمل العبد بأمره وأتاه على مقتضاه نال رضاه، وإن أتاه على غير مقتضاه باء بسخطه، ومن هنا تبين أن الفلسفة الائتمانية تعتبر أن الرضى والسخط هما اللذان يورثان فعل المأمور صفة الخُلق، فتخلُّق الإنسان إذن يحصل بمشاهدة الإله له، وليس بإلقاء أمره إليه، إذ لا يحصل التخلُّق بغير أمانة المأمور ولا مشاهدة الشاهد الأعلى.
وهكذا يتضح أن التصور الائتماني يقدم نقدًا للأنموذج الدهراني الذي أنكر آمرية الإله واستبدلها بآمرية الإنسان، حيث سعى إلى منازعة الإله في تربُّبه وتسيده، وللأنموذج ما بعد الدهراني الذي أنكر شاهدية الإله واستبدلها بشاهدية الإنسان، حيث سعى الإنسان الفائق وأبناؤه إلى منازعة الإله في شاهديته، كما يقدم تأسيسًا ائتمانيًّا لعلاقة الإله بالإنسان تتجاوز بؤس تصورات أهل الحداثة، وتتجاوز آفات الفقه الائتماني، ليبني تصورًا جماليًّا جعل الآمرية الإلهية تابعة للشاهدية الإلهية، مُقدمًا دليل الآمرية على دليلي الخلق والرزق لمعرفة الألوهية.
وختامًا: ينبغي التأكيد على أن الدليل على وجود الله في الفلسفة الائتمانية ينبني على معرفة الله من خلال التجربة الحية، أي الدليل الوجداني الذي يتوسل بالعقل المؤيد، أكثر مما ينبني على الدليل البرهاني الذي يتوسل بالعقل المجرد، فعلى قدر استبصار المتزكي يكون قدر معرفته بالألوهية، ومن ثم فإن المنظور الائتماني لا يقتصر على الأدلة والشواهد المرئية التي يلحظها الإنسان في نفسه وفي الآفاق من حوله أو على الأدلة النظرية التي يُنتجها العقل المجرد، بل يشمل أيضًا الشواهد الغيبية التي أودعها الحق سبحانه في فطرته –أو في ذاكرته الغيبية- دلالة على آمريته وشاهديتيه، لكن هذا الدليل لا يحصِّله إلا من زكى قلبه وطهر روحه، وقد اتخذت الائتمانية التجربة الحية سبيلاً لتحصيل هذا الغرض، إذ بها يعاين الإنسان الحقيقة الروحية التي حفِظتها له ذاكرته الغيبية، وهي أنه لا شاهد إلا الله، كما أنه لا آمر إلا الله، فضلاً عن أن الائتماني ينظر إلى الألوهية نظرًا ملكوتيًّا لا نظرًا ملكيًّا، حيث لا يقف المتزكي عند الظواهر، بل يتعداها للآيات والقيم المنطوية تحت هذه الظواهر، قصد الوصول إلى إدراك الألوهية تمام الإدراك حتى يأتيه اليقين.