بين صخرة وصخرة شعرة رقيقة جدًّا، تلكم هي أحوال ومسارات الحياة، سلبًا أو إيجابًا، ما إن ينفلت الإنسان من وقع شيء ما أو تأثيرٍ ما بحسب طبيعته وقيمته ودلالته، إلا وتجثم صخرة أخرى على صدره مجددًا، سواء في جانبه العقلي أو في جانبه العاطفي، وقد تجثم عدة صخور مجتمعة على كيانه ويرتطم بها في كل لحظات حياته، كل منها على شاكلتها الخاصة، ولكل منها دلالتها اللصيقة بها، في كل أحواله الحياتية حاضرًا ومستقبلاً.
ليست الصخرة هنا الشيء في ذاته، بل الشيء ونقيضه وامتداداته أيضًا، كيف يمكن للإنسان أن يعيش وقعها ويمكن له أن يفكر في نقيضه، أو يقبل أن يمتثل لها من دون ردة فعل إرادية تجاهها ولا مشروع فكرة للخلاص من تداعياتها؟ أو كيف يمكن له أن يخلق من خلال معايشتها أشياء أخرى ويضيف من ورائها قيما وأشياء أخرى؟
إنها تلك الصخرة التي تتأرجح بين الجدوى واللاجدوى، بين المنطق والعبثية، بين الخير والشر، بين النعمة والنقمة، بين القوة والضعف، بين الغاية واللاغاية، بين الأشياء وأضدادها، بين المعنى واللامعنى، بين القبيح والجميل.
صخرة الحياة فتنة الخير والشر
الحياة هي كل ما يعاش سواء في علاقة الفرد بذاته أو بغيره، أو في علاقة الجماعة بذاتها أو بجماعات وكتل إنسية وثقافية وحضارية أخرى، فليس كل ما هو معطى شرًّا مطلقًا، ولا هو بالخير المطلق، هنا تستحضر معاني الحياة بكل عوالمها وأشيائها، كل منها لها أبعاد وامتدادات، ما انفك الإنسان يحياها بأثقالها، خيرها وشرها. صخرة الحياة هذه تجعل الإنسان في مواقف متعددة، عليه أن يحسم فيما يمكنه أن يتخذ من قرارات أو تدابير، من داخل وضعيات تحدد وجوده في علاقاته بطبيعة الصخرة التي يرتطم بها، ولو إيجابيًّا، وليس في دلالاتها السلبية فقط، تفاعلاً واحتكاكًا، من خلال أفعاله وردود أفعاله، كل منها تحمله على قيمة ما، إما شرًّا أو خيرًا، ويبقى له الخيار في أن يرقى بإنسانيته في اتجاه الدرجات العليا أو يهوى بها نحو القعر، فهناك الصخرة التي تتحطم عليها إنسانية الإنسان، وهناك أخرى تقيم قيم الإنسانية على معمار الفضائل والمثل في كل جانب من جوانب الحياة الخاصة والعامة، كيفما كانت طبيعتها.
صخرة الحياة بناء أم هدم؟
مغامراتنا، صراعاتنا، أهواؤنا، دوافعنا، أفعالنا، ردود أفعالنا، أحداثنا، قلقنا، توتراتنا، يقيننا، لا يقيننا، شكوكنا، ندمنا، مشاغلنا، مخاوفنا، أحلامنا، انتظاراتنا، خيباتنا، طموحاتنا، نجاحاتنا، انتصاراتنا، تضحياتنا، هزائمنا، انتكاساتنا، فشلنا، تعثراتنا، أفكارنا، اعتقاداتنا، إيماننا، مشاعرنا، أحاسيسنا، رغباتنا، إراداتنا، علاقاتنا، آلامنا، أمراضنا، آمالنا، طرق تفكيرنا، علومنا، معارفنا، فلسفتنا، انتماءاتنا، وجدانياتنا، خبراتنا، تجاربنا، حبنا وكراهيتنا، ماضينا ومعيشتنا اليومية، وهمومنا المستقبلية… هذا وغيره مما يشكل حياتنا بتفاصيلها وعمومياتها، منها ما يدفع بنا إلى التحرر وإلغاء القيود والأغلال، ومنها ما يجعلنا نقبع تحت سياط العبودية ونرزح تحت قيود ما، منها ما يحقق لنا الفضائل ونرتقي في سلالمها، ومنها ما يجعلنا نهوى في قعر الرذائل، منها ما يبني أهرامًا إنسانية بدلالاتها القيمية والحضارية، ومنها ما يدك بناءات الحضارات والثقافات.. منها ما يقوي إيماننا تجاه القضايا الإنسانية والمجتمعاتية العادلة ومنها ما يؤدلج الاستعباد والطغيان، والاستبداد، والظلم، والاستغلال.. منها ما يحثنا على أن نناصر ونغالب ونرفع المظالم، ومنها ما يرفدنا للقهر والغلبة ونسف قواعد الإنصاف والعدالة.. منها ما يقوي فينا جبلة نصرة الحق، ومنها ما يكرس فينا التغاضي عن الباطل والمظالم.. منها ما يعيد الأمل وينعش فينا زهرة الحياة، ومنها ما يقتل فينا رمقها وبصيص أنوارها، ومنها ما يعيد فينا ترتيب عمران الحياة، ومنها ما يعمل على تدميرها وتخريبها.. منها ما يسن القواعد السليمة للتدافع الإنساني ومنها ما ينزع نحو النزعات والميول العدوانية والصراعية والتوحشية.
تلكم هي صخرة الحياة، إننا أمام معركة السؤال، ما العمل؟ لنعمل على تحويل مفهوم قيمة السلبي إلى مفهوم قيمة الإيجابي، ونجعل من مفهوم قيمة الإيجابي يسترسل في إنتاج الإيجابي والقيم من الأشياء والعوالم، من اللاجدوى إلى الجدوى، من العبث إلى منطق الأشياء والعوالم وعقلانيتها، من الأوجه القبيحة إلى أوجه الجمال، من اللامعنى إلى المعنى، ومن اللاغاية إلى الغاية.. من الهزيمة إلى الانتصار.
صخرة الأحوال وتقلباتها بين صخرة النعمة وصخرة النقمة
الحياة في تقلباتها تنطوي دوما على كل ما يحوي صخرة النعمة أو صخرة النقمة، على الانتصار والهزيمة معًا، على الدوافع الإيجابية والسلبية أيضًا، على الشيء ونقيضه، فيها ما يحركنا للمزيد من تحقيق الانتصارات (صخرة الانتصار)، وفيها ما يقتل فينا إرادة ورغبة الانتصار، ومن ثمة تقف في وجهنا صخرة الهزيمة، والهزيمة الفعلية هي حين تنكسر إرادة الحياة وتموت بداخل الإنسان، أن ننتصر فيما تفرضه الحياة من تقلبات، معناه أننا ننعم بما تجود علينا الحياة من نعم، وأن نزيل عقباتها من أمامنا، وندرأ نقم تقلباتها في أوجهها النقيض، الحياة ليست كلها انتصارات ونجاحات، بل ربما قد تكون إعادة ترتيب الفشل والهزائم بصيغة أو أخرى، إلا أن الانتصار الحقيقي هو حين يكون الإنسان يعيش الهزيمة وبالرغم من ذلك يفعل شيئًا ما أو يحاول، يعني أنه لم ينهزم أمام غول الفشل والهزيمة، أمام تقلبات الحياة الداعية للانكسار واليأس والإحباط.
أن يبقى الإنسان على قيد الحياة وهو مهزوم داخليًّا، معناه أنه لا محالة ميت، كائن بدون إرادة، الهزيمة المعنوية شكل من أشكال الموت المحقق، ولم لا؟ إنه ميت فعلاً.
فتنة الخير والشر متلازمة وجودية ما انفك الإنسان يعيشها ويعايشها بشكل يومي، مسترسلة في الزمان والمكان، إنها الصخرة التي ما لبثت ألا يحيد عنها الإنسان في حياته عامة، إنها مصارع الحياة، تثقل كاهله ولو في خيرها، فأنى له بشرها، دومًا في صراعه مع مشقاتها وتحدياتها، مشقات التحمل وتحديات التجاوزات، فكيف له أن يبقي على خيرها ويزيد من نعمها، وأن يحول بوصلة شرها إلى خيرها.
صخرة الخير فتنة وصخرة الشر فتنة معًا، هنا يطرح السؤال علينا جميعا نحن بني الإنسانية، فإذا ما كان كل شيء خير أو شر فتنة، هل نقدر على جعل فتنة الخير والشر نعمة بدل أن تنقلب علينا نقمة؟ هنا نقف على إرادات ورغبات أي كان منا، وعن وعينا الخاص بكل شيء هو معطى فينا أو أمامنا أو حاصلا بين أيدينا.
ألم يقل الله عز وجل في كتابه العزيز “لنبلوكم بالخير والشر فتنة “؟ كل من الخير والشر ابتلاءات خير وشر، كل الحياة في تقلباتها فيها الخير والشر، وهي فتنة بكلا وجهيها الجميل والقبيح، الحسن والسيئ، كل نعمة في طياتها نقمة، وكل نقمة في طياتها نعمة، هل يمكننا أن نخبر كلاً منها ونوجه كل شيء من كلا الوجهين وجهة نعمة بدل أن تعود نقمة علينا وعلى غيرنا؟
العقل، الذكاء، العبقرية، العلم، المعرفة، الفكر، الصحة، القوة.. الثروة، الملكية، الرفاه، الغنى.. نعمة أم نقمة؟ كل منا بحسب رؤيته وتصوراته، قد نستحيلها نعمة وقد نستحيلها نقمة، بحسب رغباتنا وأهدافنا من كل من هذا.
النقائص، الضعف، الفقر، الجهل حتى، المرض… الظلم، الفساد… نقم قد تعاش بشكل أو آخر، وقد تجتمع في كيان واحد، لكن كيف يكون الوعي بها والتفكير فيها؟ وهل تستحيل إلى نعم بما أمكن، أم أنها ستؤبد أبدية فتنة النقمة؟ هل ستحرره بالتفكير فيما يجب أن يكون، والعمل عليه أم أنها ستبقيه رازحًا تحت القيود والأغلال بشتى أنواعها؟
الحياة بين صخرة سيزيف وصخرة بلال الحبشي بين العبث والاستعباد والتحرر
أسطورة سيزيف الإغريقية لا زالت حاضرة بين ثنايا الفكر والحياة منذ أن وجدت في المتن اليوناني، والمعروفة بصخرة سيزيف، فقد صدر حكم الآلهة على سيزيف بمعاقبته بحمل الصخرة إلى قمة الجبل، لتتدحرج إلى أسفله، وهكذا يبقى سيزيف على هذا الحال إلى ما لانهاية، دون جدوى، صخرة سيزيف ترمز إلى العبث، إلى اللاجدوى من الحياة.. كل شيء لا طائل من ورائه.. لا معنى له… صخرة الإذعان/ الإكراه.
بلال بن رباح الحبشي كان عبدًا مملوكًا لسيده أمية بن خلف، وبعد أن اعتنق الإسلام، قام سيده بالتنكيل به وممارسة كل أشكال التعذيب عليه، حيث وضع صخرة على صدره كي يتراجع عن معتقده الديني الجديد، ورغم ذلك بقي صامدًا بقولته الشهيرة “أحد، أحد”، أي إعلانه لوحدانية الله وواحدية ربوبية الواحد الأحد، فاشتراه أبو بكر الصديق وأعتقه، وعانق بذلك الحرية بعد أن غادر أغلال الاستعباد والعبودية، إنها الصخرة التي تحطمت عليها أحلام المستبد السيد وإرادته، وهي الصخرة التي قادت إلى الإيمان بالقضية، الإيمان الذي يعيد إلى الإنسان إنسانيته وحريته وقدرته على الفعل الحر، والتفكير الحر، والعمل على قلب المعادلات من شرها إلى خيرها أو الالتزام بالعمل على قلب السلبي إلى الإيجابي.
شتان ما بين صخرة سيزيف وصخرة بلال الحبشي، الأولى حكمت على البشرية بالشقاء، بالعبث، باستعباد البشر، باستبداد القيود والأغلال، باستعباد إكراهات وضغوط الحياة، بالمأساة، باستبداد الوعي الشقي، باستبداد الأيديولوجيا، والثانية أقرت بإمكانية التحرر من القيود، من العبودية، دعت إلى إمكانية التحرر من استعباد البشر للبشر، أعلنت عن فتح أبواب الإمكان من الانعتاق من مخالب التحكم والسيطرة، إننا هنا بين صخرة الإذعان/ الإكراه وصخرة الاختيار.
الأولى صخرة يصعب معها الخلاص من كل ما هو معطى سلفًا وكل ما يمكن أن ينجز أو يعطى راهنًا، ومستقبلاً أيضًا، فقد رهنت البشرية وأرست قواعد أقدارها على أساس الخضوع لكل القوى، وما عليها إلا أن تسايرها فاتحة كل الأبواب على مصاريعها لتعبث فيها بكل ما شاءت أن تفعله، دون ردة فعل تذكر، أما الثانية فقد جعلت الإنسانية تحتكم على أساس ردة الفعل الممكنة تجاه أي شيء كان، تسائلنا عن كيفية ردود أفعالنا وإلى أي حد بقوانا قد يمكننا مواجهة وقع صخرة ما، انطلاقًا مما قد نؤمن به ونعتقده فيما يمكن أن نغالب به مصارع الحياة ومكابداتها وعوالمها وقيودها.
صخرة سيزيف تجعلنا نستعبد من جراء خضوعنا المطلق لما كل ما نبتلى به في حياتنا، ولا جدوى من ردود أفعالنا أو مجرد بذرة التفكير للخلاص من عبثيتها ولا جدواها، في حين صخرة بلال تقودنا إلى إمكانية الاعتقاد الجازم بإيماننا بقضايانا أننا قادرون على تغيير مجرى الأحداث وإيجاد متغيرات أخرى، لنتحرر من القيود، والانتصار على مكامن الضعف وإلحاق الهزائم بكل شيء من حولنا.
إن صخرة سيزيف ترغمنا على الخضوع وإبقائنا على الضعف، بينما صخرة بلال الحبشي تمكننا من استنهاض قوانا وعزائمنا وإراداتنا ورغباتنا لانتشالنا من مواطن الضعف إلى مواطن القوة، وتشحننا بطاقة الاستمرارية في إيماننا لنثور على كل ما من شأنه أن يستعبدنا ويخضعنا لقواه.
“الصخرة واحدة، مرة مع سيزيف مثالاً للعبث واللاجدوى، ومرة مع بلال مثالاً للإيمان يقوي الأشخاص، يحررهم من قيودهم، من ضعفهم.
في حياة كل منا، هناك دومًا هذا الخيار، صخرة ما، نجعلها كصخرة سيزيف، ونقضي حياتنا في العبث أو اللاجدوى..
أو صخرة نجعلها كصخرة بلال، تجعلنا مصاعبها نكتشف قوتنا..
دوما ثمة صخرة ما.. وهناك اختيار واع نختاره.. سيزيف أو بلال”
ختامًا: الحياة بما لها وما عليها هي صخرة في مجملها، إما أننا نجعلها نعمة لنا أو نخلق منها نقمة علينا، كل شيء فيها صخرة نعمة أو صخرة نقمة، إما أننا ننعم بما فيها أو نشقى بما أتيح وما هو معطى فيها، وإما أن نستسلم أو نقاوم، إما أن نفتتها ونبني بحباتها جبالاً من النعم، أو سيحطم عليها كل ما لدينا وسندمر كل مثل وفضائل وبناءات وأهرام الحياة.