إن حياة الإنسان، لا تسير على وتيرة واحدة، ولا تمضي على نمط واحد، بل هي خليط من التجارب المتنوعة والانفعالات والعواطف المختلفة، فالإنسان قد يشعر بالحب حيناً، وبالكره حيناً أخر، ويشعر بالخوف والقلق تارة وبالأمن والطمأنينة وسكينة النفس تارة أخري، ويحس بالفرح والسرور بعض الوقت وبالحزن والكآبة في بعض الأحيان، وهكذا تمضي حياة الإنسان في تغير مستمر وتقلب دائم، ويعد القلق من الأحاسيس المؤلمة وأساس المتاعب النفسية التي يعاني منها الإنسان المعاصر، حتى أصبح خاصية عامة وعالمية، حيث إن أحدث تقرير لمنظمة الصحة العالمية، أثبت ” أن 25 % من سكان العالم يشعرون بالتوتر والخوف والإحباط، وتوقع السوء، وحدوث ما يهدد حياتهم “(1).
ويعرف لنا علماء النفس القلق “بأنه انفعال يتسم بالخوف والتوجس من أشياء مرتقبة تنطوي على تهديد حقيقي أو مجهول، ويكون من المعقول أحياناً أن نقلق للتحفز النشط ومواجهة الخطر، ولكن كثيراً من المواقف المثيرة للقلق، لا يكون فيها الخطر حقيقياً بل متوهماً ومجهول المصدر “(2)، ونتعرف عبر هذه السطور على أنواع القلق وأثره على الصحة الإنسانية، ثم الوسائل التي وضعها ديننا الإسلامي، من أجل الوقاية منه.
أنواع القلق
يمكن لنا أن نقسم القلق إلى نوعين، قلق محمود، أو قلق ايجابي، وهو موجود عند كل إنسان، حيث أنه يمثل الحافز القوي لكل إنسان، لذا فإن البعض أو عزه إلى درجة من الضرورية من أجل السعي نحو الهدف والتقدم في شتي مواقع الحياة، ولهذا النوع من القلق صورًا عديدة في حياتنا، نذكر منها على سبيل المثال، قلق التلميذ أثناء أداء الامتحان أو القلق الذي يصبنا أثناء اتخاذ قرار هام، أو لقاء شخص ما، فمن خلال التوتر أو القلق الذي نظهره قبل حدوث هذه المواقف تهيئ أنفسنا لمواجهة هذه المواقف بنجاح، وأنه لو أتيح لنا أن ننجح في هذه المواقف ونتغلب على خجلنا وعوامل ضعفنا في اللقاءات الشخصية الهامة تاركين أثراً طيباً وايجابياً في الآخرين، فإننا نشعر بالعرفان والشكر لمشاعر القلق السابقة لمساهمتها في دفعنا الإيجابي نحو النجاح، فإن أمثال هذه المواقف يعد نموذجاً طيباً لما يسمى بالقلق الدافع، وهو قلق ضروري للنمو وللتطور بإمكانياتنا نحو تحقيق كثير من الغايات الإيجابية.
القلق المرضى
أما النوع الثاني من القلق وهو ما يطلق عليه علماء النفس، القلق المرضي، وهو قلق ضار ومعطل لإمكانيات الإنسان نحو النمو السليم، وتحقيق التوافق النفسي والاجتماعي بصورة سليمة، من حيث أنه يقيد الشخصية بأوهام الخوف والفشل اللامنطقي ويمثل سلوكاً تدميراً، يدعو للهزيمة الذاتية والاضطراب، وهناك صوراً لهذا النوع من القلق، كنموذج الطالب الذي يتملكه القلق في يوم الامتحان بصوره توقفه عن داء الامتحان ذاته والهروب من الموقف كله، أو تلك الأم التي تخشى على أبنائها من أخطار الحياة، لدرجة توقف نموهم وتفاعلهم الإيجابي بالحياة بحب فج وحرص بالغ، وهذا الطفل الذي يوقعه خوف الانفصال عن الأسرة على الذهاب إلى المدرسة بالمرض أو التمارض كل صباح، فكل صورة من هذه الصور السابقة، تمثل صورة لما يمكن أن نسميه بالقلق المرضي أو العصابي، الذي يمثل الشكوى الرئيسية للغالبية العظمي من الناس.
أثر القلق المرضى الصحة الإنسانية
ويترك القلق المرضي أثاراً ضارة على صحة الإنسان الجسدية والنفسية، حيث أنه يحدث تغيرات غير سارة يري العلماء أنها نتيجة للاستثارة الشديدة التي تحدث فيما يسمي بالجهاز العصبي السميناوي “الاستشاري” وهو أحد الأجهزة الرئيسية التي تنشط في مواقف الخطر والانفعال ويؤدي نشاطها إلى التأثير في الأعضاء المتصلة به، فتجحظ العيون أو تضيق، وتعرق الأيدي أو تبرد أطرافها، وتتزايد دقات القلب وتتسارع وتنقبض الأوعية الدموية، وتستثار بعض الغدد كالغدد الدمعية في حالات الحزن، ونجد في حالات القلق أن التغيرات العضوية تمتد لتشمل تسارع دقات القلب، جفاف الفم الدوخة، العرق الشديد الغصة وانحباس الصوت، وأحيانا الغثيان نتيجة لانقباض المعدة والتنميل في اليدين والقدمين، وصعوبات التنفس التي تكون إما على شكل العجز عن التنفس العميق أو التنفس السريع المتلاحق، كما يحدث القلق أيضا تغيرات عضوية عضلية، لعل من أهمها تصلب عضلات الظهر والرقبة والتصلب على امتداد عضلات الذراعين حتى أسفل الكتفين، وارتعاشات الأطراف والأصابع وزيادة اللوازم الحركية في الوجه بالذات في منطقة الفم والعينين نتيجة للتوتر العضلي الشديد، في هاتين المنطقتين، ولهذا نجد أن كثيرًا من المصابين بالقلق عادة ما يشكون من توترات العضلات والآم الظهر وتقلبات المعدة، وما يصحب ذلك من اضطرابات الهضم، كما يرتبط التعبير عن القلق بألآم الصدر وضيق التنفس، مما يجعل الشخص يشك في الأمراض القلبية بالرغم من سلامة القلب، إلا أن هناك من الأبحاث ما يؤكد على أن الأشخاص الذين يتسم سلوكهم بالقلق المستمر والشكوى عادة ما يتعرضون فيما بعد لأمراض قلبية حقيقية، وترتفع لديهم أيضا الحالات المرضية المرتبطة بارتفاع ضغط الدم وقرحة المعدة والبول السكري والربو واكزيما الجلد، وإذا تركنا أثر القلق علي الجسد الإنساني، إلى أثره علي الصحة النفسية للإنسان، نجد أنه يقود الإنسان إلى الانقباض الشديد وعدم الطمأنينة والتفكير الملح، وقد يصل الأمر إذا استفحل إلى ما يعرف بعصاب القلق، وهو يتمثل في الوسواس والخضوع لفكرة ملحة مثل فكرة الموت، أو المرض أو المخاوف المرضية أو العصاب القهري مثل غسل اليدين المبالغ فيه، وعصاب القلق مرض يعاني منه نحو 5% من أفراد المجتمع الأمريكي، ونجمل أثر ما يحدثه القلق على النفس والبدن في هذه الكلمات للعالم “بيرتون” الذي يقول “كثيرة الآثار المؤلمة التي يتركها القلق علي الإنسان بما في ذلك الشحوب أو احمرار البشرة والرجفة والعرق، وكثيرة آلام هؤلاء الذين يعيشون في خوف، أنهم لا يستطيعون أبداً أن يتحرروا، أو أن يشعروا بالأمان، عزائهم خاوية وألأمهم قاسية وحياتهم تخلو من البهجة، ولم أجد تعاسة أعظم ولا ألماً أطري، ولا عذاباً أقسي من العذاب الذي يحيونه(3).
العلاج الإسلامي للقلق
بداية نؤكد على حقيقة هامة، أن الإسلام حل أزمات الإنسان المعاصر حلاً كاملاً، سواءً كانت أزمات روحية و دينية و نفسية و خلفية واجتماعية، بما يضمن سعادة الإنسان ويحقق له الطمأنينة والاستقرار على أرض الواقع، ومن هذا المنطلق يهدينا الإسلام إلي الوسائل السليمة لاتقاء القلق، ويفرش لنا أرضاً صلبة نقف عليها بثبات وطمأنينة، وقد حدد لنا المولي سبحانه وتعالي الخطوات الرشيدة التي تحقق لنا سبل السعادة، وتدرا عنا أسباب القلق، ويمكن لنا أن نوجز العلاج الإسلامي للقلق فيما يلي:
– الالتجاء إلي الله والتوكل عليه سبحانه
وأول ما يقضي على القلق، ويجلب السعادة والأمن والاطمئنان للإنسان هو الالتجاء إلي الله والتوكل عليه، فالأيمان بالله الممتزج بالتقوى والعمل الصالح مع التحلي بالصبر والتواصي بالخلق الحميد والرضا بقضاء الله خيره وشره، يورث الإنسان بشاشة الروح، وحلاوة النفس، فتقوى الله والإيمان به سبحانه، مع التوكل الحقيقي عليه يزول عن الإنسان أسباب التوتر ويدفع عنه القلق، يقول ديل كار ينجي، صاحب أكبر مجموعة من مؤلفات علم النفس عن أثر الإيمان والالتجاء إلى الله في علاج القلق: “إن أطباء النفس يدركون، أن الإيمان القوي والاستمساك بالدين كفيلان بأن يقهرا القلق والتوتر العصبي، وأن يشفيا هذه الأمراض”(4)، ويقول الكيس كاريل، الحائز على جائزة نوبل في الطب والجراحة، حول أثر الإيمان والتوكل على الله على صحة الإنسان النفسية ” أن القلق والهموم يحدثان تغيرات عضوية، وأمراضاً حقيقية، وهي تضر بالصحة ضرراً بالغاً، وأن رجال الأعمال الذين لا يعرفون كيف يقون أنفسهم من الهموم يموتون في شرخ الشباب، ثم يتطرق إلى الذين يدينون بأحد الأديان ويصفهم بالبسطاء، ويقول كأن البسطاء يمكنهم أن يحسوا الله بنفس السهولة التي يحسون بها حرارة الشمس أو جود صديق، أن الذين لا يكافحون القلق يموتون مبكراً “(5) وكأنما الكسيس كاريل أراد هنا أن يصف الإيمان بالبساطة، لما يراه من سلوك المؤمنين من هدوء وسكينة وعدم المغالاة في حياتهم الدينية، وأن هذا الإيمان أو البساطة، كما يقول هي التي تدفع القلق.
– الصلاة
والصلاة عامل أساسي لوقاية الإنسان من القلق والتوتر ولنا في رسول الله صلي الله عليه وسلم، أعظم قدوة ونبراس فكان صلي الله عليه وسلم، إذا حزبه أمر هرع إلى الصلاة وقال لبلال رضي الله عنه ” أرحنا بها يا بلال ” ( رواه الطبراني في الكبير ) فالصلاة منبع السكينة وراحة القلب، ذلك أن الإنسان أثناءها، يمر بلحظات من الطهر والنقاء، لأنه يقف بين يدي الله يناجيه، فيسمع لشكواه وهمومه، فيزيل ما يسبب شكواه، كما أن إقامة الصلاة في وقتها تحقق للإنسان السعادة العالية والمتعة الراقية، التي تجعلنا نستهين بآلام الحياة ومتاعبها، ولكن على المسلم أن يؤدي الصلاة في خشوع، هذا الخشوع الذي دعى إليه الخالق عز وجل بقوله تعالي ” قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون ” (المؤمنون:2 ) هذه الصلاة الخاشعة التي تمد الإنسان بالطاقة الروحية وتوثق الصلة بالله عز وجل، وكثير من علماء النفس الغربيين، أصبحوا يعتبرون الصلاة، أهم أداة لبعث الطمأنينة في النفوس، ولكن أين هي من صلاة المسلم التي تقربه من الله، إذا ما أداها المسلم حقاً في خشوع وهدوء وسكينة ورضا وطمأنينة.
– ذكر الله اطمئنان
كما من الأمور التي تدفع أسباب القلق والتوتر، حرص المسلم علي ذكر الله سبحانه وتعالى، ذلك أنه إذا اطمأنت القلوب، وهدأت النفوس واستقرت زال عنها كل خوف وقلق، في حين أن الإنسان الذي يعرض عن ذكر الله هو قاسي القلب جاحد النعمة، بعيد عن الروحانيات، طغت عليه المادة، ولذلك فهو يعيش حياة شديدة القلق مليئة بالمنغصات.
– الدعاء
إذا كان بعض العلماء النفسيين في الغرب أمثال الدكتور “رورهلفروج” يقول “إن من الأدوية الشافية للقلق إفضاء الشاكي بمتاعبه، إلي شخص يثق فيه، حيث يتحدث المرضي عن متاعبهم بإسهاب وتفصيل، ينفي القلق من أذهانهم، فإن مجرد اجترار الشكوى فيه شفاء، وعلي هذا فإن الإفضاء بالمتاعب إلي شخص، أصبح من الوسائل العلاجية المعمول بها الآن، في كل المستشفيات النفسية والعصبية، كما ينصح الأطباء النفسيون باختيار الشخص الذي نفضي إليه، فليس كل شخص يمكن الإفضاء إليه، وإنما المهم الإحساس بأن هذا الشخص يسمع ويحس(6)، وقد يساور الإنسان الخوف أو القلق من الإنسان الذي يحكي له فيصيب نفسه بعض الشك الذي يجعله أشد قلقاً من قبل، ولكن اللجوء إلى الله بالدعاء وإفراغ المتاعب النفسية والهموم إليه سبحانه، يعد خير وسيلة للوقاية من القلق.
الهوامش:
- مجلة منار الإسلام، العدد الأول السنة 26، محرم 1421هجرية، إبريل 2000 ميلادية.
- القلق قيود من الوهم، د/ عبد الستار إبراهيم، الناشر دار الهلال بالقاهرة، ص 13
- المصدر السابق، ص 32
- الصلاة وصحة الإنسان، حلمي الخولي، سلسلة دراسات إسلامية، العدد 129، ص87
- المصدر السابق، ص 126
- الإسلام والعلم الحديث، د/ عبد الرزاق نوفل، ص 102