آلاف من الأناشيد الصوفية، وسهرات قوالية وحفلات صوفية بنبرة تعلو تارة وتنخفض أخرى، وصرخة تبدو فيها جمالية الموسيقى وجاذبية الألحان، بوجه بشوش، وبفم واسع الأشداق وبأنامل تتحرك على الطبلة يتغنى الأستاذ نصرت فتح علي خان، ليبعث في السامعين روح اللذة ومتعة السمع ويمضي بهم إلى سر الوجود الكامن، فمن هو نصرت فتح علي خان قيثارة القلوب وصناجة أردو.
أنشودة وزيادة
دراويش يجوبون الأرض يصدحون بحقائق اكتشفوها في رحلتهم إلى سر الوجود، فتلك أغنيات تختلف من الصور النمطية التي صكت آذاننا زمانا من الضجيج والرومانسية الجوفاء وإثارة الشهوات وإشعال فتائل النزوات الشيطانية، بل إنها تستمد ألحانها من العشق الإلهي الخالد، ومن حب الرسول الصافي ومناقب الأولياء السامية، ينسجون تلك الحبات في سبحة أغنية جميلة تناجي الأرواح وتحرك سواكن القلوب وتفجر من النفوس الهامدة ينابيع العشق والغرام، فحكايات قوالي تختلف كثيرا عن تلك الأناشيد التي نسمعها مع خلفية آهات ومؤثرات صوتية، وعن تلك الأغاني التي تهدئ أعصابك لفترة ثم تعيدها إلى سيرتها الأولى، فقوالي لها معنويات خاصة، ولغة خاصة، ونبرة خاصة، وألحان خاصة، لها ملكة قوية لجذب آذان الجمهور واستقطابهم واستيقافهم في محطات العشق، يمتزج فيها الحب والحزن، ويشوب به الألم والأمل في آن، يخاطب فيها المغني ربه، ويحاور الرسول ويقدم أمامه شكاياته وهمومه، بعيون تنطق وملامح تتلون، فلغة الجسد لها دور كبير في تفعيل هذه الأشكال الموسيقية الفذة، ويتميز هذا الفن بالانفعال الذي يثيره في أعماق النفس الإنسانية، حيث يتأثر المطرب ويصل إلى حالة وجدانية، يبدو فيها كمن انفصل عن هذا العالم.
لها تاريخ أصيل تعود جذوره إلى القرن الثالث عشر، إلى زمن الشاعر الصوفي الفيلسوف أمير خسرو الذي ولد لأب تركي وأم هندية، وهو الملقب ب”ببغاء الهند” وكذلك يعرف بأبو الأدب الأردي، وكان له مهارة قوية في الفارسية والسنسكرتية والهندية مما ساعده في مراحل حياته الصوفية كثيرا، ويعود إليه الفضل في ابتكار أنواع من الغناء متعددة الألوان الفنية والأساليب والتقنيات مثل القوالي والغزل والخيال والنقش، وكان من تلاميذ الصوفي المشهور الشيخ نظام الدين أولياء، وابتكر أمير خسرو هذا النمط الفريد الغنائي بمزج التقاليد الغنائية الفارسية والهندية والعربية والتركية لتصاغ منها فن جميل رائع اشتهر بعد بالقوالي المشتق من القول أو بتعبير آخر من “أقوال الرسول”.
اشتهر هذا الفن في الهند وباكستان وبنجلاديش وفي أفغان وتركيا أيضا، وفي أول أمره كانت تقام حفلات بجنب مقابر الأولياء المعروفة “بدرغاه” ثم انتشر وتلقى قبولا واسعا في الساحات العامة.
ويسمى القوالي أيضا بـ”سماع” لا سيما بعد أن تطور القوالي وانتشر بشكل واسع وأصبح ينافس الحفلات الغنائية الغربية، حتى بزغ في هذا الأفق مشاهير حصدوا جماهيرية واسعة أمثال سامي يوسف وماهر زين ممن لحنوا وشدوا أناشيد صوفية رائعة، ويلاحظ هنا أنه في مليبار جنوب الهند آثار واضحة لهذه الصور المعبرة عن العشق والفناء، وذلك أنه توجد هناك أناشيد كتبت في “عربي مليالم” التي تنم عن مدى حب المريدين لمشايخهم الصوفية، وجمالية هذه اللغة أنها تنطق في لغة مليالم وتخط في العربية، ابتكرها أهالي مليبار بعد أن كانت هناك تواصلات تجارية بينهم وبين العرب.
فمحتوى القوالي محبوك من الحمد والثناء والغزل ومناجاة المعشوق والحوار بين الشيخ والمريد، لكن بعبارات تنسج من خيالات سامية ومن مشاعر راقية هي أشبه بالمشروب الروحي أو كما يسميها القوالييون “ببترول العقول”، يبدأ قائد الجوقة بنبرة هادئة ثم تتدرج حتى تصل إلى قمتها فمن ثم تنخفض لتتسرب معانيه إلى القلوب المتحلقة حوله، ويرى شبه واضح بين ابتهالات الصوفية التي تقام في الدول العربية وبين هذه الأناشيد الصوفية إلا أنها تنشد في الفارسية أو الأردية أكثر.
فمن عباقرة القوالي إخوة صبري وآل علي خان، وعزيز ميان، وعبادة بروين المعروفة بملكة الترنم، وفي شمال الهند لها صدى كبير لا سيما في مناسبات الأفراح والعزاء، وفي حفلات العيد وسهرات رمضانية، والجميل في هذا الأمر أن هذه الأناشيد الصوفية لها قوة وجاذبية في زمن يسوده العنف والإرهاب، بل عملت كخيط الوصل بين الأديان والمعتقدات، ونجحت لحد كبير في ترسيخ مبادئ الإخاء والوفاء بين الفئات المتناحرة، وللطريقة الجشتية حظ كبير في نشر القوالي لا سيما في شبه القارة الهندية.
فمن أبرز الدراسات التي جرت حول نشأة قوالي وأبعاده كتاب للكاتب راجلا قريشي من سويسرا المسمى ب” الموسيقي الصوفي للهند وباكستان”، يناقش نقاشا حارا حول القوالي وتأثيره في المجتمعات الآسيوية.
نصرت فتح علي خان شاهنشاه قوالي
ولد عام 1948 م في فيضلاباد في محافظة بنجاب الباكستانية، في أسرة متواضعة لها صيت ذائع في محافل القوالي والسهرات الغنائية، وكان أبوه وأعمامه من أشهر القواليين في باكستان، إلا أن الأب لم يرغب في أن يتوارث نجله ذلك العبأ الثقيل الذي لم يقوم عمود فقر الأسرة الفقيرة، وخاف من أن يكون نجله ضحايا الفقر والفاقة لما شهد الوالد من حالات مزرية حتى في أوساط كبار القواليين آنذاك، لكن الولد نصرت فتح علي خان اتجه إلى إرثه الكبير ليعود بعد عراب القوالي ويشتهر في جنبات الدنيا بإمبراطور القوالي أو بتعبير آخر ” بشاهنشاه الأناشيد الصوفية.
فرحلة نصرت فتح علي إلى عرش القوالي مفعم بالجد والكفاح والصبر، فتلك هي نتيجة دربة ومرانة بلا هوادة، واجه في مسيرته عدة مشاكل وفي رأسها الفقر لكنه لم يستسلم وواصل مشواره بكل شجاعة، وتعلم مبادئ الموسيقى من أبيه فلما توفي أبوه عام 1964 م واصل تعليمه عند أعمامه المنشدين، وظهر في السن الخامس عشر مع أبيه في المحافل العامة، حتى شكلت أسرته جوقة وفرقة موسيقى، لتنظم بعد في أرجاء باكستان عدة سهرات وحفلات ليلية، وبعد رحيل عمه مبارك خان تولى قيادة فرقة الموسيقا، فمن هنا بدأت رحلة عملاق القوالي إلى عرش الأناشيد الصوفية.
وعزف نصرت فتح علي خان على عدة آلات موسيقيا من أهمها الطبلة وهارمونيم، ومسحت أنامله على تلك الآلات مسحة الأم على وليدها الجديد، وركز على الخيال، وهو لون من ألوان الموسيقي الهندوستاني الذي يهتم على النغمة أكثر من كلمات الأغاني، وكان أول ظهوره الإعلامي في إذاعة باكستان الرسمية حيث قدم جوقة عائلته عدة برنامج موسيقية مما مكن له لغزو قلوب عشاق القوالي، رحل إلى أكثر من أربعين دولة يقدم فيها سهرات وحفلات ليلية، وأخرج عدة ألبومات، وكان له صلة عميقة من أكابر موسيقار الغرب أمثال بيتار جبريايل، وبيل جام، وغيرهم.
فمن أهم الأناشيد القوالية التي أنشدها نصرت فتح علي خان تو كجا من كجا (أنت أين وأنا أين) النشيد الفارسي الذي كتبه شاعر الغزليات الباكستاني مظفر وارثي، وقد لاقت تلك الأغنية نجاحا واسعا في أرجاء العالم حتى في هذا العصر الحاضر كما أنشده المنشد الكبير الباكستاني شيراز أوبال بلحن جميل، وكذلك أغنية “رشك قمر” التي أصبحت حداء العاشقين ووردهم المحبوب.
وغزت ألحانه عالم بوليفود، وسمعت أصواته مرات في الشاشات الكبرى مما دلت على عبقرية المنشد الكبير وإرثه العظيم، كما في نشيد دم مست قلندر إلى جانب ما ظهرت بعد في عالم هوليوفيد أيضا، وكان متسامحا عن الذين يسرقون ألحانه ولم يعنف ولم يوبخ من اقتبس من أناشيده ورحب صدره لتلقي تلك المبادرات التي نبعت من الحب والحنان لشخصيته،
وقام برحلات عديدة يجوب الدنيا لملأ القلوب المنكسرة بكلمات الأمل والتفاءل، ولتبعث فيهم روح العزم والفناء بعيدا من ضجات الدنيا الصاخبة، فأقام عدة برامج رائعة في لندن ويابان ونيورك وغيرها من العواصم الكبرى.
الجوائز
حصل نصرت فتح علي خان على عدة جوائز وطنية ودولية من أهمهما جائز فوكواكا للثقافة عام 1996م، وجائزة يونيسكو عام 1995م، ورشح لمرتين لجائزة جرامي، وتوج بلقب “الأستاذ” بعد أن قدم محفلا غنائيا للموسيقي التقليدي في لاهور بمناسبة ذكرى وفاة والده.
رحل نصرت فتح علي خان عام 1997م بعد ثلاث عقود (1964-1997) من التعايش مع آلات الموسيقا والألحان والسماع، وبعد أن أثر في قلوب الملايين الذين يستمعون إلى أناشيده بآذان واعية وبقلوب صاغية حتى يومنا هذا، وبعد أن ملك القلوب عبر حفلات وأشرطة وآخرين ممن يحاكون تلك النبرة الصارخة الجميلة، وبعد أن ترك وشائج المحبة والتسامح بين الجارتين المتشاكستين الهند وباكستان لتنجح أغانيه التي تخرج بأصوات شجية أكثر من أي دبلوماسي في إذابة المشاكل بين الدولتين.